حين تولى الضابط السابق بالقوات الجوية حكم مصر في ظروف طارئة، توقع الكثيرون أنه سيكون مجرد رئيس انتقالي لفترة قصيرة إلى أن تستقر الأمور، وبحسب أستاذ الاقتصاد الراحل سامر سليمان، فإن التشكك في قدرات مبارك على البقاء في الحكم كانت نابعة من ضعف كفاءته السياسية، وعدم قدرته على التحدث ومواجهة الجماهير بشكل تلقائي، فلم يكن مبارك صاحب زعامة إذ افتقر إلى كاريزما ناصر وتلقائية السادات.
رغم ذلك، استطاع مبارك أن يجدد من استراتيجية حكم الفرد المستبد، وأثبت قدرة وجهدًا ماكرًا، حافظ من خلالهما على البقاء لمدة طويلة، كما نجح نسبيًّا في التكيُّف مع الأزمات والمتغيرات، فرغم كل المعاناة التي سبّبها للمجتمع المصري، وحالة الشلل التي أوصل الدولة إليها، استطاع أن يعيد إنتاج نفسه ويسيطر على مقاليد الحكم لـ 3 عقود.
ربما يكون أحد أفضل الدراسات التي تفسر لنا كيف صمد مبارك طول هذه الفترة الطويلة من الدكتاتورية، هي رسالة دكتوراه “النظام القوي والدولة الضعيفة: إدارة الأزمة المالية والتغيير السياسي في عهد مبارك” لأستاذ الاقتصاد سامر سليمان، والتي سنلقي الضوء على أهم ما جاء بين طياتها.
المقايضة: الراعي والخروف
في عهد الجمهورية، وخلال العقد الأول من الحكم العسكري، أراد عبد الناصر أن يحكم مصر باستقلال عن المجتمع ودون مقاومة وخسائر كبيرة، وفي الوقت نفسه يخلق أتباعًا مخلصين له، فأسّس ناصر لعقد اجتماعي جديد يقوم على التزام الدولة بتقديم الوظائف والعطايا وبعض الخدمات الأساسية للمجتمع، كالدعم السلعي والرعاية الصحية، مقابل أن يتقبّل الأخير استبداد وقمع النظام، ويمتنع عن المشاركة والمطالبة بحقوقه السياسية، أو بتعبير سليمان: “مقايضة الحقوق الاجتماعية بالحقوق السياسية”.
كتب سليمان: “اعتمد النظام على المال والخدمات في شراء التأييد السياسي وفرض سيطرته على المجتمع، هذا ميراث ناصري بامتياز، وطابع أصيل في النظام السياسي الذي أسّسه عبد الناصر، أن يحصل النظام على التأييد بواسطة توزيع بعض المكاسب المادية، مثل الوظائف والخدمات الاجتماعية”، (ص 252).
كانت هذه المقايضة هي قوة وأداة ناصر في إقامة نظامه السياسي وتحقيق الاستقرار الاجتماعي، لكن مع ذلك عجز في أوقات عديدة عن الالتزام الكامل بها، إذ واجه مشكلة دائمًا في الحاجة إلى الموارد.
وفي الواقع، أثبت ناصر فشله في تنفيذ مشاريع تنموية حقيقية، فلم يستطع أن ينقل البلاد من الاعتماد على إيرادات خارجية مثل قناة السويس والبترول إلى دولة صناعية منتجة، فكان الحل الذي اعتمده ناصر وسار خلفاؤه من بعده عليه إلى اليوم، هو طلب المعونة والدعم من الخارج.
اعتمدت البلد في عهده بشكل كامل على المساعدات الخارجية، واحتلت مصر المرتبة الأولي في العالم من حيث المساعدات السوفيتية، أما في عهدَي السادات ومبارك فقد احتلت المرتبة الثانية من حيث المساعدات الأمريكية، وفي عهد السيسي احتلت المرتبة الثالثة بعد “إسرائيل” والعراق.
