بات تسجيل المواليد في منطقة إدلب وغيرها من مناطق سيطرة المعارضة في سوريا، مشكلة اجتماعية وإدارية ضخمة تتفاقم تدريجيًا بمرور الوقت، وتزيد من معاناة سكان تلك المناطق، فلم تنجح السلطات سواء في منطقة إدلب الخاضعة لسيطرة حكومة الإنقاذ، أم في شمالي حلب الخاضعة لسيطرة الحكومة السورية المؤقتة، باكتساب اعتراف دولي بالوثائق والأوراق المدنية التي تصدرها، الأمر الذي بات يُهدد مستقبل آلاف الأطفال حديثي الولادة، بل ويهدد مستقبل أجيال من السوريين.
ويعجز الكثير من السوريين المهجرين إلى شمال غرب سوريا، عن تسجيل مواليدهم في دوائر النظام السوري التي تعد الجهة الوحيدة القادرة على إصدار وثائق وتحظى بشرعية دولية.
حل المشكلة جزئيًا
يقول المحامي والعامل في نقابة محاميي حلب عبد الرزاق الشون إن “الكثير من السكان قد لا يشعرون بأهمية بعض الأوراق والمستندات الشخصية مثل الهوية ودفتر العائلة وشهادة القيادة وجواز السفر، إلا أن هذه الأوراق في الواقع هي الوثائق التي تثبت الوجود القانوني للإنسان وفقدانها يؤدي إلى تجريده من حقوقه المدنية والسياسية، بل يفقد الاعتراف بوجوده في حال عدم توافرها، كما هو حال السكان السوريين بالمناطق المحررة في شمال غرب سوريا، الذين يحملون مستندات غير معترف بها، لا سيما أنها لم تصدر من الدوائر الرسمية لحكومة دمشق ولا أحد يعلم ما هو مصيرهم في المستقبل”.
وأضاف في حديثه لـ”نون بوست”: “لتلافي هذه الكارثة، عمدت السلطات المحلية في مناطق سيطرة المعارضة السورية على اختلافها إلى إصدار تلك الوثائق، عبر مجالسها المحلية، كلّ مجلس بحسب مناطق سيطرته، بهدف حلّ المشكلة جزئيًا، علمًا بأنّ تلك الوثائق غير معترف بها إلا محليًا، بل وغير معترف بها خارج منطقة استصدارها، فمثلًا الأوراق والوثائق التي تصدر من مؤسسات “حكومة الإنقاذ” غير معترف بها خارج حدود إدلب، وكذلك الأمر بخصوص الوثائق التي تصدر عن المجالس المحلية في ريف حلب الواقعة تحت سيطرة الحكومة السورية المؤقتة”.
واستطرد قائلًا: “إضافة لكل ذلك، لا جدوى منها أيضًا لدى حكومة النظام السوري ولا جدوى لها أيضًا لدى دول العالم كافة التي ما زالت تعترف بالوثائق الصادرة عن حكومة دمشق فقط، وبالتالي فإنّ المعاملات المنجزة محليًا لا جدوى حقيقية منها، مهما كان نوعها من إثبات للملكيات أو أحوال شخصية أو غيرهما”.
وأشار إلى أن سلطات شمال غرب سوريا لجأت إلى إخراج الوثائق الشخصية منذ قرابة 6 أعوام، ورافقها وقتئذٍ غياب فاعلية المؤسسات المدنية المعترف بها من حكومة النظام من جهة ونتيجة معاناة كثيرين من سكان منطقة إدلب وريف حلب من جهة أخرى، حيث اجتمع إلى جانب السكان الأصليين مئات آلاف السوريين النازحين الذين هُجّروا من مدنهم جراء الأعمال الحربية التي شنها النظام السوري على مناطقهم السكنية في مختلف المناطق السورية”.
يقول الشون لـ”نون بوست”: “منذ عام 2018 عطّل النظام السوري جميع المؤسسات الرسمية في المناطق التي خضعت لعمليات تهجير، ولم يعد يمنح الأوراق الرسمية، في خطة اتبعها النظام من شأنها أن تكون عقابًا جماعيًا على الأهالي بسبب الحراك الذي سُجّل في المناطق وكان مناهضًا للنظام، الأمر الذي وجده أبناء الأجيال الجديدة أنفسهم من دون أوراق رسمية، سواء شهادة الميلاد أم الهوية أم دفتر العائلة.
