جاءت زيارة وزير الخارجية السعودي عادل الجبير، لدولة العراق، أمس السبت، والتي التقى خلالها نظيره العراقي إبراهيم الجعفري، ورئيس الوزراء حيدر العبادي، ورئيس الجمهورية فؤاد معصوم، لتفتح باب التكهنات نحو صفحة جديدة في العلاقات بين البلدين بعد توتر وصل في كثير من مراحله إلى حد القطيعة.
الزيارة التي تعد الأولى لوزير خارجية سعودي منذ 14 عامًا ألقت بظلالها على مائدة الحوار السياسي بين البلدين، كما أنها فرضت العديد من التساؤلات عن الأهداف التي تنشدها الرياض من وراء تلك الزيارة غير المعلنة بصورة رسمية، وكيف استقبلت بغداد هذه الخطوة التي وصفها البعض بـ”المبادرة” نحو تحسين العلاقات بين الطرفين، إضافة إلى البُعد الإيراني الذي لا يمكن الحديث عن هذه الزيارة بمعزل عنه.. فهل ينجح الجبير في مهمته؟
14 عامًا من التوتر
شهدت العلاقات بين السعودية والعراق موجات من الصدام والتوتر عقب الحرب الأمريكية على العراق في 2003، وصلت إلى القطيعة الدبلوماسية بين البلدين، لا سيما في عهد رئيس الوزراء العراقي الأسبق نوري المالكي، والذي وجه العديد من الاتهامات للرياض بدعمها للإرهاب ومحاولة إثارة الخلافات الطائفية في العراق، وهو ما ردت عليه الخارجية السعودية بأن تهميش المالكي للسنة هو السبب الرئيسي لتفشي الإرهاب والتطرف وانتشار التنظيمات الإرهابية المسلحة.
وعقب تولي حيدر العبادي رئاسة الوزراء، شاب العلاقات بين بغداد والرياض بعض التحسن، وذلك على خلفية إعلان العبادي استعداده فتح صفحة جديدة في العلاقات مع السعودية، وطي سنوات التوتر الماضية، وهو ما كان بالفعل، حيث بادر بإرسال برقية تعزية للعائلة المالكة في الرياض في وفاة الملك عبد الله بن عبد العزيز، أعقبها إعلان المملكة فتح سفارة لها في بغداد وذلك في ديسمبر 2015، ليصبح ثامر السبهان أول سفير سعودي لدى العراق بعد الحرب الأمريكية.
لكن تصريحات السبهان منذ قيادته للبعثة السعودية في بغداد أثارت حفيظة الخارجية والحكومة العراقية بصورة كبيرة، لا سيما التي انتقد فيها قوات الحشد الشعبي ودورها في المعارك التي تخوضها القوات العراقية ضد “داعش”
أزمة السبهان
استبشر الجميع خيرًا عند تعيين سفير سعودي جديد لدى بغداد بعد ربع قرن من إغلاق السفارة السعودية في العراق إثر غزو القوات العراقية للكويت عام 1990، حيث اعتبرها البعض نهاية لعقود التوتر وصفحة جديدة في مستقبل العلاقات بين البلدين.
لكن تصريحات السبهان منذ قيادته للبعثة السعودية في بغداد أثارت حفيظة الخارجية والحكومة العراقية بصورة كبيرة، لا سيما التي انتقد فيها قوات الحشد الشعبي ودورها في المعارك التي تخوضها القوات العراقية ضد مسلحي تنظيم الدولة الإسلامية “داعش”، فضلاً عما وصفه حينها “بالتدخل الإيراني في الشؤون العراقية واضطهاد السنة”، وهو ما تسبب في أزمة بين الرياض وبغداد، دفعت الأخيرة إلى المطالبة بمغادرته وضرورة تغييره.
ومنذ مغادرة السبهان الأراضي العراقية وتحيا العلاقات بين الرياض وبغداد بمزيد من التوتر جراء التراشق السياسي والإعلامي ما بين هنا وهناك، وعبر الفضاء المفتوح على مواقع التواصل الاجتماعي، مما تسبب في تفاقم الأزمة، إلا أن العديد من المستجدات الإقليمية فرضت نفسها خلال الآونة الأخيرة لتدفع السعودية إلى إعادة النظر في موقفها من الطلب العراقي بتغيير السبهان وضرورة فتح صفحة جديدة في العلاقات بين الطرفين.
