ترجمة وتحرير: نون بوست
في حادثة مخزية وقعت في منطقة جيدز بولاية إزمير التركية، أجبر ركاب حافلة ثلاث نساء سوريات وأولادهن على النزول من الحافلة إلى جانب شتمهم وإطلاق صيحات استهجان وقول عبارات من قبيل “اذهبوا إلى بلادكم”ـ ليتركوا النساء المسكينات على قارعة الطريق. منذ أن شاهدت لقطات هذا الحادث المخزي، لم أتوقف عن التساؤل: “هل يمكننا العيش مع هؤلاء المرضى؟”، وهذا السؤال يدور في ذهني مثل شوكة سامة.
الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يمكنه الوصول إلى أقصى درجات الخير والشر، فيكون تارةً شيطانًا لا حدود له في العنف والشر، وتارةً أخرى ملاكًا لا حدود له في الخير. وهذا يعتمد على إرادة الإنسان وإيمانه.
بناء علاقة مع الآخر من خلال الأصل الوجودي
يمكن تلخيص ما نراه الآن في كلمة واحدة وهي “الفاشية”، وهي سمة شيطانية بامتياز. وكما هو معلوم، أجرى إبليس مقارنة جوهرية بينه وبين آدم مما دفعه إلى الاعتقاد بتفوقه على الخلق بسبب طبيعته الخاصة، وهذا الاعتقاد أدى إلى طرده من الرحمة. وأي رمز أيديولوجي يقوم على بناء العلاقة بين الذات والآخر عبر الأصل الوجودي يحمل في طياته أثر هذه الفاشية الشيطانية.
برزت مؤخرًا محاولات نشر هذا الفكر بشكل استفزازي خصوصًا عبر وسائل التواصل الاجتماعي وبدعم من بعض الجهات السياسية، وقد نجحوا في هذا الأمر لأنه تعيش بيننا فئة شديدة الحقد على الأجانب أو الآخرين. إذن، كيف تشكّلت هذه الفئة؟ إذا لم نقم بتشخيص حالة هذه الفئة التي تعيش في حالة من الصدمة الاجتماعية بشكل صحيح، فلن نستطيع تحديد الإجراءات التي يجب اتخاذها لعلاجهم أو للتصدي لشرورهم.
عادات الجاهليّة
أكثر وسيلة فعّالة للتخلص من فكرة تقدير القيم على أساس العرق هي الإخوة الدينية، أو فكرة الأمة. في يوم من الأيام، نشب جدل بين الصحابة أبو ذر وبلال الحبشي، حيث قال له أبو ذر كلامًا يعني “ماذا تعرف أنت يا ابن السوداء”، وقد علِم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بذلك فقال النبي لأبي ذر “يا أبا ذر، إنك امرؤ فيكَ جاهلِيَة”. وعلى إثر ذلك، توجه أبو ذر مباشرة إلى منزل بلال ليسترضيه، ووضع رأسه على عتبة بابه قائلاً: “ﻭﺍﻟﻠﻪ ﻳﺎ ﺑﻼﻝ ﻻ أﺭﻓﻊ ﺧﺪﻱ ﻋﻦ ﺍﻟﺘﺮﺍﺏ ﺣﺘﻰ ﺗﻄﺄﻩ ﺑﺮﺟﻠﻚ، ﺃﻧﺖ ﺍﻟﻜﺮﻳﻢ ﻭﺃﻧﺎ ﺍﻟﻤﻬﺎﻥ”، ﻓﺄﺧﺬ ﺑﻼﻝ ﻳﺒﻜﻲ ﻭاﻗﺘﺮﺏ ﻭﻗﺒﻞ ﺫﻟﻚ ﺍﻟﺨﺪ ثمَّ قاما وتعانقا وتباكيا.
العبرة من هذه القصة أنه يجب على المؤمنين أن يجتمعوا على أرضية الأخوة المشتركة، حتى لو لم يكن “الأخ” الذي نسميه على علم بذلك. لا حاجة للكلام كثيرًا، ذلك أن المبدأ الأساسي في دين الإسلام هو أنه لا فضل لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي إلا بالتقوى.
ضمن خطاب له أمس، معلّقًا على العنصرية المتزايدة مؤخرًا في البلاد.. الرئيس التركي رجب طيب #أردوغان يتوعّد مثيري الفتن والمحرضين على كراهية الأجانب بقطع الطريق عليهم pic.twitter.com/MhVBLdp38B
— نون بوست (@NoonPost) September 15, 2023
كيف يمكن علاج هؤلاء الأشخاص الذين ينظرون إلى العالم من هذه الزاوية فقط؟ يكمن الحل في القانون، وتحديدًا العقوبات الجزائية. لسوء الحظ، لا يوجد في بلدنا أي قانون يجرمّ “جرائم الكراهية” ما يعني أنه يمكن للمتعصبين الفاشيين المحرضين فعل ما يحلو لهم حتى إن كان ذلك يعني دفع المجتمع إلى الهاوية بنشر الكراهية تحت ستار هوية سياسية وشرعية.
