قد يظن البعض أن تنظيم الدولة الإسلامية – دولة العراق الإسلامية – الذي لم يتمكن الجيش الأمريكي بمعية القوات العراقية والصحوات السنية من القضاء عليه خلال السنوات التي سبقت الثورات العربية، سينتهي بمجرد حسم معركتي الموصل والرقة على التوالي، إلا أن الحقيقة على خلاف ذلك.
انتهاء تنظيم الدولة بخسارة عاصمته العراقية، أمر صعب الحدوث، حتى إن كبار المسؤولين الغربيين سبق لهم وأن صرحوا في أكثر من مناسبة بأن مرحلة انتهاء مسك “الدولة” للأراضي ستعقبها أخرى لا تقل عنها خطورة ودموية وإرهابًا عابرًا للقارات، يحركها دافع الانتقام والإثخان والتنكيل بمن يعارضه.
أصبح سقوط الموصل عسكريًا بأكملها في قبضة القوات العراقية المدعومة بالميليشيات الشيعية، مسألة وقت فحسب
أصبح سقوط الموصل عسكريًا بأكملها في قبضة القوات العراقية المدعومة بالميليشيات الشيعية، مسألة وقت فحسب، ومن المؤكد أن تنظيم الدولة الإسلامية أعد العدة والخطط البديلة، خاصة أن البيئة العراقية ستظل مثالية لتنامي شعبيته وتجنيد مقاتلين جدد وذئاب منفردة قادرين على شن هجمات مميتة داخل الموصل وخارجها، وما حصل في الجانب الأيسر المحرر، أبرز دليل على صدق ما نقول.
في 24 من شهر يناير الماضي، أعلن رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي، سقوط الجانب الأيسر بالكامل في قبضة القوات العراقية، ليخرج المتحدث باسم قيادة العمليات المشتركة العميد يحيى رسول الذي كان متفائلاً أكثر من اللازم، مصرحًا بأن قواته تعد لعملية خلال اليومين أو الثلاثة أيام المقبلة لدعم عملية استعادة الضفة اليمنى من المدينة على الجانب الغربي من نهر دجلة، وهو ما لم يحدث إلا بعد 4 أسابيع من تصريحه.
الجانب الأيسر الذي عرف عمليات انتحارية وهجمات متزامنة على القوات والميليشيات العراقية أوقعت عشرات القتلى والجرحى بعد التحرير، نفذتها خلايا التنظيم النائمة والمترصدة للفرص السانحة لـ”الإثخان في العدو”، كشف للمتابعين عن خسائر غير مسبوقة في صفوف قوات النخبة وعلى رأسها لواء الرد السريع والفرقة الذهبية وقوات مكافحة الإرهاب، وهو ما استدعى سحبها من عدة جبهات قتال مشتعلة، وتغيير خطط الهجوم في أكثر من مناسبة.
البداية شبه السهلة لمعركة استعادة الجانب الأيسر، عرفت بداية متعثرة في معارك الضفة اليمنى، فبعد أسبوع من انطلاق المعارك، كشفت تقارير إعلامية استنادًا إلى مراسلين ميدانيين، عن خسائر كبيرة في صفوف القوات المهاجمة إضافة إلى العتاد الحربي، كما نشرت وكالة أعماق التابعة لتنظيم الدولة في أكثر من مناسبة أخبارًا متفرقة عن قتل مسلحي التنظيم للعشرات من أفراد القوات العراقية وتدمير عديد من الهامرات والدبابات والعربات المصفحة.
صحيح أن تنظيم الدولة كان قد فقد خلال الأيام الأولى للهجوم على الجانب الأيمن، المطار ومعسكر الغزلاني وهو ما كان متوقعًا نظرًا لكون المكانان غير مناسبين لخوض حرب الشوارع التي يجيدها مقاتلوه، كما أنهما مكشوفان بحيث يسهل ضرب أي تحصينات أعدها داخلهما، لكنه في الوقت نفسه، أظهر مقاومة شرسة داخل أحياء الطيران والمأمون والدندان والجوسق وغيرها، كما منع ميليشيات الحشد الشعبي من السيطرة على مدينة تلعفر رغم أشهر من المعارك المشتعلة.
