في المسلكية الإخوانية.. “البيضة ولا الفرخة”؟

ikhwantnoon1

خلال تاريخها الممتد لما يربو من الـ90 عامًا، تعرضت جماعة الإخوان المسلمين لتحولات منهجية عميقة، مست صميم أطروحاتها الفكرية والحركية، تلك التحولات التي مرت بها الجماعة اتسمت بسمة مميزة في كونها تحولات فكرية (لاحقة) للتحرك السياسي/ الاجتماعي للجماعة، أي كانت ناتجة للحركة، غير منشئة لها، نظرًا لطبيعة المسلكية الإخوانية – إن صح التعبير – في التعاطي مع السياقات السياسية/ الاجتماعية/ الاقتصادية لكل من المجتمع والدولة على السواء.

دومًا ما اعتادت الجماعة على الجمع بين متناقضات الموقف العقدي/ الأيدلوجي الصلب والموقف السياسي/ التنظيمي المتماهي مع المصلحة السياسية/ التنظيمية، استنادًا لمنظومة مصوغات وجهاز تبريري ضخم تحت مسمى “فقه المقاصد” و”مصلحة الجماعة” عكازي قيادات الجماعة التاريخية، فهي وحدها – أي القيادات التاريخية – القادرة على تعريف المقصد وتحديد المصلحة لما لها من خبرة ورصيد من التضحيات الغابرة منذ زمن المحنة الأولى!

بعد استشهاد البنا اكتفت الجماعة برصيده التنظيري القليل المتمثل في رسائله، ولم تقدم طرحًا فكريًا يوازي ذلك الطرح الذي خلفه الإصلاحيون الرواد قبل البنا

الإشكالية الأساسية في مسلكية الجماعة تلك في أنها تؤدي بالنهاية لتحول منهجي (غير مقصود) يخضع لمصلحة سياسية كان لها وجاهتها في فترة ما، ولم تكن أصلًا منهجيًا للجماعة، فتحل المصلحة المتغيرة محل المنهج الثابت، وتدور الجماعة حول “المصلحة” لا “الغاية” من وجود الجماعة ابتداءً.

من مركزية الوحي إلى مركزية السلطة ثم مركزية الغرب

تخضع كل الحركات الاجتماعية، على تفاوت مرجعياتها الفكرية إلى تلك السيرورة/ الجبرية التاريخية، حيث تخط ميلادها الأول في جو أيدلوجي صلب ومتوهج حول الفكرة المركزية للأيدلوجيا قريبةً بأقصى ما يمكن لمركز الميتا-أيدلوجي – المتمثل في حالة الحركات الإسلامية في الوحي الخالص من الكتاب والسنة -، مبتعدةً بأقصى حد عن تماهيات السياسة ومعطيات الواقع، ثم مع الوقت بعدما تتمثل في تنظيم حركي يتحرك حاملًا مصالحه السياسية والاقتصادية والاجتماعية تجبره على التعامل بشكل واقعي مع السلطة التي كانت تمثل في المرحلة الجنينة الأولى، وفي لحظة النقاء العقدي الأولى – إن صح التعبير – عدوًا لدودًا لا يمكن التفاهم معه، فتحاول بقدر المستطاع الجمع بين خطابين، خطاب داخلي أيدلوجي صلب يلبي تطلعات الأنصار، وخطاب خارجي سياسي متماهي مع مصلحة التنظيم، متوافق مع الدولة في كثير من الأحيان.

وبالنهاية يدور التنظيم في فلك السلطة، الذي هو بالأساس يدور في مدار الغرب بكل تجليات نظرياته العلمانية، وبالتالي تكون المحصلة: دوران التنظيم حول مركز الغرب، خاصةً إذا ما كان للتنظيم امتدادات إقليمية ودولية كالإخوان المسلمين.