لا شك أن الهدف الحقيقي لمن يحرّضون على كراهية المهاجرين السوريين اليوم هو معاداة الإسلام وكراهية المسلمين. بالتأكيد، هؤلاء لا يشعرون بالانزعاج الشديد تجاه الروس أو البلقان أو الأوكرانيين أو الألمان أو الإسكندنافيين أو حتى الأكراد الذين في وقت كنا نكافح فيه وباء حزب العمال الكردستاني.
الحاجة إلى مساحة مادية للشر
حتى وقت قريب، لم نكن نمتلك أي حدود سياسية أو اجتماعية مع سوريا، وكانت أفغانستان أيضًا أكبر داعم لنا في حرب الاستقلال التي يقدسونها بحماس. لكن اليوم، بات أكبر متلقٍ لعبارة “لا أريدك في بلدي” هما هذان الشعبان. وهذا البلد وأي بلد آخر ليس ملكًا للفاشيين والمحرضين الذين يجبرون النساء السوريات على النزول من الحافلة. ليس لديهم بلد، إنهم بحاجة فقط إلى مكان مادي للشر. ليس لدى الشيطان موطن، بل يظهر حيث يمكنه فعل الشر.
من يريدون فصلنا عن ماضينا مع سوريا، وعلاقاتنا الأخوية مع أفغانستان، وايماننا الذي يأمرنا بمد يد العون إلى المظلومين، هدفهم بناء أمة جديدة وهذا المشروع يصاحبه دائما نشر دين جديد. هؤلاء لا يعرفوا حدودًا لعدائهم ولا شك أننا سنرى ما هو أسوأ. ولهذا السبب، لابد من سنّ “قانون مكافحة التمييز وجرائم الكراهية” الذي ذكرته أعلاه، ويجب أن يكون أحد المبادئ الأساسية التي تشكل روح الدستور. لكن هذا النظام السياسي الذي يشجّع على التحريض ضد التنوّع في المجتمع ويعتبر الأقليات غير مرغوب فيها لم ولن يوفر لنا السلام.
ما نحتاجه الآن هو نظام يشجع العيش المشترك والتعددية في الأناضول، لأن الإرادة التأسيسية في البلاد قد تغيرت. وهذا التغيير السياسي والاجتماعي يجب أن يتم وفق ما يقتضيه الدستور، وإلا فلن تتمكن الحكومة من تحمّل عبء ذلك. ويجب على الحكومة اتخاذ هذه الخطوة لضمان شرعية الفاعل الجديد الذي انضم إلى السياسة المدنية، وأيضًا لتهدئة هذه الأقلية الشرسة التي تعاني من صدمة فقدان السلطة. لن تتوقف تجاوزاتهم حتى يتم ضمان حرية الدين والضمير في البلاد وحماية القيم المقدسة. بعد تحقيق ذلك، سوف يدركون هذه الحقيقة وسيحددون مسارهم وفقًا لذلك.
يجب إعادة تأهيلهم
بعد أن استقرت حكومة حزب العدالة والتنمية على أسس صلبة، يعاني أولئك الذين آمنوا بفكرة القومية التي كانت الأيديولوجية التأسيسية لتركيا القديمة من متلازمة الإرهاق. قد يقول البعض بشكل شخصي “دعهم، فليصبحوا أسوأ”، ولكن يجب على الإدارة العامة عدم التعامل مع هذه المسألة بمشاعر شخصية. يجب الإعلان عن برنامج تأهيل فوري لهؤلاء، وإلا فإننا سنواجه خطرًا كبيرًا يؤدي إلى إفساد المجتمع.
في عملية إعادة التأهيل، يقع أكبر عبء على الحكومة والقوميين. يجب على القوميين الأتراك بشكل خاص عدم السماح لهذه الحالة العقلية المريضة بالاختباء وراء أسمائهم. في ولاية شانلي أورفا، التي تعيش فيها قبائل مختلفة تمامًا من حيث الثقافة واللغة والعمارة وبنية الأسرة ونغمات الموسيقى وحتى أغطية الرأس، فإن أشهر السياسيين القوميين الأتراك هم من عرب شانلي أورفا.
