في 13 يوليو/ تموز 2023، خرج رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس بتصريح من مدينة جنين شمالي الضفة الغربية المحتلة، حمل إشارة واضحة عن عزمه وقادة الأجهزة الأمنية تغيير قواعد العمل المتبعة في مناطق الشمال خلال السنوات الأخيرة الماضية.
وتحدث أبو مازن المعروف برفضه التام للخيار المسلح وتبني خيار التفاوض كحلّ استراتيجي، بالقول: “جئنا لنقول إننا سلطة واحدة، دولة واحدة، قانون واحد، وأمن واستقرار واحد. سنبقى صامدين في بلدنا ولن نرحل”، حيث فُهم هذا التصريح فلسطينيًّا ضمنيًّا أن عباس يلمّح إلى سلاح المقاومة.
تبع هذا الأمر سلوك واضح للأجهزة الأمنية تمثّلَ في توسعة رقعة الاعتقالات السياسية في صفوف الفلسطينيين في الضفة الغربية المحتلة، التي وصلت حتى منتصف سبتمبر/ أيلول الحالي قرابة 800 إلى 850 حالة اعتقال، منها طلبة جامعات وأسرى محررون ومطاردون من الاحتلال الإسرائيلي.
ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، إذ أقدم رئيس السلطة على إحالة غالبية المحافظين إلى التقاعد بالضفة الغربية المحتلة، وسط تسريبات بأن السبب الرئيسي لهذا القرار يعود إلى الأداء المتعلق بالشق الأمني للمحافظين، وأُلحق بهم محافظو القطاع كونهم بلا صلاحيات عملية.
غير أن اللافت ما كشفته وسائل إعلام عربية وعبرية مؤخرًا، عن تسليم الولايات المتحدة أسلحة للسلطة الوطنية الفلسطينية بشروط محددة وخاصة، بحيث تستخدم في مواجهة حركتَي حماس والجهاد الإسلامي.
ووفقًا للمعلومات، تسلمت السلطة عدة مركبات مصفّحة، كما تضمّنت الشحنة ما لا يقل عن 1500 قطعة سلاح بعضها بنادق إم-16 موجهة بالليزر وبعضها كلاشينكوف، حيث تم نقل المعدّات من القواعد الأميركية في الأردن، ومرت عبر معبر اللنبي بموافقة إسرائيلية كاملة.
وزاد على ذلك ظهور رئيس وزراء الاحتلال الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في مقطع فيديو، سعى من خلاله احتواء غضب وزرائه المتطرفين وتحديدًا إيتمار بن غفير وزير الأمن القومي، إذ أقرَّ نتنياهو بإدخال هذه الأسلحة، إلا أنه أشار إلى وجود موافقة من حكومة يئير لابيد ونفتالي بنيت السابقة بذلك.
أما السلطة الفلسطينية فكانت واضحة حالة التخبُّط لديها في بادئ الأمر، حيث تأخر ردها على هذه الأنباء عدة أيام، قبل أن يخرج المتحدث باسم أجهزة الأمن الفلسطينية، طلال دويكات، لينفي الأمر، مؤكدًا عدم صحة ما يتم ترويجه حول تسلم السلطة الفلسطينية أجهزة ومعدّات من خلال سلطات الاحتلال الإسرائيلي.
إلا أنه عاد وذكر أن من حق السلطة الحصول على كل ما يلزمها من أجهزة ومعدّات، كي “تمارس عملها الاعتيادي حفاظًا على أمن المواطنين وحماية لحقوقهم وسلمهم الأهلي”، وهو الأمر الذي لم يجد صدى واسعًا في الأوساط الفلسطينية في ضوء التسريبات المتعددة.
تجارب حية.. الاعتقالات والتعذيب
في 20 سبتمبر/ أيلول 2022 اعتقلت قوة من جهاز الأمن الوقائي المطارد مصعب اشتية، حيث كان يتواجد في البلدة القديمة بمدينة نابلس شمالي الضفة الغربية المحتلة، وضاجت مع عملية الاعتقال الأوساط الفلسطينية المطالبة بالإفراج الفوري عنه ووقف سياسة الاعتقالات.
اليوم يمرّ عام كامل على اعتقال اشتية الذي يعتبر من أبرز المطاردين للاحتلال الإسرائيلي، وأحد مؤسسي عرين الأسود رفقة مجموعة من الشهداء من أبرزهم إبراهيم النابلسي ورفاقه، دون أن تنفّذ الأجهزة الأمنية كل قرارات الإفراج عن الشاب صاحب الـ 31 عامًا.
