أصبح تهريب العملة ظاهرة اقتصادية متنامية في العراق، وتمثل تحديًا كبيرًا أمام الاقتصاد الوطني، إذ تشير التقديرات إلى أن هذه المشكلة تكبد البلاد خسائر مالية هائلة تؤثر على الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي.
ومع تشديد الإجراءات الحكومية لمواجهة هذه الظاهرة بدأت عصابات التهريب باللجوء إلى طرق مبتكرة تشمل البطاقات الائتمانية والعملات الرقمية وتزوير الفواتير التجارية وغيرها.
تلك الأساليب الملتوية انعكست بشكل سلبي على قيمة الدينار العراقي الذي يواصل التدهور منذ أسابيع، فهناك فارق كبير بين سعر الصرف الرسمي البالغ 1320 دينارًا لكل دولار مقابل سعره في السوق السوداء الذي تجاوز حاجز 1560 دينارًا لكل دولار.
وتصف مديرية المنافذ الحدودية، استخدام البطاقات الائتمانية المصرفية في تهريب الدولار، بأنه تكتيك جديد يتجاوز الإجراءات الأمنية المتخذة في المنافذ الحدودية.
طرق التهريب
تعزى أسباب انتشار تهريب العملة في العراق إلى عدة عوامل، منها الاضطرابات السياسية والاقتصادية التي عاشها هذا البلد على مدى السنوات الماضية.
ويقدر الخبير الاقتصادي أحمد صدام، حجم الأموال المهربة بحدود 10 إلى 15 مليار دولار أمريكي، فمعدل حجم الاستيراد سنويًا بحدود 55 إلى 60 مليار دولار أمريكي، بينما لا يتجاوز حجم إيرادات التعرفة الجمركية 2 إلى 2.5 مليار دولار أمريكي سنويًا كمعدل.
ويبيّن صدام لموقع نون بوست، أن التهريب بالبطاقات المصرفية يعد من الطرق المبتكرة مؤخرًا، ويتم ذلك من خلال استغلال فرصة السماح لكل مسافر بحيازة مبلغ 2000 دولار، إذ يتم تعبئة آلاف البطاقات المصرفية من مهربي الدولار.
ويوضح بأن هذه العملية تتم إما بالاتفاق مع أصحاب هذه البطاقات وإما حسب بعض المصادر قيام بعض شركات الصرافة بإصدار بطاقات مصرفية بشكل غير قانوني من خلال استغلال بيانات شخصية لمواطنين دون علمهم، حيث يحصلون على هذه البيانات بسبب تعاملات مالية سابقة لهؤلاء المواطنين.
ويمكن أن يتم ذلك أيضًا بالتواطؤ مع بعض المصارف المملوكة لجهات متنفذة لا تمتثل لتعليمات البنك المركزي العراقي، إذ قدرت البطاقات المهربة بحدود 2500 بطاقة تقدّر مبالغها المالية بحدود 7 ملايين دولار.
وعن سياسات وإجراءات الحد من تهريب الأموال، يرى صدام أن العامل الأهم يتمثل في تشديد الرقابة على المنافذ الحدودية من خلال استخدام تكنولوجيات يمكن أن تكشف البطاقات المهربة، وهذا الأمر لا يمكن أن يتحقق ما لم تتزامن معه عملية “تنظيف” لهذه المنافذ من بعض المتواطئين الذين ربما يسهلون عملية التهريب، فضلًا عن محاسبة المصارف وشركات الصرافة التي ثبت عليها التهريب.
وينوّه الخبير الاقتصادي إلى أن الإجراءات الحكومية في تشديد المتابعة والاعتقالات لكثير من المهربين، لم تحد من التهريب بشكل كبير بسبب ارتباط الكثير من المهربين بجهات حزبية ترتبط بعلاقات قوية مع بعض المسؤولين، وبالتالي تشكل دعمًا للتهريب بما يتعارض مع سياسة الحكومة الاقتصادية الرامية إلى معالجة المشكلة بهدف تحقيق استقرار نسبي في سعر صرف الدولار.
