تتوالى التسريبات للصحف العالمية التي تهتم بالشأن العربي والشرق أوسطي، عن السيناريوهات المتوقعة للمنطقة، والتي تنوي الولايات المتحدة بقيادة ترمب تنفيذها، والسبب وراء إعطاء تلك الصحف الأهمية القصوى لتلك التسريبات، هي تجربة الأيام القليلة التي أمضاها ترمب في رئاسته، والاندفاعة القوية التي تتملكه لتطبيق ما وعد به في حملته الانتخابية، على الرغم من معارضة الكثير من مؤسسات الدولة العميقة في الولايات المتحدة لتوجهاته وخصومة الإعلام الأمريكي لهذا الرئيس الجديد، مدفوعًا من كل اللوبيات التي تراعي مصالح الدول المتضررة من سياسة الرئيس الجديد، ذلك الرئيس الذي أحاط نفسه بجنرالات سابقين ليستمد منهم القوة بسياسته، داخليةً كانت أو خارجية، وليضفي على قراراته طابع الصرامة العسكرية في تنفيذها.
وعلى الأغلب أول ما سيتبادر إلى ذهن القارئ هو أن تلك السيناريوهات موجهة إلى إيران وحلفائها بالمنطقة، نظرًا لأن أول تصادم قام به ترمب في سياسته الخارجية كان معها، وأن الساحة المفضلة لكلا الطرفين لتسوية حساباتهما، هي العراقية، ذلك البلد الي يخضع لنفوذ الدولتين بنفس الوقت.
ما تلك التسريبات؟
تفيد تلك التسريبات أن الولايات المتحدة عازمة على ترتيب الأوضاع في العراق بالشكل الذي يراعي مصالحها أولًا، حتى لو كان ذلك على حساب مصالح إيران والتي كانت قبل فترة وجيزة حليفًا مهمًا لأمريكا في العراق بعهد أوباما، وحسب ما أوردته صحيفة “العربي الجديد”، تضمنت المبادرة، بنودًا عدة، من أبرزها:
“ضمان وحدة العراق وعدم تقسيمه على أسس طائفية أو دينية أو عرقية، التزام دولي بدعم الجيش العراقي والأجهزة الأمنية، ترسيخ أسس العملية الديمقراطية في البلاد، العمل على معالجة آثار الحرب الحالية مع الإرهاب، وقف التدخلات الإقليمية في شؤونه الداخلية، وضع جدول زمني لمعالجة ملف المليشيات ودمجها بوظائف أمنية أو عسكرية أو مدنية، إصلاح السلطة القضائية في البلاد، محو آثار التغيير الديموغرافي، وإعادة جميع المهجرين إلى منازلهم من دون قيد أو شرط”.[1]، وذكرت الصحيفة أيضًا ونقلًا عن نفس مصدر التسريبات، أن من المفترض أن تقدم المبادرة إلى مجلس الأمن الدولي بغية إقرارها، وإلزام الدول بفقراتها وفرض عقوبات على أي جهة يثبت تدخلها بالشأن العراقي.
التحركات على الأرض التي تدعم تلك التسريبات
هناك جملة من التغيرات التي تحدث على الأرض في العراق، يمكن تفسيرها على أنها داعمة لمصداقية تلك التسريبات، نلاحظها في عملية تحرير الموصل مثلًا، ففي الوقت الذي قال الجنرال الأمريكي ستيفن تاونسند قائد القوات الأمريكية في العراق، إنه يعتقد أن القوات المدعومة من الولايات المتحدة سوف تنتزع السيطرة على الموصل (أحد أهم معاقل تنظيم الدولة الإسلامية) في غضون ستة أشهر، بينما لم تمض سوى بضعة أيام على بدء الهجوم على الجانب الأيمن من مدينة الموصل، عَمِدت القيادة الأمريكية إلى تغيير خططها وتكتيكاتها، لتسريع التقدم العسكري للقوات المهاجمة، للدرجة التي جعلت القوات الأمريكية البرية تشارك بالقتال إلى جانب القوات العراقية.