وتجاوز عدد سكان شمال غربي سوريا 6 ملايين نسمة، بينهم 49.32% نازحون يعيشون في المخيمات وخارجها، وفقًا لبيان رسمي صادر عن فريق “منسقو استجابة سوريا”، إذ يُقدر عدد السكان في منطقة إدلب وريفها وريفي حلب وحماة الغربيين بنحو 4.3 مليون نسمة، فيما بلغ عدد سكان منطقة “درع الفرات” 1.16 مليون نسمة، إضافة إلى أكثر من 561 ألفًا في منطقة “غصن الزيتون”.
حجة قانونية
لكن المحامي عبد الناصر حوشان من ريف حماة، يؤكد لـ”نون بوست” أن السجلات المدنية العاملة في شمال غرب سوريا، تعد حجة قانونية في المستقبل، إذ يمكن الاعتماد عليها كدليل قاطع يمكن اللجوء إليه عند تسجيل الوقوعات في السجلات الرسمية مستقبلًا، وهي تعد من الناحية القانونية مبدأ ثبوت بالكتابة، مرجحًا صدور قانون مستقبلًا من شأنه أن يشرعن عمل السجلات، بعد إجراء التدقيق و التحقق من صحة الوقوعات.
وأوضح حوشان أن مراكز السجلات المدنية التي تم إنشاؤها في شمال سوريا تعمل على تسجيل الوقوعات من زواج وطلاق وولادة ووفاة، وأيضًا يقوم عليها موظفون سابقون ومنشقون عن دوائر السجل المدني أساسًا.
ولا تتمتع هذه السجلات حاليًّا بالاعتراف القانوني لأن السجلات المدنية من السجلات الحكومية الرسمية الأساسية هي المرجع في تحديد جنسية السوري، بالإضافة إلى حجية الوقوعات المسجلة فيها، وفقًا لـ”حوشان”، لافتًا إلى أن الهوية الشخصية أو البطاقة العائلية كما ذكرت ليس لها أي حجية قانونية إلا في تركيا وعلى نطاق ضيق جدًا.
واسترسل قائلًا: “لا يمكن الاعتراف بالبطاقات الشخصية كوثيقة قانونية، لأنها بالمرتبة الأولى تتعارض مع مبدأ السيادة الوطنية وبالتالي الشرعية الدستورية”.
ما دور الشؤون المدنية شمال سوريا؟
التقينا مدير مديرية الشؤون المدنية عبد الله العبد الله الذي أكّد لـ”نون بوست” قيام عدد من المهجرين الموجودين في المناطق المحررة بتسجيل أولادهم عند النظام السوري، لافتًا إلى أن البعض الآخر مِمّن لا يملكون سجلات مدنية يلجأون إلى النظام، “عملنا في المديرية على إنشاء سجلات تساوي السجلات القديمة الموجودة في أماناتهم الأصلية مطابقةً تمامًا لـ”القيد والخانة والمواليد والترتيب”، ويتم حاليًّا تسجيل الواقعات القديمة والواقعات الجديدة، وبنفس القيد ونفس الخانة”، وفق قوله.
الأصل في نقل الملكية هو وجود رابطة القرابة كالميراث، أو الرابطة العقدية كالبيع أو الانتفاع، أو التصرف بإرادة منفردة كالوصية والهبة، وهذا يحتاج إلى التحقق من هوية وجنسية الطرفين
وأكّد العبد الله في حديثه لـ”نون بوست” أن مسألة الشؤون المدنية وتوثيق الواقعات والوفيات، لا تملك أي اعتراف دولي، لأن أساسًا المسألة داخلية في سوريا، ودول العالم لا تعترف بوثائق الشخصية إلا بجوازات السفر، ومهامهم تقتصر اليوم على التوثيق فقط.
تثبيت الوقوعات في سجلات النظام
من جهته، نوّه المحامي أحمد البكور العامل في نقابة المحامين بإدلب، في حديث لـ”نون بوست” أن هناك العديد من المهجرين والنازحين من المحافظات السورية الذين يقطنون في شمال غرب سوريا، اضطروا مؤخرًا إلى تسجيل أولادهم في السجل المدني الموجود في مناطق النظام، لأسباب عدّة أبرزها إثبات شخصية المهجر وعدم وجود أحد من أقربائه في مناطق المعارضة السورية.