معارك الجانب الأيمن تبدو مختلفة جدًا عن الأيسر، فالأحياء الضيقة للمدينة ستكون بلا شك متاريسًا لمقاتلي “الدولة”، فالعربات المصفحة والهامرات التي تستخدمها القوات والميليشيات العراقية المهاجمة، لا يمكنها التنقل داخل أزقة الموصل القديمة
معارك الجانب الأيمن تبدو مختلفة جدًا عن الأيسر، فالأحياء الضيقة للمدينة ستكون بلا شك متاريسًا لمقاتلي “الدولة”، فالعربات المصفحة والهامرات التي تستخدمها القوات والميليشيات العراقية المهاجمة، لا يمكنها التنقل داخل أزقة الموصل القديمة، كما أن الطائرات لا يمكنها التمييز بين العدو والصديق خلال عمليات القصف، ناهيك عن تأكيد تقارير استخباراتية استعداد التنظيم لخوض معارك استنزاف طويلة بفضل شبكة الأنفاق وخطوط الدفاع الممتدة داخل أغلب أحياء المدينة.
الجيش العراقي المنهك والذي خسر أكثر من ثلث القوات الخاصة المدربة أمريكيًا والمجهزة بأحدث الأسلحة، إضافة إلى فقدانه أكثر من 10 آلاف من عناصره بين قتيل وجريح، ومئات العربات المدرعة والهامرات جراء معارك الجانب الأيسر التي استمرت أكثر من 3 أشهر، يبدو عاجزًا اليوم حتى وإن تمكن من استرجاع الموصل كاملة، على فرض الأمن وإعادة الحياة إلى ما كانت عليه قبل سياسة الأرض المحروقة التي انتهجتها طائرات التحالف الدولي، وخير دليل على ذلك، سماحه لميليشيات الحشد الشعبي بالدخول إلى المناطق المحررة وتنفيذ سلسلة من الإعدامات الجماعية والاعتقالات التعسفية بحق المدنيين.
سيخرج تنظيم الدولة من مرحلة “تسيير شؤون الدولة والرعية”، إلى مرحلة “الحرب الأمنية”
على صعيد آخر، سيخرج تنظيم الدولة من مرحلة “تسيير شؤون الدولة والرعية”، إلى مرحلة “الحرب الأمنية”، والأخيرة ستكون أخطر على القوات العراقية بلا شك من المواجهات العسكرية المباشرة التي سبقت استعادة المدن، حيث سيعود التنظيم إلى صحاري الأنبار لتكون قاعة للعمليات وقاعدة لانطلاق “الغزوات”، التي عجزت عن إيقافها القوات العراقية والأمريكية قبل انطلاق الثورة السورية التي أخرجت الحدود السورية العراقية عن السيطرة كليًا.
إن استراتيجية تنظيم الدولة اليوم تعتمد على الحفاظ على العنصر البشري والمادي والسلاح أكثر من مسك الأرض التي يرى قادته أن استعادتها ستكون مسألة وقت لا أكثر نظرًا لقراءتهم الخاصة المبنية على تناقض أهداف الأطراف المتصارعة في سوريا وتواصل الانتهاكات والسياسات الطائفية في العراق، لهذا لم تتمكن القوات العراقية رغم استعادتها كامل الساحل الأيسر، من العثور على عدد كبير من الأسلحة الثقيلة التي لطالما قام التنظيم باستعراضها في إصداراته المرئية، مما يؤكد نقلها إلى داخل الأراضي السورية وتخبئة بعضها في أماكن سرية في القرى المتفرقة التي لا يزال التنظيم يبسط سيطرته عليها في الأنبار.
المعركة بين تنظيم الدولة الإسلامية والدولة العراقية وحليفتها الإيرانية والتحالف الدولي ستطول، والخطر القادم من جانب الموصل الأيمن سيكون فتاكًا ومدمرًا، ولا نقول هذا رجمًا بالغيب، وإنما استقراء لسير المعارك خلال الأيام الماضية، وطبيعة المعركة اللامتوازنة واللامتوازية، لذلك فإن تنظيم الدولة لن ينتهي ما دامت الحدود السورية العراقية المعروفة بصحاريها المفتوحة والمترامية الأطراف خارج نطاق السيطرة، وما دامت المليشيات الشيعية تمارس هوايتها المفضلة من خلال القتل والتهجير والاعتقال باسم الطائفة والمنهج وعلي وفاطمة والحسين.