ذلك ما ذكره موقع “نون بوست” في مقالة مترجمة من صحيفة “واشنطن بوست” (إن الولايات المتحدة غيَّرت من قواعد الاشتباك الخاصة بقواتها، لتغدو القوات الأمريكية وبقية قوات التحالف، أقرب إلى خط المواجهة أكثر من أي وقت مضى)[2] وبهذا الصدد أكد رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي، في تصريحات له، أن عملية تحرير الجانب الأيمن لمدينة الموصل تسير بوتيرة أسرع مما هو مخطط لها، مما يثبت وجهة النظر التي تفيد أن الأمريكان يرغبون بتسريع عملية تحرير الموصل، والغاية من تسريع حسم المعركة بالموصل كما هو واضح، هو التفرغ لخطط ما بعد داعش.
ومن الملاحظات الأخرى على هذه المعركة، تضارب الإرادة الإيرانية مع الإرادة العسكرية الأمريكية، حيث كانت تقتضي الخطط الإيرانية بمحاصرة مقاتلي تنظيم الدولة في مدينة الموصل عبر قطع الطريق عليهم إلى سوريا بواسطة الحشد الشعبي، وبالتالي سوف يحاصر مسلحي التنظيم في داخل المدينة، مما يجعلهم يقاتلون بكل قوتهم، مسببًا دمارًا هائلًا للمدينة، وجعلها غير صالحة للسكن تمامًا.
وهذا بالضبط ما تريده القيادة الإيرانية وفق خططها بالتغير الديمغرافي للمناطق السنية، لكن الخطط الأمريكية جاءت على عكس ما يتمناه الإيرانيون، وذلك من خلال جعل الطريق الواصل إلى سوريا مفتوح لإجبار مقاتلي التنظيم على الهروب إلى قواعدهم الموجودة في سوريا، مما سيشكل ثقلاً عسكريًا كبيرًا على حليف إيران المتمثل بالنظام السوري وعلى القوات والمليشيات الموالية لإيران هناك.
عمدت القوات الأمريكية إلى وقف أي عملية من شأنها استيلاء مسلحي الحشد الشعبي على مدينة تلعفر ذات الأهمية القصوى لإيران
كما عمدت القوات الأمريكية إلى وقف أي عملية من شأنها استيلاء مسلحي الحشد الشعبي على مدينة تلعفر ذات الأهمية القصوى لإيران، كونها تقع على الطريق الذي تريده إيران ليربطها بريًا بسوريا، أضف إلى ذلك، أن طموحات إيران لهذه المنطقة، هو جعلها نقطة تجمع وانطلاق للقوات الموالية لها إلى كل الأراضي السنية في البلدين المتجاورين، العراق وسوريا.
هذا ما جعل مجاميع المليشيات، تتهم القوات الأمريكية بمساعدة مسلحي تنظيم الدولة، من خلال إمدادهم بالسلاح والمؤن من الجو، جاء ذلك في بيان لميليشيا “كتائب حزب الله” حيث ورد فيه: “تعلن كتائب حزب الله رصدها لإنزال برشوتات جوية لطائرات التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، فوق مناطق قضاء تلعفر غرب الموصل، ورجح خبراء أمنيون أنها تتضمن صناديق تحتوي على أسلحة ومعدات حربية لعناصر داعش”[3].
وهذا يفسر لنا السر في تأخر البدء بالهجوم على تلعفر من قبل المليشيات الموجودة هناك، ذلك لأن الإرادة الأمريكية لا تريد للحشد الشعبي الدخول في هذه المدينة لينفذ أجندة إيران فيها، إنما تريد القوات الأمريكية دفع مسلحي تنظيم الدولة للهرب إلى سوريا دون قتال، مثلما حدث في معركة مطار الموصل ومعسكر الغزلاني.
زيارة الجبير لبغداد تندرج ضمن المخطط الأمريكي
شكلت زيارة الجبير مفاجأة كبيرة لكل المراقبين للشأن العراقي والعربي بشكل عام، بل إنها كانت مفاجأة للحكومة العراقية نفسها، حيث إنها جاءت دون الإعلان عنها، ونقلًا عن مصادر مطلعة قولها إنَّ السفارة الأمريكية في بغداد كان لها الدور الأكبر في ترتيب هذه الزيارة، ذلك للحيلولة دون إعطاء فرصة للإيرانيين بإفشال تلك الزيارة والتي نجحت إلى حد ما في تحقيق أغراضها.
فقد أشار الكثير من المراقبين أن الزيارة بالأساس كانت وفق ترتيب أمريكي سعودي، وهذا ما أكده وزير المالية السابق هوشيار زيباري حينما علق على تلك الزيارة في تغريدة له على موقع التواصل الاجتماعي “تويتر”
قائلًا: “شكرًا لأصدقائنا الأمريكيين” موضحًا فيها، أن هذه الزيارة بتنسيق أمريكي مسبق.