إذا ما فهمنا تلك السيرورة الاجتماعية نستطيع أن نتفهم كثيرًا من تحولات الجماعة المنهجية خلال تاريخها الطويل منذ تأسيسها الأول (1928:1949) أي منذ تأسيسها وحتى استشهاد الإمام البنا، لما كانت أقرب ما يكون لفكرتها الأيدلوجية المستلهمة من القرآن والسنة بشكل مباشر، مكتفيًا البنا بشكل كبير بقراءة الإصلاحيين الرواد الأفغاني وعبده ورشيد رضا، والتي كانت تحتاج من ينقلها من حيز المثقفين إلى فضاء الأمة.

لم تستطع الجماعة – نظرًا لطبيعة نشأتها الحركية المقدمة على همها التنظيري – أن تستوعب كل الكوادر الفكرية التي تفكر خارج إطار تنظيمها الضيق

ثم بعد محنة عبد الناصر التي سحقت التنظيم بشكل شبه تام، وبعد انقسامات كثيرة مشابهة لما حدث بعد الأزمة الداخلية الأخيرة للجماعة بعد انقلاب الثالث من يوليو، حيث حدثت تحولات منهجية صميمة نقلت الجماعة من تخوم الوحي إلى لب السلطة، من خلال ذلك الاتفاق الضمني بين السادات من جهة، والتلمساني من جهة أخرى، والذي كان تحولًا تنظيميًا لمصلحة معتبرة في حينه، تبعه تحول منهجي يبرره ويسوغه، فتم البدء بالرصيد الجهادي للجماعة المتمثل في النظام الخاص، حيث عملت الجماعة بشكل دؤوب على تحجيمه في رصيد “حكاواتي” يستدعى في سياق التباهي عند الحاجة فقط، مع غض الطرف عن فكرته وأشخاصه واعتباره فترة ومضت.

الجماعة تنفي خبثها!

اعتادت الجماعة على إطلاق تلك العبارة الساذجة التي تضع بها نفسها في منزلة مفارقة لكل الحركات الاجتماعية، ضافيةً على نفسها قداسة وكهنوت تتعالى بهما على قوانين وسنن الله في خلقه، وتحتوي كذلك على قدر كبير من الكبر والغطرسة وإنكار الجميل لكل من خالف الجماعة في رأي، فتمحو في لحظة تضحيات سنوات بمجرد أن يتقدم أو يتأخر عنها خطوة!

وبعيدًا عن الرموز الإعلامية للمنشقين الذين يستخدمهم إعلام النظام لضرب الجماعة، والذين في الغالب كانوا اختراقًا أمنيًا للجماعة طال أعلى هرمها التنظيمي، فإن الجماعة دومًا ما كانت تنفي أطيب طيبها، حيث لم تستطع الجماعة – نظرًا لطبيعة نشأتها الحركية المقدمة على همها التنظيري – أن تستوعب كل الكوادر الفكرية التي تفكر خارج إطار تنظيمها الضيق، ولأنه دومًا ما تفشل التنظيمات في أن تستوعب كل عقل مبدع، فإن كل من غرد خارج سرب المألوف والمسموح داخل أروقة الجماعة، سرعان ما انسحب هو طواعيةً، أو طالته قرارات الفصل التي تخطها القيادات التاريخية مانحة صك الرضا لكل طائع أو كارت الطرد من جناتها لكل عاص!

مع تواصل عملية التجفيف الفكري تلك – إن صح التعبير – لم يعد للجماعة مفكرون يقومون بتوجيه تحركات الجماعة السياسية، مقابل عملية تصعيد مستمرة لقيادات ذات خلفية علمية تطبيقية خاصةً الهندسة والطب، بدلًا عن ذوي الاختصاص بمجالات العلوم الاجتماعية والشرعية، أفضى ذلك بالنهاية إلى إدارة الجماعة بقوانين هندسية بحتة لا تبصر أي قوانين اجتماعية وسياسية واقتصادية متغيرة، فلم تستطع الجماعة يومًا أن تدرك الواقع الاجتماعي والسياسي والاقتصادي المتغير، ولا أن تتعامل معه بقوانينه لا بقوانين عقلياتها الهندسية.