في هذا السياق، يقول عاكف اشتية، والد مصعب اشتية، لموقع “نون بوست”، إن العائلة حصلت على 4 قرارات بالإفراج الفوري وغير المشروط عنه، كان أبرزها من المحكمة الابتدائية ثم المحكمة الإدارية ثم المحكمة العليا ومجلس الوزراء، إلا أن جميعها لم تنفّذ.
ويؤكد اشتية أن نجله تعرض للتعذيب خلال الفترة الأولى لاحتجازه في سجن أريحا سيّئ السمعة، وهو ما انعكس بالسلب على حالته الصحية، حيث جرى تعذيبه والضغط عليه وحرمانه من النوم لفترات طويلة، قبل أن ينقل إلى سجن آخر في مدينة رام الله.
سجن الجنيد وسجن أريحا من أسوأ السجون التابعة لأجهزة السلطة، نظرًا إلى استخدام أساليب متنوعة في التعذيب بحق المعتقلين
واشتية هو أسير محرر قضى في سجون الاحتلال ما مجموعه 4 سنوات، فيما تعتبر هذه هي المرة الأولى التي يتم اعتقاله فيها لدى الأجهزة الأمنية الفلسطينية، إذ إنه محسوب على حركة حماس ومن مؤسّسي مجموعة عرين الأسود التي تنشط في نابلس.
ووفق والد المارد الفلسطيني، فإن العائلة ورغم الزيارات الأسبوعية التي تقوم بها لابنها في رام الله، إلا أنها قلقة من استمرار احتجازه بهذه الطريقة والصورة، لا سيما أنه لا توجد أي لائحة اتهام، وصدرت عدة قرارات قضائية تطالب بالإفراج الفوري عنه دون اشتراطات أو كفالات.
وقال معتقل سياسي مفرج عنه، طلب في حديثه لـ”نون بوست” عدم ذكر اسمه خشية من الاعتقال مجددًا، إنه تعرض للتعذيب خلال احتجازه لدى جهاز المخابرات العامة في رام الله، وأثبت ذلك في جلسات المحكمة التي لم تحرك ساكنًا.
ويعد هذا المعتقل السياسي أحد المعتقلين السياسيين الذين اُعتقلوا عدة مرات لدى الأجهزة الأمنية على خلفية قضايا متعلقة بالعمل السياسي، إلى جانب أنه أسير محرر أمضى في سجون الاحتلال أكثر من 10 سنوات على فترات متقطعة ومتنوعة بين قضايا واعتقال إداري.
ويشير إلى أن سجن الجنيد وسجن أريحا من أسوأ السجون التابعة لأجهزة السلطة، نظرًا إلى استخدام أساليب متنوعة في التعذيب بحق المعتقلين، وطول المدة التي يمكث فيها المعتقل عادة، مقارنة مع المقار الأخرى أو السجون التابعة لأجهزة المخابرات أو الأمن الوقائي.
توثيق حقوقي.. السلطة تلاحق المقاومة وتقمع الحريات
مجموعة “محامون من أجل العدالة”، إحدى المجموعات الحقوقية النشطة في مجال الحريات بالضفة الغربية المحتلة، وثّقت خلال عام 2022 قرابة 1272 حالة اعتقال سياسي نفّذتها الأجهزة الأمنية الفلسطينية، في الوقت الذي وثّقت فيه تنفيذ ما يزيد عن 800 إلى 850 حالة اعتقال سياسي منذ بداية عام 2023.
لكن المثير بالنسبة إلى المجموعة، كما يتحدث مديرها مهند كراجة لـ”نون بوست”، أن الاعتقالات السياسية في السابق كانت تتركز في أوساط حركة حماس، إلا أن العام الأخير شهد تمددًا لتطال تنظيمات فلسطينية أخرى، من ضمنها الجهاد الإسلامي أو بعض كوادر فتح والجبهتَين الشعبية والديمقراطية.
ويشير إلى أن الاعتقالات السياسية تستهدف بدرجة أساسية المقاومين الفاعلين في المجموعات والخلايا المسلحة، فضلًا عن الأسرى المحررين من السجون الإسرائيلية، إلى جانب طلبة الجامعات الفلسطينية بالضفة على خلفية النشاطات الطلابية التي تجري.
هذا العام من أكثر الأعوام التي تنفذ فيها السلطة اعتقالات بحق الطلبة من كل الجامعات بالضفة
ووفق كراجة، فإن سجن المخابرات الفلسطينية في رام الله وسجن المخابرات في نابلس المعروف باسم الجنيد، من أكثر السجون التي وُثّق فيها سوء المعاملة واستخدام حالات التعذيب، وهو ما تم توثيقه في عدة حالات جراء الاعتقالات السياسية التي تنفذها أجهزة الأمن.