وبحسب البكور فإن أحد أهم الأسباب التي دفعتهم للتسجيل وإثبات شخصياتهم هي الحالات المرضية التي تتطلب دخولهم إلى المستشفيات التركية وتشترط إثبات شخصية المريض قبل دخوله إلى الجانب التركي.
ولعل ما أكد كلام البكور، هو حديث المهجر سعيد الحرك من بلدة “كفر بطنا” في الغوطة الشرقية بريف دمشق، ويسكن بلدة كللي شمالي إدلب، الذي أكد لـ”نون بوست” أنه اضطر إلى استخراج “إخراج قيد” من دمشق منذ نحو العام، من شأنه إثبات شخصيته، ودفع مقابله 750 دولارًا أمريكيًا، عبر التعامل مع محامٍ واتخاذه إجراءات استمرت قرابة الشهر.
ولا يختلف الأمر عند الشاب سليمان المهجر من مدينة حمص ويسكن مدينة إدلب، فقد اضطر إلى تسجيل ابنه البالغ عمره اليوم 4 أعوام في السجلات المدنية بمناطق النظام لينقل ملكية عقار له في حمص، مشيرًا إلى أنه تواصل مع أحد المحامين الذي بدوره سجل ابنه في السجل المدني، بعد أن طلب منه الأخير إجراء مكالمة فيديو وإظهار الطفل ومقابلة مختار القرية أيضًا، لافتًا إلى أن هذا الإجراء كلّفه قرابة 500 دولار أمريكي.
من لا يملك المال.. ليس سوريًا
بالعودة إلى المحامي حوشان أكّد أن هناك العديد من المهجرين الفقراء أنجبوا أولادًا في أثناء رحلة تهجيرهم في شمال سوريا، والعديد منهم أتلفت قيودهم أو قيود عائلاتهم، ما يجعلهم عاجزين عن تسجيلهم في السجلات الرسمية، وبالتالي يعتبرون من إحدى حالات المكتومية إذا لم يتعاملوا مع سماسرة لإصدار الوثائق وتسجيل الوقوعات الجديدة، لافتًا إلى أن هذه الإجراءات تحتاج إلى أموال كثيرة يعجز عنها جلّ المهجرين.
وتابع قائلًا: “هناك أيضًا من ولد في الخارج وليس له قيود، لا هو ولا عائلته، إمّا إنها أُتفلت أو فُقدت أو أُحرقت، فيعتبر هؤلاء عديمي الجنسية، وبالتالي عليهم اللجوء مستقبلًا إلى القضاء لإثبات وقوعاتهم”.
وبالنسبة لقضية نقل الملكية، لفت حوشان إلى أن الأصل في نقل الملكية هو وجود رابطة القرابة كالميراث، أو الرابطة العقدية كالبيع أو الانتفاع، أو التصرف بإرادة منفردة كالوصية والهبة، وهذا يحتاج إلى التحقق من هوية وجنسية الطرفين، والعبرة في ذلك لقيود السجل المدني، وبالتالي لا يمكن نقل ملكية أي عقار أو منقول وتسجيلها في السجلات الرسمية دون إثبات الهوية”.
ومع مرور السنوات، وعدم إيجاد حلٍ جذري لقضية المهجرين وغياب أي قرارات دولية أو تحرك في الشأن السوري من شأنه ضمان عودة النازحين إلى بلادهم، ستزداد هذه المعضلة حتمًا على السوريين الذين هُجروا من منازلهم بسبب آلة الحرب الأسدية.
ويعيش أكثر من مليوني نازح في مخيمات شمال غرب سوريا، بينهم نحو 888 ألف طفل، وأكثر من 600 ألف امرأة، و84 ألفًا من ذوي الاحتياجات الخاصة، وفقًا لتقرير صادر عن فريق “منسقو استجابة سوريا”.
أما خارج المخيمات، أحصى التقرير وجود نحو 1.7 مليون طفل، وأكثر من 1.2 مليون امرأة، و210 آلاف شخص من ذوي الاحتياجات الخاصة.