كانت الغاية من الزيارة إيصال رسالة إلى العبادي شخصيًا، أن عليه تحديد موقفه من موضوع الصراع الإيراني من جانب والأمريكي العربي من جانب آخر، وحثّه على الانحياز إلى الجانب العربي والرجوع للحاضنة العربية، وبالمقابل، عرض الجبير نيابة عن بلده السعودية أن الدول العربية وعلى رأسها السعودية جاهزة للمساهمة الفعّالة في إعمار ما تخرَّب جراء الحرب على الإرهاب، ليس فقط بالمناطق السنية وإنما في كل المناطق العراقية دون تمييز.
لكن ما مدى استجابة العبادي لمثل هذا العرض الذي يحمل نقاط إغراء عديدة لتجعله يوافق، وبنفس الوقت فيه محاذير كبيرة جرّاء إقدامه على مثل هذه الخطوة الجريئة، فالعبادي حاليًا يهيئ نفسه للانتخابات النيابية القادمة، ويتعرض لمنافسة شديدة من منافسه المالكي، ومن المرجح أن يدخل العبادي بكتلة انتخابية مختلفة عن غريمه المالكي، علمًا أنهما ينتميان لنفس الحزب السياسي.
إقدام العبادي بالموافقة على المقترحات الأمريكية السعودية، سوف يعرضه لتهديد مليشيا الحشد الشعبي ذات الولاء الإيراني
إن إقدام العبادي بالموافقة على المقترحات الأمريكية السعودية، سوف يعرضه لتهديد مليشيا الحشد الشعبي ذات الولاء الإيراني، وإجباره على عدم اتخاذ مثل هذه الخطوة الخطيرة على مستقبلهم، حتى لو اضطروا لتنحيته عن منصبه بالقوة، فالعبادي ليس لديه أوراق ضغط قوية سوى الشرعية التي يمتلكها كونه رئيس وزراء منتخب، أما موضوع سيطرته على الحكومة أو القوى الأمنية من جيش وشرطة وكذلك المليشيات، فليس له أي سيطرة حقيقية عليهم، والأمثلة على ذلك عديدة لا مجال لذكرها في هذا التقرير.
وربما سيكون العرض الأمريكي السعودي يتعدى موضوع الإغراء الذي يقدموه للعبادي، بل يصل إلى مرحلة حمايته من أعدائه المحليين أو أعدائه من خارج الحدود، لتشجيعه على الموافقة على تلك المقترحات، كل ما عليه هو أن يطلب تلك الحماية من التحالف الدولي أو التحالف الإسلامي، لكن في حالة رفضه لهذا العرض، فإنه سيربط مصيره بمصير إيران التي ستكون تحت المطرقة الأمريكية والعربية في الفترة اللاحقة.
محاولات إدراج الحرس الثوري الإيراني بقائمة المنظمات الإرهابية
ومن محاولات الضغوط الأمريكية على إيران هي السعي لإصدار قانون أمريكي باعتبار “الحرس الثوري الإيراني” منظمة إرهابية، وتمثل هذه الخطوة ضربة شبه قاضية على القيادة الإيرانية إذا ما تمت، ذلك لأن الحرس الثوري الإيراني يعتبر أهم مؤسسة في إيران وأحد أهم مرتكزات النظام الإيراني، فهو يسيطر على قرار الأمن القومي الإيراني، إضافة إلى سيطرته على الاقتصاد الإيراني بواسطة شركاته العديدة المنتشرة في أنحاء إيران، كما أن المؤسسات المتفرعة من هذا الحرس هي التي تدير كل المنظمات الإرهابية التي تعمل بالخارج، وستجعل عملية تصنيفه كمنظمة إرهابية، مشمولًا بقانون المنظمات الإرهابية الأجنبية لعام 1996، والذي طُبِقَ على جماعات إرهابية، مثل تنظيم القاعدة وتنظيم الدولة، مما يجعل الحرس الإيراني خاضعًا لمجموعة واسعة من العقوبات الأمريكية لا تستطيع إيران أن تطيقها.
