في منتصف آب/ أغسطس الماضي، استطاع متجر “كيمت بوتيك” عبر صفحته الرسمية على فيسبوك صناعة حالة ضخمة من الجدل، حينما طرح قمصانًا كُتب عليها: “مصري/ة مش عربي/ة” للجنسَين.
من اسم المتجر “كيمت”، وهو الاسم الفرعوني لمصر، يتضح لنا أن القميص لم يكن تجاريًّا فقط، لكنه يعبّر عن الشعور بالفخر القومي الذي تمثّله مجموعة ما أصبحوا يعرَفون من باب السخرية باسم “الكمايتة”، الذين يمثلون “اليمين” إن جاز لنا أن نحسبهم على اليمين السياسي في بلد عقيم السياسة، حيث اليمين واليسار وكل الاتجاهات في بلد مثل مصر تحت حكم النظام الحالي.
الجذور التاريخية
لم يكن ذلك الشعور اليومي وليد ذلك “القميص” بالتحديد، لكنه شعور يتنامى شيئًا فشيئًا، خصوصًا في ظل النظام الحالي الذي ترضخ مصر تحت وطأته منذ 10 سنوات، وهو النظام الذي احتكر السياسة والهوية والأيديولوجيا على حد سواء.
فكما صنع نسخته من الإسلام السياسي ممثلًا في مؤسسة الأزهر وحزب النور السلفي، صنع نسخته أيضًا من القوميين الذين تقوم دعواهم القومية على أُسُس عنصرية، رغم أن الفكرة القومية ليست بغريبة عن مصر وتاريخها، لكن الفارق أن الفكرة القومية في مصر الماضي تبلورت من أجل مجابهة الاحتلال الإنكليزي والبحث عن هوية لمصر تضمن لها شخصيتها بعد الاستقلال.
لذلك كانت دعوات حزب الأمة المصري، الذي تأسّس عام 1907 وشعاره “مصر للمصريين” تحت رعاية مثقفين من أمثال لطفي السيد وطه حسين، تدعو المصريين إلى التمسك بهويتهم في وجه الاحتلال البريطاني، والتمسك بطرق ليبرالية للحل السياسي، كما أنها كانت تدعو “الشوام” من الذين يقيمون على أرض مصر آنذاك بالتجنُّس بجنسيتها، على عكس الدعوات القومية في الحاضر التي تقوم على طرد الشوام والأفارقة وغيرهم.
وظلَّ الشعور بتمتع مصر بثقافة خاصة لها روافدها الإسلامية والعربية لكنها تحافظ على فرادتها قائمًا، ويراود الكثير من المثقفين من أمثال عباس العقاد وسلامة موسى الذي زعم أن مصر تنتمي إلى حضارة حوض البحر المتوسط، لكن تلك النظريات لم تكن مصحوبة بأي شعور بتفوق لعرق مصري مفترض، أو بالتخلي عن اللغة العربية لصالح رموز هيروغليفية ليست بلغة ثقافة حقيقية، كما تظهر الدعوات في مصر الآن.
وظلت الفكرة القومية سائدة في مصر، خاصة في عهد الرئيس جمال عبد الناصر الذي جعل من قومية مصر “قومية عربية” و”أفريقية” تنتمي إلى تينك الحضارتَين، وتتبنى قضاياهم وتشارك فيها وتقودها في بعض الأحيان، كما أن في عهده أُقيمت الجمهورية العربية المتحدة على أُسُس تجعل من مصر وسوريا دولة واحدة تنقسم إلى إقليمَين جنوبي وشمالي.
ورغم انفصال سوريا فيما بعد، ظلت مصر تحتفظ باسمها الرسمي “الجمهورية العربية المتحدة” دستوريًّا وبروتوكوليًّا.