ثامر السبهان السفير السعودي الأسبق لدى بغداد
لماذا الآن؟
العديد من المستجدات الإقليمية والدولية التي فرضت نفسها مؤخرًا دفعت العديد من الدول إلى إعادة النظر في التوجهات الخارجية لها، كما أنها أجبرت بعض العواصم على قبول خيارات ما كانت لتقبلها في الظروف العادية، في ضوء التماشي مع ما تقتضيه المصلحة العليا للدول والتي تتجاوز في طريقها كل المصالح الشخصية.
وبالعودة قليلاً إلى المشهد العراقي خلال الأعوام القليلة الماضية يلاحظ أن الدور الإقليمي العراقي تنامى بشكل ملحوظ، حيث فرضت بغداد نفسها كأحد اللاعبين في المشهد السوري من خلال المشاركة في بعض العمليات العسكرية ضد “داعش” بدعم أمريكي روسي إيراني بعد سنوات من الخروج عن حلبة الصراع السوري.
ثم جاء التقدم الميداني العراقي ضد التنظيمات المسلحة لا سيما تنظيم الدولة الإسلامية واستعادة العديد من المدن العراقية التي كانت واقعة تحت سيطرة وهيمنة هذه التنظيمات وأبرزها “الموصل” وطرد عناصر “داعش” خارج الأراضي العراقية، ليلقي الضوء مجددًا على الدور العراقي إقليميًا وقدرته في أن يكون أحد اللاعبين على الساحة.
أضف إلى ذلك التوغل الإيراني داخل الشأن العراقي، وسيطرة طهران على القرار الرسمي والتوجهات الخارجية لبغداد، كان له دور مؤثر في إعادة نظرة السعودية للعراق كدولة محورية مجاورة، تخضع لسيطرة شبه كاملة لقوات الحشد الشعبي الشيعية، وهو ما كان له أبلغ الأثر في ضرورة التحرك الفوري، ومن ثم جاءت زيارة وزير الخارجية السعودي عادل الجبير، غير المعلنة، لبغداد.
بالعودة قليلاً إلى المشهد العراقي خلال الأعوام القليلة الماضية يلاحظ أن الدور الإقليمي العراقي تنامى بشكل ملحوظ، حيث فرضت بغداد نفسها كأحد اللاعبين في المشهد السوري
تنسيق مسبق
على الرغم مما نشرته وكالات الأنباء المختلفة بشأن سرية هذه الزيارة، وغياب التنسيق فيما بين الجانبين، السعودي والعراقي، وأنها جاءت بصورة مفاجئة، إلا أن الخارجية العراقية أكدت على وجود اتصالات سبقت هذه الزيارة، وأنها كانت بعلم القيادة العراقية منذ فترة.
الخارجية العراقية على لسان المتحدث باسمها أحمد جمال، أشارت إلى وجود اتصالات مستمرة مع الجانب السعودي وخصوصًا في الفترة التي تلت طلب العراق استبدال السفير السبهان، كما أن هناك العديد من اللقاءات التي عقدت بين وزيري خارجية البلدين على هامش عدد من المؤتمرات الدولية.
وعما أثير بشأن سرية الزيارة، أوضح المتحدث باسم الخارجية العراقية أن الجانب السعودي طلب عدم إعلان الزيارة حتى تتم، مضيفًا: “واحترمنا هذه الرغبة”، كما أشار إلى أن هذه الزيارة هي الأولى لوزير خارجية سعودي بعد 2003، وقد تم التطرق فيها لإعادة تفعيل العلاقات الثنائية بين البلدين والعمل على فتح منفذ جميمة الحدودي وتفعيل الطيران المدني من خلال جسر جوي مباشر إضافة إلى قرب إعلان السعودية تسمية سفيرها الجديد في العراق، مختتمًا حديثه قائلاً: “الزيارة كانت إيجابية جدًا وأعتقد أنها ستعطي زخمًا إيجابيًا لفتح صفحة علاقات جديدة مع السعودية وهذا ما نأمله”.