ويلفت مدير مجموعة “محامون من أجل العدالة” إلى أن هناك استخدامًا تعسفيًّا للتوقيف إلى جانب رفض لتنفيذ قرارات المحاكم، حيث جرى توثيق قرابة 50% أو أكثر لقرارات المحاكم، وفي أحيان أخرى لم يتم الالتزام بقرارات المحاكم بشكل نهائي من قبل الأجهزة الأمنية.
ويلفت إلى أن هذا العام من أكثر الأعوام التي تنفذ فيها السلطة اعتقالات بحق الطلبة من كل الجامعات بالضفة، سواء جامعة بيرزيت أو النجاح الوطنية أو الجامعات بالخليل وبيت لحم، وهو ما يعني أن غالبية الجامعات شهدت حالات اعتقال سياسي بحق الطلبة.
وينوّه كراجة إلى أن الملاحظ في التهم المستخدمة من الأجهزة الأمنية الفلسطينية بحق المعتقلين السياسيين، هو توجيه تهمة حيازة السلاح، فضلًا عن تهمة جمع أموال بطرق غير مشروعة، إلى جانب التحقيق معهم حول نشاطهم إما السياسي وإما العسكري.
ما موقف الفصائل؟
من جانبه، يقول المتحدث باسم حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين المحتلة، طارق سلمي، إن ما يحدث من قبل السلطة الفلسطينية هو مخالفة لجميع الأعراف الوطنية الفلسطينية، وخرق واضح لحالة الإجماع الداخلي على خيار المقاومة والمواجهة ضد الاحتلال الإسرائيلي.
ويؤكد سلمي لـ”نون بوست” على ضرورة الإفراج الفوري عن جميع المعتقلين السياسيين من سجون السلطة، ووقف التنسيق الأمني وإنهاء كافة الاتفاقيات الموقعة مع الاحتلال بكل أشكالها لا سيما المتعلقة بالشق الأمني، والسماح للمقاومة بحرية العمل بالضفة.
بدوره، يؤكد القيادي في حركة حماس بطولكرم، فتحي القرعاوي، إن ملف الاعتقال السياسي من الملفات المؤذية والمؤلمة في الحالة الفلسطينية، خصوصًا في حالة الضفة الغربية المحتلة، حيث يلاحق الفلسطيني من جهتَين، الأولى هي الاحتلال والثانية هي السلطة.
أما عن صفقات الأسلحة، فيتحدث القرعاوي لـ”نون بوست” قائلًا: “واشنطن والاحتلال يسعيان بكل قوة لدفع الحالة الفلسطينية الداخلية للاقتتال، وذلك بتكديس الأسلحة لدى الأجهزة الفلسطينية، وهو الأمر الذي يسعى الجميع لتجنبه وبالتالي يجب إنهاء التنسيق الأمني”.
الهدف الأساسي من نقل الأسلحة للسلطة جعلها شريكًا حقيقيًّا ومباشرًا في الصدام مع المقاومة الفلسطينية وليس شريكًا خفيًا
ويلفت القيادي في حركة حماس إلى أن هناك نوعيات وشخصيات في داخل السلطة تدفع باتجاه الاقتتال السياسي، وهذا أمر مرفوض وغير مقبول ويتطلب وقفة جادة من الكل الفلسطيني في التعامل مع ملف الأسلحة، أو حتى ملف الاعتقال السياسي ككل.
في الوقت ذاته، يتحدث النائب الثاني لرئيس المجلس التشريعي الفلسطيني وإحدى الشخصيات المستقلة، حسن خريشة، قائلًا: “هناك توافق وتفاهمات فلسطينية إسرائيلية برعاية أمريكية، لتنفيذ ما جرى الاتفاق عليه في شرم الشيخ والعقبة خلال الربع الأول من العام الحالي”.
ويقول خريشة لـ”نون بوست” إن هذه التفاهمات تجري على قدم وساق، في الوقت الذي يخترق الإسرائيليون التزاماتهم بين فترة وأخرى من اقتحامات متواصلة للمخيمات، سواء كانت في جنين أو في مخيم نور شمس أو مخيم عقبة جبر أو غيرها من المناطق.
ويشير إلى أن الهدف الأساسي من نقل الأسلحة للسلطة جعلها شريكًا حقيقيًّا ومباشرًا في الصدام مع المقاومة الفلسطينية وليس شريكًا خفيًا، فضلًا عن سعي أمريكي واضح إلى خلق فتنة داخلية واقتتال داخلي يدفع بالخلايا المقاومة للقتال ضد الأجهزة الأمنية.