إذن، لم يكن كون مصر عربية محل جدال أبدًا، كما أنه لم يكن هناك شك بأن مصر دولة إسلامية، وهي تلك الأفكار التي أكّدها دستور “سلطنة مصر” عام 1923 في مادته الثانية. فما الذي حدث؟
الانسلاخ الساداتي
لقد عرفت مصر تلك “اليمينية” العنصرية بالتحديد في عهد الرئيس السادات، الذي شعر أن العرب تخلوا عنه تمامًا بعدما قرر أن يعقد سلامًا مع “إسرائيل”، كما يذكر الكاتب عضيد دويشة في كتابه “القومية العربية في القرن العشرين”، من خلال قرارات قمة بغداد 1978 وتعطيل عضوية مصر في الجامعة العربية ونقل مقرها من القاهرة إلى تونس.
ولقد كان السادات في تلك الفترة أيضًا متأثرًا بصديقه الشاه محمد رضا بهلوي، وما كان يحاول أن يصنعه في إيران من فخر بالحضارة الفارسية في المهرجان الأسطوري في مدينة تخت جمشيد، احتفالًا بمرور 2500 عام على إنشاء مملكة فارس.
استغلت مصر موضوع الهوية بدءًا من شخصية الإمام الشافعي في المسلسل الذي عرض في رمضان الماضي، والذي كان فيه الإمام الشافعي إمامًا على دين أمنحوتب الرابع أكثر منه على دين محمد بن عبد الله.
فالتقط السادات الكثير من الصور أمام الأهرامات، وكان يرتدي زيًّا عسكريًّا أشبه في تصاميمه بأزياء الملوك الفراعنة، وكان يمسك صولجانًا فرعونيًّا في يده في احتفالات نصر أكتوبر، كما أنه، وكما يذكر الكاتب مجدي حماد في كتابه “السادات وإسرائيل: صراع الأساطير والأوهام”، كان يعتقد حقًّا أنه فرعون، ففي مفاوضات كامب ديفيد قال لكارتر: “إنك تتكلم مع الفرعون الجديد والأخير لمصر”.
وإلى جانب ذلك كله، كان يخلع الرئيس على نفسه لقب “الرئيس المؤمن”، وكان عهده السياسي انفتاحًا للقوى الإسلامية وعودتها إلى المشهد السياسي مرة أخرى بعد قمعها في عهد عبد الناصر، وتلك الخلطة المتناقضة هي التي استلهمها الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي بعدة أشكال فيما بعد.
إسلاميون وفراعنة أكثر من الإسلاميين والفراعنة
في مواجهة الإخوان المسلمين في أعقاب انقلاب 30 يونيو/ حزيران، حاول النظام أن يخلق لنفسه صورة تتصل بالإسلام ربما لم يحاول أن يخلقها لأنفسهم الإخوان المسلمون بحدّ ذاتهم، عملًا بمبدأ “ملكي أكثر من الملك”.
ففي عهد الرئيس السيسي مُنعت القُبلات والمضامين الجنسية الصريحة في السينما والدراما المصرية منعًا تامًّا، ويسمّي الجيش المصري فرقاطاته وقطعه البحرية على أسماء الصحابة، من أمثال أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب وعبيدة بن الجراح وعلي بن أبي طالب، ويسمّي قوارب الصواريخ الخاصة به رمضان وبدر وخيبر والقادسية واليرموك وحطين.
لكن هذا النظام متمثلًا في الرئيس السيسي ذاته هو الذي شهد عهده صرفًا وإنفاقًا مهولَين على إحياء مظاهر قومية مصر الفرعونية، من خلال موكب المومياوات وافتتاح متحف مصر الكبير وطريق الكباش، وفي العصر ذاته ألقيت أغاني وطنية باللغة المصرية القديمة، ولقد كان النظام في هذا كله، بوجهَيه الإسلامي “الوسطي” والفرعوني المتشدد، يحاول أن يستغل ذلك الصراع على هوية مصر لصالح شرعيته وديمومتها، وبرعاية ذلك الفكر والحفاوة بالحضارة المصرية في وجه “الحركات الدينية المتشددة”، ظهرت مجموعة ما عُرف باسم “الكمايتة”.