رغم هذه المساعدات الدولية الكبيرة التي حصل النظام عليها، إلا أنه فشل في تحقيق تنمية حقيقية، وبرر النظام ذلك بأن مصادر الريع تقلصت وأعداد السكان تزايدت، وبدأ النظام ينفلت تدريجيًّا من فلسفة المقايضة التي أرسى ناصر دعائمها، فمن الجانب الأول نجح النظام في أن يظل في سدة الحكم، وهو الهدف الأساسي لنظام المقايضة، أما من الجانب الثاني فقد أفشل النظام مؤسسات الدولة، وقلص من الخدمات التي كان يقدمها للشرائح الأقل.
استخدم سليمان تعريف مارغريت ليفي لـ”الدولة المفترسة”، والتي يعرّفها بأنها دولة تجبي الأموال من المجتمع بالقوة، وتضع الإيرادات والضرائب فوق أي اعتبار آخر، لجمع المزيد من المال من جيوب المجتمع
نتج عن ذلك تغيير عميق في توازن وبنية المجتمع الضعيف، فهذه المرة لم يُحرم المجتمع فقط من حقوقه السياسية، بل حُرم كذلك من حقوقه الاجتماعية، إذ فجأة وجدت بعض فئات المجتمع نفسها في أسفل السلَّم الاجتماعي، ولم تكن لديها القدرة على إحداث أي تغيير جوهري، بل إن الدولة نفسها استدارت للمجتمع الذي أضعفته واستقطعت الأموال من جيبه بغرض خدمة الاستبداد، أو بتعبير سليمان: “نهاية الدولة الريعية-الرعوية، وصعود دولة الجباية”.
لوصف الحالة التي وصل إليها النظام، استخدم سليمان تعريف مارغريت ليفي لـ”الدولة المفترسة”، والتي يعرّفها بأنها دولة تجبي الأموال من المجتمع بالقوة، وتضع الإيرادات والضرائب فوق أي اعتبار آخر، وسوف تفعل أي شيء لجمع المزيد من المال من جيوب المجتمع، حتى بوسائل غير دستورية أو حتى عن طريق تدمير الاقتصاد على حساب بقاء النظام.
البخار: القتل البطيء
“ظلت بعض الثوابت للنظام المصري قائمة وعلى رأسها الطبيعة الاستبدادية، وقد كان الميل الاستبدادي يقلّ مع قدوم الرئيس الجديد، ولكنه سرعان ما كان يزيد من جديد”، (ص 29).
استلم السادات دولة متضخمة من عبد الناصر، وسلمها أكثر تضخمًا إلى مبارك، والذي لم يجد بدًّا هو أيضًا من أن يتركها تتضخم، وبحسب سليمان بدأ مبارك حكمه بتلطيف الأزمة الاقتصادية التي بدأت منذ عهد السادات، وبدلًا من تبني خطاب التحرر الاقتصادي تبنى مبارك خطاب “التخطيط الاقتصادي” وصور نفسه كحامي الفقراء، رغم ذلك استمر في خفض تدريجي للدعم السلعي المخصص لمحدودي الدخل، لكن هذه المرة دون أن يواجه قلاقل سياسية أو ردود أفعال ضده كالتي واجهها السادات.
يفسّر سليمان سبب ذلك بأن انتفاضة الخبز عام 1977 أثّرت على مبارك، إذا كان الدرس الأساسي منها هو أن تخفيض الدعم بشكل كامل ستكون نتيجته انفجارات اجتماعية شديدة، لهذا كان التدرج البطيء في رفع الأسعار وتخفيض الدعم هو المبدأ المقدس الذي طبّقه مبارك بكل إخلاص.
لكن كيف تعامل مبارك في تسيير الأمور الأخرى لشؤون المجتمع؟ يوضّح سليمان أن استراتيجية مبارك اعتمدت على التحاشي بكل الطرق مواجهة الحقائق وتسمية الأشياء بمسمياتها، والصبر على المشكلة حتى تتفكّك وتفقد زخمها، لذا كانت طريقته في الغالب طريقة “الجمود المؤسسي”، بحيث يتم تثبيت الأمور على الورق فقط، وترك الأمور تتغير في الواقع بشكل بطيء وتدريجي، ويرى سليمان أن هذه الطريقة هي التي حققت لمبارك الاستقرار السياسي الذي كان ينشده، لكنها بالتأكيد لم تحقق للمجتمع إلا الانهيار على كافة المستويات.