حماية مبطّنة
ورغم الجهود الحكومية المستمرة لمكافحة تهريب العملة، بما في ذلك تشديد الرقابة على الحدود، لم تنجح في السيطرة على نزيف العملة.
ويرى الخبير المالي المختص بالضرائب عبد السلام حسن حسين، بأن عمليات تهريب الأموال واستنزاف العملة الصعبة بالطرق المختلفة، لا يمكن أن يتمّ ما لم يكن هناك غطاء أو حماية مبطنة من متنفذين كبار.
ويؤكّد حسين لموقع “نون بوست”، أنّ المواطن البسيط لا يمكنه من خلال المطارات أو طرق النقل المختلفة أن يهرب العملة بكميات كبيرة، خاصة أنّ هناك مافيات كبيرة على علم بأن أمريكا لا تسمح بتهريب الدولار.
ويلفت الخبير المالي إلى أن الأموال المهربة تذهب إلى دول الجوار سواء كانت إيران أم غيرها، حيث تصل العملة بطرق مختلفة، للالتفاف على العقوبات التي شملت تقييد عمل بعض المصارف، ومن المرجح أن تأتي عقوبات أخرى تباعًا.
وينوّه إلى أن عمليات التهريب تجري بطرق مبتكرة، ويتم حمايتها من أخطبوط الفساد ومتنفذين كبار، حيث جرى الكشف عن مسؤولين كبار في حكومة الكاظمي السابقة، وما زالت هناك أدوات أخرى تعمل بالحكومة الحاليّة كونها ملزمة بتزويد إيران بالعملة الصعبة التي تمنع أمريكا وصولها إليها.
ويصف حسين العراق بـ”البلد الغريق” الذي يتحكم فيه سبع رؤساء يمثلون الكتل السياسية، وكلها تسعى من أجل البقاء في الكراسي، بسياسة الدولة المخترقة.
حلول عاجلة
يمثّل تهريب العملة تحديًّا كبيرًا أمام الاقتصاد العراقي، ويتطلب جهودًا مشتركة من الحكومة والمجتمع لمكافحته.
ويدعو حسين إلى الاستفادة من التجارب الدولية من خلال وضع السيطرة على المصارف المعروفة والمخترقة لنظام العمل بالدولار، كما يدعو الحكومة إلى الالتزام بجملة من التوصيات، أولها “تقييد سوق العملة، هذا المنفذ الذي نعتبره مركز الفساد، والحد من البيع المتاح، وخضوع جميع المصارف للبيع وفق الربح المحدد ومحاسبة من لم يلتزم بالتسعيرة التي تكون بفارق لا يتجاوز النقطتين أو ثلاثة عن سعر البنك المركزي، أي إذا كانت الدولة تبيع الدولار بسعر 1320 فيسمح للتاجر بيعه 1350 كحدّ أقصى وهذا يسهم في استقرار الاقتصاد”.
كما يشدد حسن على ضرورة تسعير السلع والمواد بالدينار العراقي، مؤكدًا وجود برنامج عملي تستطيع الحكومة من خلاله السيطرة على سعر الصرف إذا أرادت ذلك.
ويكشف الخبير المالي عن تقديمه برنامجًا للحكومة الحاليّة يضمن تراجع سعر الصرف الدولار إلى 1200 دينار، ويوفر أكثر من 600 مليار دينار شهريًا دون الحاجة للنفط أو الزراعة، لكنّ الجهات المسؤولة اكتفت بالمباركة والوعود بالتواصل، ولم تأخذ به.
بالمحصلة، فإن على الحكومة وضع مهمة تنظيف البلاد من الفساد، وظواهره الكثيرة بما فيها التكسب من تهريب العملة، على رأس أولوياتها، خاصة مع اقتراب الانتخابات المحلية والتنافس الشديد بين الكتل السياسية المتنفذة.