لقد استغلت الدولة المصرية في أكثر أزمنة هزالها موضوع الهوية، وما أكثر ذلك في عام 2023 رغم كثرة أزماته الاقتصادية والسياسية، بدءًا من شخصية الإمام الشافعي في المسلسل الذي أنتجته “المتحدة” للخدمات الإعلامية المخابراتية ليعرَض في رمضان الماضي، والذي كان فيه الإمام الشافعي إمامًا على دين أمنحوتب الرابع أكثر منه على دين محمد بن عبد الله.
كما أن الحكومة خلال الحوار الوطني المزعوم دعت إلى عقد جلسة تحت عنوان “الهوية الوطنية” لمصر، والذي يجيب عن سؤال: “من نحن؟”.
وحين ظهرت حملة من “الكمايتة” ضد الكوميدي الأمريكي كيفين هارت الذي كان سيقيم حفلًا له في مصر، وهوجم بدعوى أنه “أفروسنتريك”، ألغت الدولة حفلة هارت على الفور، وهي دومًا ما تسارع للاستجابة لمطالب مثل تلك، رغم تقاعسها ومواتها التام في الاستجابة لمطالب الشعب فيما يخص الغلاء وأزمة الدولار.
“الكمايتة” وصراعاتهم الدون كيخوتية
بالنسبة إلى “الكمايتة”، ففي ظل مناخ سياسي مغلق على آخره، لم يكن هناك مجال لأي حديث حقيقي فيما يتعلق بأزمات مصر الحقيقية، والتي تتجاوز مسألة الهوية بكثير، لذلك كان الخوض في مسألة هوية مصر “مساحات آمنة” تمكّن تلك الفئات أن تنفّس عن غضبها وحاجتها للكلام، وحبّذا لو أن كلامها يستهوي الحكومة ويقف على نقط التقاء معها على عكس المعارضين بأيديولوجياتهم المختلفة، فقد حمل “الكمايتة” على عاتقهم أن يخوضوا صراعًا دون كيخوتي غير أنهم ليسوا بنبلاء.
لقد عرفت منصات التواصل الاجتماعي صفحات موجهة خصوصًا لإنماء الشعور القومي الفرعوني والعنصري الموجّه ضد الغير، فلقد ظهرت الدعوات للاحتفال برأس السنة المصرية القديمة، بالإضافة إلى وجود صفحات مثل صفحة “وعي مصر” التي ترسّخ عملها بالكامل للتأكيد على وجود جين متصل بين الشعب المصري الحاضر وأجداده منذ 7 آلاف عام، بالإضافة إلى الفخر الدائم بالحضارة الفرعونية كأنها هي التاريخ جُلّه وكله.
المشكلة أنه بينما يؤدي ذلك التنفيس الهوياتي كحلّ أخير في وجه سطوة “الخليجي/ البدوي” كما يراه “الكيمتي” إلى إزاحة شعور الخضوع والإذلال، إلا أنه لا يحل أزمة حقيقية ولا يقلّل من تبعية مصر في قرارها السياسي والاقتصادي لدول الخليج
وأزمة مصر مع أنظمة شبه الجزيرة العربية والخليج في فترة حكم النظام الحالي، كانت سببًا من أسباب تنامي ذلك الشعور بالتأكيد على هوية مصر “الكيميتية” وليست العربية، حيث تعدّ دول الخليج من أكثر الدائنين للحكومة المصرية بخلاف هداياهم، كما أن الشركات الإماراتية استطاعت بالفعل أن تستحوذ على الكثير من الأصول المصرية التي كان ممنوع الاقتراب منها في زمن ما، فأصبحت البلد ترضخ تحت شبه سيادة خليجية على اقتصادها، فكان الاحتقان ضد “العرب” طبيعيًّا.