على سبيل المثال، رفض مبارك إلغاء مبدأ مجانية التعليم، أو تبني الحل الليبرالي أو اليساري لمشكلة التعليم، لكنه في المقابل أفرغه تمامًا من محتواه، حيث احتفظت مصر ظاهريًّا أو على الورق بنظام تعليم مجاني متاح للجميع، لكن في الوقت نفسه هذا التعليم يقدم خدمة رديئة، تكون نتيجتها تخريج أجيال من أشباه الأمّيين، وبالتالي من يريد تعليمًا حقيقيًّا عليه أن يدفع، وبهذا أصبح المجتمع نفسه هو من يدفع ثمن التعليم وينفق على إعاشة المدرّسين وعائلاتهم لا الدولة.
كما حاول مبارك معالجة غياب المساحات السياسية بإعطاء القضاء استقلالًا نسبيًّا، إذ يوضح سليمان أن هذا الدور الذي أعطاه مبارك للقضاء ينضوي على استراتيجيات السلطة في عدم تسييس المجتمع، فبدلًا من أن يناهض الناس النظام في المجال السياسي العام، فإنهم يتوجهون للتعبير عن معارضتهم في ساحات المحاكم، وحسب سليمان هذه الاستراتيجية نجحت في إطالة أمد نظام مبارك.
ترتيب الأولويات: المنطق الأمني
لكي يضمن مبارك تأمين حكمه، ركّز بشكل أساسي على فئتَين اجتماعيتَين، الأولى رجال الأعمال، ويوضّح سليمان أن مبارك عند وصوله إلى السلطة أراد أن يقلم أظافر برجوازية الانفتاح المرتبطة بالسادات، وفي الوقت نفسه أن يشيع جوًّا من الاعتقاد بأن الرئيس الجديد نزيه ولن يتسامح أبدًا مع الفساد.
وبما أن هؤلاء الرأسماليين كانوا صنيعة نظام السادات، كان عليهم إذًا أن يخلوا الساحة لرأسماليين آخرين يصنعهم مبارك، ليلعبوا دورًا في دعم الاستبداد وتحقيق مصالحهم الخاصة، فصدر في التسعينيات قانون يسمح لرجال الأعمال بالترشح للانتخابات دون حتى الانضمام إلى حزب سياسي، وفي وقت لاحق أنشأ الحزب الوطني جناحًا منفصلًا لتعزيز العلاقات مع رجال الأعمال وتسهيل دخولهم إلى السياسة.
ولأول مرة منذ وصول الضباط إلى السلطة عام 1952، شغل رجال أعمال مناصب رئاسة لجان بمجلس الشعب، لكن إذا تعارضت مصالح رجال الأعمال مع فرص بقاء مبارك فإنه يقف ضدهم، ما يدل على أنه رغم صعود الرأسمالية وتحوّلها من مالكة إلى حاكمة، كان مبارك ممسكًا بالعديد من أوراق اللعبة.
أما الفئة الثانية كانت الأجهزة الأمنية والرقابية، حيث زاد مبارك من مخصصات القوات المسلحة التي ارتفعت منذ بداية الثمانينيات، وسمح لها بتعبئة مواردها الخاصة من خلال الاستثمار الواسع في مجالات القطاع المدني، ويرجّح البعض أن تلك الزيادة كانت بهدف ضمان ولاء الجيش بعد أن قلص السادات من نفوذه السياسي، وتمكن مبارك نفسه من التخلص من وزير الدفاع القوي المشير أبو غزالة.