المتحدث باسم الخارجية العراقية: الجانب السعودي طلب منا عدم إعلان الزيارة حتى تتم، واحترمنا هذه الرغبة
ما الهدف؟
“إن الرياض مستعدة للمساعدة في التغلب على الانقسام الطائفي في العراق” بهذه الكلمات استهل الجبير تصريحاته للصحفيين عقب اجتماعه بوزير الخارجية العراقي إبراهيم الجعفري، مؤكدًا أن “المملكة تقف على مسافة واحدة من المكونات العراقية وتدعم وحدة واستقرار العراق”.
تصريحات الجبير تعد تطورًا نوعيًا في الموقف السعودي تجاه العراق، وهو ما دفع البعض إلى القول إن هناك نية جادة لدى الرياض في فتح صفحة جديدة في العلاقات مع بغداد، خاصة بعد النجاحات التي حققتها الأخيرة على مستوى محاربة الإرهاب أو تنامي دورها الإقليمي في بعض الملفات ومنها الملف السوري.
- موازنة الجانب الإيراني
فريق ذهب إلى أن الزيارة تستهدف في المقام الأول موازنة الدور الإيراني داخل العراق، خاصة بعد توغله في شتى مجالات الحياة هناك، وهو ما أكد عليه الدكتور أحمد يونس أستاذ العلاقات الدولية بجامعة بغداد، والذي قال في تصريحات له: “زيارة وزير الخارجية السعودي هي محاولة لإذابة الجليد مع العراق، من أجل موازنة الجانب الإيراني وإقناع العراق بأنه من الممكن أن يكون له دور فعال ضمن المحيط العربي”.
جدير بالذكر أن قدرة العراق على استعادة الموصل من قبضة التنظيمات المسلحة كان بمساعدة إيرانية في المقام الأول، وذلك عن طريق قوات الحشد الشعبي الموالية لطهران، فضلاً عن خضوع الكثير من صناع القرار داخل المطبخ العراقي للتوجه الإيراني.
- طمأنة السنة العراقيين
فريق آخر أشار إلى أن الزيارة كما أنها تأتي في إطار موازنة الجانب الإيراني فإنها تعد رسالة طمأنة واضحة للسنة العراقيين، والتأكيد على أن دعم السعودية لهم مستمر ولن ينقطع رغم التوتر الذي تشهده العلاقات مع بغداد.
الرسالة الموجهة للسنة في العراق جاءت عقب ما تردد بشأن تعرضهم للتنكيل والتعذيب والطرد من بعض المدن التي سيطرت عليها قوات الحشد الشعبي بعد تحريرها من قبضة التظيمات المسلحة، لا سيما في الموصل، مما تسبب في بث الرعب والقلق في نفوس السنة هناك دفع كثيرًا منهم إلى الهروب.
- تحييد العراق
الفريق الثالث ذهب في تفسيره للدوافع السياسة وراء زيارة الجبير، إلى رغبة الرياض ضمان عدم تورط بغداد في أي تحالف سياسي – لا سيما مع إيران – يتعارض والمصالح السعودية، وذلك من خلال العمل على إبقاء العراق على الحياد من سياسة المحاور والاستقطاب.
مساعي الرياض لضمان تحييد العراق جاءت بعد نجاح طهران في إعادة العراق من جديد للمشهد الإقليمي من خلال دعم مشاركته في سوريا، وهو ما يتعارض مع التوجهات السعودية هناك.
ومحاولة لتحقيق ما سبق، أبدى وزير الخارجية السعودي استعداد بلاده التفكير في تغيير سفير المملكة لدى بغداد، ومحاولة تسمية سفير آخر، حسبما طلب الجانب العراقي، في خطوة اعتبرها البعض “مبادرة تصالح” تقدمها السعودية بغية فتح صفحة جديدة مع الأشقاء في بغداد.
قوات الحشد الشعبي الموالية لإيران في العراق
تباين في ردود الفعل
أثارت زيارة الجبير للعراق أمس ردود فعل متباينة، ما بين من يرى أنها خطوة مرحب بها على طريق تحسين العلاقات بين البلدين، ومن يراها برؤية يشوبها الحذر ولا بد للرياض من تقديم ما يثبت حسن نواياها.