لكن المشكلة أنه بينما يؤدي ذلك التنفيس الهوياتي كحلّ أخير في وجه سطوة “الخليجي/ البدوي” كما يراه “الكيمتي” إلى إزاحة شعور الخضوع والإذلال، إلا أنه لا يحل أزمة حقيقية ولا يقلّل من تبعية مصر في قرارها السياسي والاقتصادي لدول الخليج، ودعوات “القومية” في الفضاء الإلكتروني الواسع تلك لم تكن تمسّ سوى الطرف الأضعف في المعادلة من اللاجئين من الجنسيات الأخرى في مصر، خاصة السوريين والسودانيين، وتحميلهم سبب الأزمة المصرية الحالية كلها.
اللاجئون وصليب الأزمات
في السنوات الأخيرة، شهد تويتر مصر العديد من الهاشتاغات العنصرية الواضحة تجاه اللاجئين في مصر، وهي البلد التي تستضيف ما يقارب 9 ملايين لاجئ من 55 دولة مختلفة، وكانت أمثلة تلك الهاشتاغات العنصرية: “ترحيل السوريين مطلب وطني”، لكنها تتحول أحيانًا إلى عنف حقيقي، ففي عام 2018 تعرض أحد الأطفال السودانيين لحروق مارسها عليه مواطن مصري.
وإن لم تسجَّل الكثير من الحالات في السجلات الرسمية للشرطة المصرية كقضايا عنصرية ضد اللاجئين، لكن وسائل التواصل الاجتماعي تحفل بها، فبعد أزمة السودان الأخيرة ولجوء عدد من ضحايا الحرب الأهلية إلى مصر، ظهرت في مصر الكثير من التعليقات العنصرية بشكل خاص ضد “السود” و”الزنوج” وكأن مصر تنتمي إلى قارة أخرى، أو أن المصري قوقازي آري، وظهرت الكثير من الدعوات لمنع دخول اللاجئين السودانيين مصر، رغم أن الحكومة لا تتحمل كلفة إقامتهم بالفعل بل المؤسسات الدولية.
أصبح اللاجئون في مصر باختصار يحملون عن الحكومة صليب أزماتها الاقتصادية، وتواجههم التيارات اليمينية بمبدأ “اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضًا”
لا تتوقف الحكومة المصرية عن استغلال ذلك الشعور المتنامي بالغضب تجاه اللاجئين من تلك القطاعات اليمينية، والتي يستجيب لدعواتها بعض من المواطنين غير المسيَّسين الذين يستسهلون وجود سبب واضح يمكن حله بشكل جذري ليتم حل أزمتهم، وبهذا وجد هتلر مؤيديه في ألمانيا المهزومة والمتأزمة، فلم يكن الكل شاعرًا بالتفوق الآري بالتأكيد، لكن كان الكل يشعر بالحنق على اليهود والشيوعيين كسبب لكارثة ألمانيا وخيانتها، ورهانية نهوض ألمانيا بالتخلص منهم.
أصبح اللاجئون في مصر باختصار يحملون عن الحكومة صليب أزماتها الاقتصادية، وتواجههم التيارات اليمينية بمبدأ “اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضًا”، ويظهر استغلال الحكومة لتلك الدعوات في جعل حياة اللاجئين أصعب وتصعيب تجديد الإقامة وزيادة أسعارها، لتحصيل أكبر كمية ممكنة من العملة الصعبة في تلك الأزمة الاقتصادية.
يبدو موضوع الهوية هذا حيويًّا للنظام الحالي، فلقد كانت الدولة في سبيل تدعيم شرعيتها تعمل على تضخيم الاستثمار في حقول تأكيد الهوية والذاتية والمظهرية الاجتماعية، أكثر ممّا تميل إلى تحقيق الإنجازات الدائمة المفعول الاقتصادية والاجتماعية، وتميل دائمًا إلى احترام المظاهر والشكليات القومية أكثر من بناء آليات العمل والمؤسسات والسبل الإجرائية.