كما ضاعف مبارك أيضًا من الإنفاق على وزارة الداخلية، لا سيما قوات الأمن المركزي، وغضّ النظر عن تجاوزات رجال الشرطة ضد المواطنين التي زادت منذ التسعينيات، الأمر الذي زاد من الطابع البوليسي للدولة المصرية.
يقدم سليمان قراءة سياسية للموازنة العامة للدولة في ظل نظام مبارك، فيضع تصنيفًا لما يسمّيه “الإنفاق على حجّة الإقناع” و”الإنفاق على السيطرة”، الأول يشمل نفقات أجهزة الدولة الأيديولوجية كوزراة الثقافة والأوقاف، وهنا يشير سليمان إلى أن نظام مبارك زاد من الإنفاق على الثقافة والدين، وأمّم الكثير من المساجد الأهلية بهدف ضمان الشرعية الدينية لحكمه، وحارب الحركات الإسلامية التي كان بعضها في صدام مسلح مع النظام، وفي الوقت نفسه أسّست زوجة الرئيس مشروع “مكتبة الأسرة” بهدف كسب تأييد المثقفين.
بينما “الإنفاق على السيطرة” يشمل الدفاع والداخلية، فالمؤسسات التي حصلت على أعلى النفقات والأجور في الدولة هي الأجهزة الأمنية والدفاع والقضاء والخارجية والأجهزة الرقابية، باعتبار أنها تمسك خزانة معلومات حسّاسة عن النظام، لهذا ولاؤها يجب أن يكون مضمونًا، كما تم أيضًا رفع مرتبات العاملين بقناة السويس والبترول، فهاتان الفئتان تديران نشاطات تعود على الدولة بموارد كبيرة، الأمر الذي يسمح لها باستقطاع جزء منها لنفسها.
استمر مبارك على فلسفة السادات في الاستدانة من الخارج ومن الداخل، وعلى إثر ذلك دخلت البلاد منذ منتصف الثمانينيات في ثاني أعنف أزمة مالية بعد أزمة المديونية في عهد الخديوي إسماعيل
وبرأي سليمان الأجور في مصر مرتبطة بالمكانة، فالمؤسسات التي تحصل على أعلى الأجور هي غالبًا التي تحظى بالمكانة الأقرب لدى النظام، فإذا كان العاملون بالمؤسسات الأمنية يحصلون على أعلى الأجور في الدولة، فإن ذلك مرتبط بمكانتهم المركزية في النظام السياسي والتي لا ينازعهم فيها أحد.
عكس مثلًا المدرّسين الذين لم يكن لهم مكان داخل النظام السياسي، فتأييدهم للنظام ليس حاسمًا في بقائه مثل الفئات الأمنية، كما أنهم لا يأتون بموارد للدولة، لذا يجادل سليمان أن من الصعب على النظام رفع أجور الفئات الأخرى في المجتمع بشكل قريب من الفئات الأمنية، لأنه في هذه الحالة سيُعلي من شأن الوظيفة التنموية على حساب الوظيفة الأمنية، وهذا بالتأكيد يصعب تنفيذه على نظام مبارك الحاكم بالمنطق الأمني.
فحتى حين قدّم مبارك علاوة لموظفي القطاع العام من الفقراء، في الوقت نفسه خفض الدعم ورفع من سعر الوقود، أي أن ما قدمه من علاوات باليد اليمنى أخذه منهم باليد اليسرى، بجانب خلق مبارك لبعض الوظائف الوهمية المنخفضة الأجر لاحتواء بعض الغضب الشعبي، وبحسب سليمان هذه المعادلة التي طبّقها مبارك بحِرفية، مكّنته من الاستمرار في سياسته الفاسدة دون أن يواجه معارضة قوية، كما نجح أيضًا من خلال هذه السياسة في تحويل الطبقات الأدنى لمجرد صورة أو مونتاج لآلته الدعائية.