ما رد الفعل الإيراني على تلك الخطوات؟
القيادة الإيرانية في حقيقة أمرها لا تمتلك وسائل ضغط كبيرة تستطيع من خلالها أن تجابه الضغوطات الأمريكية والعربية تلك، جعلها توقف تجاربها الصاروخية التي كانت سبب المشكلة الأخيرة مع الجانب الأمريكي، ثم قام الرئيس الإيراني بجولة خليجية يحاول من خلالها تهدئة الأجواء بينه وبين دول الخليج وعلى رأسها السعودية، ولكن على ما يبدو أن تلك الجولة لم تحقق ما تريده إيران منها.
فعمدت ومن خلال ذراعها حزب الله اللبناني، بتوجيه رسالة تحذيرية لإسرائيل، الحليف الأساسي للولايات المتحدة الأمريكية في المنطقة، ذلك عندما أعلن حزب الله قبل أيام، أن بحوزته معلومات دقيقة عن مخازن الأمونيا في مدينة حيفا، وأن تلك المخازن في مرمى صواريخ الحزب، الأمر الذي جعل إسرائيل، تعمل على إفراغ تلك المخازن ونقلها إلى أماكن أخرى.
فعاد الحزب وهدد مرة أخرى باستهداف مفاعل ديمونة في النقب، وادعائه بأن صواريخه تصل إليها، والحقيقة أن هذه التهديدات ليست جادة من قبل الحزب، ولا نظن أن باستطاعته تنفيذ تلك التهديدات، دليل ذلك التزامه الصمت، حينما قامت المقاتلات الإسرائيلية باستهداف قوات الحزب بسوريا في 22 من الشهر الحالي بمنطقة القلمون الغربي قرب مدينة “رنكوس”، ولم يرد على تلك الضربات بالمقابل.
إن الرد الإيراني المتوقع على أمريكا سيكون في العراق، حيث تمتلك إيران نفوذًا شبه كامل على الحكومة العراقية
إن الرد الإيراني المتوقع على أمريكا سيكون في العراق، حيث تمتلك إيران نفوذًا شبه كامل على الحكومة العراقية، وبجميع مؤسساتها العسكرية والأمنية، إضافة إلى أن المليشيات الإرهابية الموجودة في العراق، تدين لإيران بالولاء المطلق، فمن الممكن أن توعز للأحزاب الماسكة بالسلطة في بغداد مثلًا، بإطلاق مبادرات مصالحة استباقية، كخطوة أولى، لا سيما أن الحراك الأمريكي العربي يهدف بالنهاية إلى الحد من نفوذ إيران بالعراق.
إن تكرار إطلاق المبادرات من قبل الأحزاب الحاكمة والمقربة من إيران، هو استشعار منهم بالحراك الحالي حاليًا ضدهم في واشنطن، فعمار الحكيم، زعيم “المجلس الإسلامي الأعلى”، أعلن رفضه لأي مبادرات تطلق من خارج العراق (بالإشارة إلى المبادرات الأمريكية أو العربية)، وذلك بعد أسابيع على إطلاقه مبادرة “التسوية التاريخية” التي يراها الفرقاء السياسيون بالعملية السياسية، ترسيخًا لحكم الطائفة الواحدة، كذلك، أطلق زعيم “التيار الصدري” مقتدى الصدر، مبادرة أخرى تضمنت 29 بندًا، إلا إنها لم تحظ بأي اهتمام من باقي الكتل السياسية.
أما كخطوة ثانية إذا لم تنجح الخطوة الأولى، فمن المتوقع أن تقوم إيران ومن خلال مليشياتها في العراق، بمحاولات استفزازية للقوات الأمريكية الموجودة بالمناطق السنيَّة في العراق، وربما تعرض سفارة الولايات المتحدة في المنطقة الخضراء للتهديد، بطريقة مشابهة لتعرض موظفي السفارة الأمريكية في طهران سنة 1979 للاختطاف، وبالتالي فإن الأمريكان عمدوا بالفترة الأخيرة لزيادة قواتهم بشكل سريع، كما قاموا بالإسراع بوتيرة بناء القواعد العسكرية التي لم يستكمل بنائها لحد الآن.
[1] مبادرة أمريكية للعراق: تسوية شاملة وإنهاء نفوذ إيران والمليشيات/ العربي الجديد https://cutt.us/ccegp
[2] لماذا غيرت أمريكا “قواعد الاشتباك” في معركة الموصل؟ / نون بوست https://cutt.us/mFaVI
[3] موقع المعلومة https://cutt.us/D5k0z