لا تصدّقوا التحليلات التي تنسب هذا التعصب والصدمة إلى سياسات الحكومة المتعلقة بالهجرة أو الاقتصاد، فالهدف الرئيسي هو تعزيز أركان التضامن الاجتماعي. يجب التركيز على العوامل الموحدة التي تعزز التماسك الاجتماعي في مجتمعاتنا المتنوعة، وتقليل عوامل التقسيم قدر الإمكان.
المجتمعات التي لا تتحمل الاختلافات محكوم عليها بالانهيار والتفكك، خاصة إذا كان هناك سياسة استيعاب بارزة تستند إلى أيديولوجية تافهة قائمة على القوة والقسوة والهمجية والتلفيق والأفكار البدائية. وهذا ليس محض استنتاج خاص، بل يشهد التاريخ الاجتماعي على ذلك، وكذلك تاريخنا الخاص.
تذكروا كيف فقدنا سوريا. تذكروا نور الدين باشا وحريق إزمير في سنة 1922… ليس من الصعب على المؤرخين إيجاد صلة بين طريقة قمع تمرد كوتشجيري ومؤامرات الجبهة العراقية وفصل سوريا فلذة كبدنا. انفصل جزء كبير من شعوب المنطقة العربية عن الإمبراطورية العثمانية بسبب السلوك الفاشي للاتحاديين المتآمرين والإعدامات الداخلية خلال الحرب العالمية الأولى. ورواية أن “العرب طعنونا في ظهورنا” هي قصة تم إنشاؤها للتلاعب بهذا الواقع، حيث تضم مقبرة جناق قلعة عددا من سكان حلب يعادل عدد سكان إزمير.
أولئك الذين ليس لديهم الشجاعة أو الفكر لمعارضة المجتمع المسلم والدين الإسلامي علانية، يفعلون ذلك من خلال “كراهية العرب”
من الواضح أن المشهد الذي رأيناه في الجملة السابقة، والعديد من المواقف والسلوكيات الأخرى التي تتضمن كراهية “الآخرين” والتي تثير الإحراج، لا تعكس حالة مزاجية طبيعية، لذلك يجب علاجها والسيطرة عليها بموجب القانون على الفور. لكن هذه الحالة المرضية لا تشبه العيوب الجسدية، ولا يمكن علاجها بسهولة للأسف نظرا لأن عدة عوامل مسؤولة عن تكوّنها وأولها الأيديولوجيا التي يمتلكها الشخص، التي تجعله يعتقد أنه يمتلك الحقيقة الوحيدة في العالم.
إنهم يثقون في أيديولوجيتهم لدرجة أنهم لا يصدقون أبدًا أن تفكيرًا آخر يمكن أن يحظى بالاحترام في المجتمع ولا يقبلونه. هذا هو السبب في أنهم لا يستطيعون العثور على إجابة لسؤال “كيف يصوت الناس للمحافظين؟”.
هذا الفكر فاشي ويساري في نفس الوقت، وقومي ولكنه منبهر بالغرب، مناهض للإمبريالية ولكنه أوروبي في آن، وهو راضٍ عن نفسه لكنه يكره الجغرافيا والثقافة التي ينتمي إليها، وهو موجود منذ سنة 1830 ويسبب صدمة تزداد سوءًا يومًا بعد يوم.
لا أحد يجب أن يدعي أن هؤلاء المرضى العقليين الحاقدين لديهم حساسية وطنية تجاه البلد. الحساسية الوطنية هي مجرد قناع. هل كان من الممكن حدوث مثل هذا السلوك المخزي لو كانت تلك النساء غير محجبات، أو شقراوات، أو من فنلندا مثلا أو يتحدثن الإنجليزية فيما بينهن بدلاً من العربية؟ لو حدث ذلك، كيف كانت ستكون ردود الفعل؟
إنهم يحاولون الانتقام من السلطة المحافظة التي لم يتمكنوا من هزيمتها في الانتخابات من خلال اللاجئين المظلومين. في الواقع، كراهية هؤلاء السوريين المظلومين والحقد عليهم هو في الأساس كراهية للنساء المحجبات في مجتمعنا. إن غضبهم الحقيقي من التيار المحافظ الحاكم والحجاب.
باختصار، أولئك الذين ليس لديهم الشجاعة أو الفكر لمعارضة المجتمع المسلم والدين الإسلامي علانية، يفعلون ذلك من خلال “كراهية العرب”، لقد اتخذوا الفاشية، وهي موقف شيطاني، كدرع لهم. ونحن نعلم أن الفاشية تسمم نبع العيش المشترك.
المصدر: ستار