لكن اللافت أن المنطق الأمني في عهد مبارك توغّل أيضًا في إدارة النظام المصرفي بشكل فجّ، وتمّت إدارة أموال ومدخرات المجتمع إلى حد كبير بهذا المنطق، إذ يشير سليمان إلى أن إمساك النظام بالقطاع المصرفي يعدّ أهم أداة للسيطرة على المجتمع وعلى رجال الأعمال، فرغم إلحاح المؤسسات الدولية على أهمية خصخصة البنوك من أجل تحرير الاقتصاد، إلا أن النظام ظل صامدًا في هذه المسألة تحديدًا.
كما يذكر سليمان على سبيل المثال أن القروض كانت لا تعطى وفقًا لمنطق الرشادة الاقتصادية ودراسات جدوى حقيقية، إنما وفقًا لقدرة رجل الأعمال على إقامة علاقات وثيقة مع النظام، ويرى سليمان أن هذا المنطق الأمني في إدارة النظام المصرفي هو الذي أوصل النظام إلى الأزمة التي دخل فيها ولم يستطع الخروج منها إلى اليوم.
في المجمل، انعكست سيطرة المنطق الأمني على كل شيء، وكان مبارك سريع وقوي الاستجابة لمقتضيات الأمن أكثر من مقتضيات التنمية الاقتصادية، فكما أعلن مفيد شهاب، رئيس لجنة الأمن القومي بمجلس الشعب، أن “البُعد الأمني يكون حاضرًا في كل مشاريع التنمية”، أي أن أجهزة الأمن لديها سلطة “الفيتو” على أية قرارات اقتصادية، وبالتالي كانت النتيجة الطبيعية حرمان المجتمع من حقوقه الأساسية، وانتشار ظاهرة الرشوة والفساد المنظَّم على كل المستويات حتى أصبحت هي القاعدة في التعاملات.
شحاذ دولي: لماذا تفشل برامج الإصلاح الاقتصادي في مصر؟
“المعونات الخارجية لا يمكن أن تعوّض غياب سياسات داخلية تؤسّس الشروط اللازمة للتنمية”، (ص 19).
استمر مبارك على فلسفة السادات في الاستدانة من الخارج ومن الداخل، وعلى إثر ذلك دخلت البلاد منذ منتصف الثمانينيات في ثاني أعنف أزمة مالية بعد أزمة المديونية في عهد الخديوي إسماعيل، فمن جهة عجز النظام عن الوفاء بنظام المقايضة تجاه المجتمع، ومن الجهة الثانية انخفضت أسعار البترول وتعرضت الدولة لأزمة مالية نتيجة التخلف عن سداد الديون.
بدا مبارك عاجزًا أمام هذا الوضع الخانق، فقامت الدولة بتمويل العجز من خلال طباعة المزيد من النقود، الأمر الذي انعكس في نسبة التضخم التي تعدّت 20% في أواخر الثمانينيات، وبتعبير سليمان تحول النظام في ذلك الوقت إلى “شحاذ دولي” يبحث عن التمويل بأي شكل وفي كل الاتجاهات.
ورغم أن المراقبين لم يتوقعوا أن تحدث المعجزة قريبًا، حيث وصلت مصر في عام 1990 إلى حافة الإفلاس، وتوقفت عن سداد ديونها الخارجية، إلا أن النجدة جاءت حين اجتاح صدام حسين الكويت، هنا حصل مبارك على فرصته ولم يجد أي حرج في أن يشارك الجيش المصري بجانب الجيش الأمريكي في حرب الخليج ضد صدام حسين مقابل إسقاط نصف الديون، وكان الجيش المصري هو ثاني أكبر قوة عسكرية بعد أمريكا.
أتى دعم مبارك بثماره، أي أن غزو العراق للكويت كان بمثابة المعجزة التي أنقذت مبارك من أزمة اقتصادية حادة، فقدّمت بعض الدول الخليجية مساعدات مالية كبيرة، وأسقطت الدول الغربية حوالي نصف ديون مصر، وتمّت جدولة الديون الأخرى مقابل بعض التنازلات السياسية والاقتصادية، إذ اضطر مبارك إلى توقيع اتفاق إصلاح اقتصادي مع كل من صندوق النقد والبنك الدولي.