فمن جانب اعتبر عضو لجنة الأمن والدفاع النيابية العراقي عمار طعمة، أن الزيارة فاتحة خير لتوطيد العلاقات بين العراق والسعودية من الناحية الأمنية، كما أنها خطوة في الاتجاه الصحيح، مضيفًا “أن التجارب السابقة أثبتت أن القطيعة والانكفاء وعدم التواصل، يزيد من الاحتقان والمناكفة السياسية ويشتت جهود البلدين في مواقع ومواضع تحتاج إلى التوحيد تجاه تحديات ومخاطر مشتركة”، بحسب تعبيره.
طعمة في حديث لقناة NRT عربية أمس، أعرب عن اعتقاده بأن “الزيارة خطوة وفاتحة يمكن أن تعبد الطريق لتطبيع العلاقات وزيادة أواصر العلاقة بين البلدين”، مضيفًا “هذه الخطوة حقيقة بحاجة لخطوات أخرى مكملة وبحاجة لحوارات مباشرة صريحة، بعيدة عن الإعلام، تقف على أسباب ومناشيء التوتر وتهيئ أجواء الثقة بين البلدين”.
عمار طعمة: التجارب السابقة أثبتت أن القطيعة والانكفاء وعدم التواصل، يزيد من الاحتقان والمناكفة السياسية ويشتت جهود البلدين في مواقع ومواضع تحتاج إلى التوحيد تجاه تحديات ومخاطر مشتركة
وفي المقابل طالبت النائب عن ائتلاف دولة القانون فردوس العوادي، السعودية بإرسال أسماء الإرهابيين الذي قالت عنهم إنهم ينطلقون من أراضيها، فيما دعت إلى الإفراج عن حاج عراقي اعتقل في موسم الحج الماضي دون معرفة الأسباب.
وقالت العوادي، في بيان لها عقب الزيارة: “بالوقت الذي نتمنى أن تسود العلاقات الأخوية مع الدول العربية نتساءل عن زيارة وزير الخارجية السعودي للعراق هل تدل على حسن نوايا وندم على ما مضى، ونتمنى في الوقت نفسه أن تدرك السعودية أن لا جدوى من سياستها السابقة التي راح ضحيتها آلاف من العراقيين ونتأمل أن تتخلى عن التعامل مع العراق على أساس طائفي، لأنه لن يجدي نفعًا ويجر المنطقة إلى الحروب وإذكاء الضغائن”.
ماذا عن أمريكا؟
البعض ربط بين زيارة الجبير للعراق وتوجهات الرئيس الأمريكي الجديد دونالد ترامب، في إشارة واضحة أن الزيارة جاءت بدعم وموافقة وتنسيق أمريكي في ظل مساعي واشنطن البحث لها عن دور في المنطقة بعد التراجع الملحوظ الذي شهدته في العامين الماضيين.
القيادي في الحزب الديمقراطي الكردستاني هوشيار زيباري، وصف زيارة وزير الخارجية السعودي عادل الجبير إلى بغداد بأنها “خطوة ممتازة” لتطبيع العلاقات بين البلدين
وكتب زيباري على مواقع التواصل الاجتماعي، أن زيارة الجبير إلى بغداد خطوة ممتازة لتطبيع العلاقات بين العراق والسعودية، لكنه أعقبها بعبارة: “شكرًا لأصدقائنا الأمريكيين”، في إشارة إلى أن زيارة الجبير للعراق تأتي بدعم ومباركة من الولايات المتحدة.
Today's visit to Baghdad by KSA Fm Adil Jubier is an excellent move to normalize Iraq – Saudi relations .Thanks to our American friends.
— Hoshyar Zebari (@HoshyarZebari) February 25, 2017
مما سبق يتضح أن هناك تغير واضح في السياسة الخارجية السعودية حيال دور الجوار، فرضته المستجدات الإقليمية والدولية الأخيرة، لا سيما العثرات التي تواجهها الرياض في اليمن وسوريا، فضلاً عن تنامي الدور الإيراني في المنطقة، ويبقى نجاح السعودية في استئناس الشقيقة العراق متعلقًا بمدى جديتها في توجهاتها الجديدة من جانب، وقدرة بغداد على الإنسلاخ ولو تدريجيًا من الهيمنة الإيرانية.