إن لم تغير الجماعة مسلكيتها العشوائية وتتوقف طويلًا لتجيب عن أسئلة المنهج وتعرف ماهيتها وغايتها وتحدث تحولًا منهجيًا واعيًا ومقصودًا، فستظل أسيرة الصدفة ورد الفعل وقيادات الصدفة ورد الفعل كذلك، ولن تبرح هامش المعركة العالقة فيه منذ زمن

في أسباب التيه

وحتى لا ينفلت جوهر المقالة منا، نقول إن مسلكية الجماعة في التعاطي مع تحولاتها المنهجية اللاحقة للحركة، ترجع لعدة أسباب من أهمها ما ذكرناه من عدم استيعاب الجماعة لكوادرها الفكرية التي تفكر خارج التنظيم، ولعل ذلك يرجع لطبيعة نشأة الجماعة نفسها من الأساس كما أشرنا، فالجماعة منذ نشأتها الأولى وهي حركة اجتماعية تهتم في مناهجها التربوية بتخريج جنود مطيعين لا قادة مفكرين، فالإمام البنا مثلًا قد اكتفى بتنظيرات من سبقوه من الإصلاحيين الرواد كالأفغاني وعبده ورشيد رضا، حيث كان تنظيره محدودًا، محددًا في إسقاط تلك التنظيرات في شكل تنظيم كبير يجمع شعث الأمة الممزقة ويكتلها في مواجهة الاحتلال الغربي.

قد يتفهم توجه البنا في حينه، نظرًا لتوفر كل ذلك الرصيد الفكري الكبير للمفكرين الرواد والذي كان يفتقد أن ينتقل من حيز الأوراق الباردة إلى آتون الميدان، ومن ضيق النخب إلى سعة الأمة، وقد نجح البنا في ذلك نجاحًا مبهرًا.

ولكن بعد استشهاد البنا اكتفت الجماعة برصيده التنظيري القليل المتمثل في رسائله، ولم تقدم طرحًا فكريًا يوازي ذلك الطرح الذي خلفه الإصلاحيون الرواد قبل البنا، والذي اعتمد هو عليه، وبالتالي تجمدت الجماعة في أطروحاتها الفكرية عند ما قاله البنا في رسالة المؤتمر الخامس أي منذ عام 1937م!

وحتى الثورة التي أحدثها سيد قطب في الحالة الإسلامية حيث نقلها إلى مساحة أكبر وأرحب من أطروحات الرواد، لم تتعامل معها الجماعة باعتبارها تأصيل فكري لفعلها المجتمعي والسياسي، بل اكتفت باستدعائها في سياق حماسي ثائر داخل خطابها الداخلي لاستنفار الأفراد وقت الحاجة فقط.

الإشكالية الأساسية في مسلكية الجماعة تلك في أنها تؤدي بالنهاية لتحول منهجي (غير مقصود) يخضع لمصلحة سياسية كان لها وجاهتها في فترة ما

وطول تاريخ الجماعة المديد، صارت أدبيات الجماعة تركض لاهسةً خلف خطواتها المتسارعة نحو هامش السياسة في شكلها الإجرائي/ الانتخابي بعيدةً كل البعد عن لب السلطة الحقيقي، مكتفيًا في كثير من الأحيان بالصمت عن تعاطي الجماعة السياسي المخالف لثوابتها الأيدلوجية.

وختامًا فإن لم تغير الجماعة مسلكيتها العشوائية وتتوقف طويلًا لتجيب عن أسئلة المنهج وتعرف ماهيتها وغايتها وتحدث تحولًا منهجيًا واعيًا ومقصودًا، فستظل أسيرة الصدفة ورد الفعل وقيادات الصدفة ورد الفعل كذلك، ولن تبرح هامش المعركة العالقة فيه منذ زمن.