رغم أن الاقتصاد المصري انتعش نسبيًّا في هذه الفترة، سمّاها البعض بـ”شهور العسل”، وأطلق عليها سليمان “الهدنة القصيرة”، كما بدأ الجميع يتحدث عن صعود “النمر المصري”، لكن سرعان ما عاد الاقتصاد إلى الدائرة التاريخية نفسها منذ عام 1952، ولم يحقق المنتظر منه وضاعت فرص كبيرة على الدولة.
يفسّر سليمان ذلك بأن النظام لم يعمل على تنمية إيرادات الدولة، واعتمد فقط على المساعدات الخارجية والإيرادات الريعية مثل إيرادات البترول وقناة السويس، والتي يعتبرها سليمان بمثابة القوة المحركة لمالية النظام.
إن ميراث وتجربة مبارك خلال العقود الثلاثة الماضية وملامح الوضع الاقتصادي لمصر في عهده، لم تختلف كثيرًا عن تجربة السيسي الحالية، إذ إن هناك استمرارًا على الممارسات والسياسات نفسها والإصرار نفسه على المنطق الأمني
من جانب آخر، لم يخفض النظام من نفقاته حتى تتواءم مع الإيرادات، وزاد الإنفاق على توطيد أركان حكمه، مع ميله المزمن نحو الاستدانة من الخارج أو من الداخل، وبالتالي حسب سليمان هذا ما جعل عجز الموازنة يواصل اتجاهه الصاعد، بجانب التضخم والانهيار في سعر العملة.
أما نزيه الأيوبي فيعتقد أن فشل الإصلاح الاقتصادي راجع إلى تناقضات النظام الحاكم نفسه، إذ يرى أن مبارك ركّز على تنمية الأجهزة التي تساعده على الاستقرار في الحكم، واستطاع شراء رضا قطاعات محددة، ما سمح له بالسيطرة على المجتمع واحتواء الجماعات التي تمتلك طموحًا سياسيًّا كبيرًا.
بينما يؤكد كليمنت هنري، رئيس قسم العلوم السياسية بالجامعة الأمريكية، أن سياسة الإصلاح والتحرر الاقتصادي في مصر ليست إلا استراتيجية لتجديد حكم النظام المستبد، حيث ظلت المؤسسات الأمنية تبتلع الجزء الأكبر من الإيرادات، ووجّهت باقي النفقات في اتجاه السيطرة السياسية.
على كل حال، سعى مبارك بعد هذا الفشل إلى حل الأزمة عبر المساعدات الخارجية والقروض الداخلية، بجانب تعبئة إيرادات جديدة من خلال اللجوء لضريبة التضخم، ثم الضريبة العامة على المبيعات، هذا إضافة إلى وسائل أخرى، وفي بعض الأحيان لجأ إلى إجراءات غير شرعية وغير دستورية، وغضّ النظر تمامًا عمّا يترتّب عنها سياسيًّا واقتصاديًّا، مثل الضريبة على المصريين العاملين في الخارج بالقطاعَين العام والخاص، لكن كل هذه الوسائل أثبتت فشلها في إيقاف تدهور الأزمة.
يمكن القول من خلال الطرح السابق وفي ضوء ما قدمه سامر سليمان، إن ميراث وتجربة مبارك خلال العقود الثلاثة الماضية وملامح الوضع الاقتصادي لمصر في عهده، لم تختلف كثيرًا عن تجربة السيسي الحالية، إذ إن هناك استمرارًا على الممارسات والسياسات نفسها والإصرار نفسه على المنطق الأمني، وأيضًا هناك تشابه في المعطيات والنتائج، وبالتالي من المستحيل فعلًا أن نخرج بنتيجة مختلفة.
ولا تبدو أن هناك محاولات جادة للخروج عن تقاليد الاستبداد وإصلاح ما أفسده نظام يوليو من المزيد من الإفقار والتهميش، طالما ظلت عقدة النظام القوي والمجتمع المقهور موجودة.