مرت 3 سنوات على توقيع “اتفاقات ابراهام“، ففي منتصف سبتمبر/ أيلول 2020 وقّعت “إسرائيل” مع الإمارات والبحرين في واشنطن اتفاقية لتطبيع العلاقات برعاية الولايات المتحدة، ثم التحقت بالاتفاقية فيما بعد كل من الرباط والخرطوم، رغم أن العملية تعرقلت مع الأخيرة بسبب التطورات الداخلية التي شهدتها البلد.
ربما لم تكن دولة الاحتلال تتوقع أن يكون توسيع التطبيع مع الدول العربية سهلًا بهذا الشكل، لولا لهفة الإمارات والبحرين للارتماء في حضن “إسرائيل”، بعد أن عجزت الأخيرة عن ضمّ أي دولة عربية إلى المطبعَين، مصر والأردن، طيلة العقود الثلاثة الماضية.
لكن الكثير من الناس لا يدركون أن “إسرائيل” تقيم علاقات يمكن وصفها بـ”السرّية” مع دولة أفريقية صغيرة المساحة والسكان لكنها مؤثرة في المنطقة، إذ تمتلك إريتريا أكبر ساحل على البحر الأحمر يبلغ طوله 1080 كيلومترًا، كما تضم مجموعة كبيرة من الجزر أكبرها أرخبيل دهلك الآهل بالسكان، وأقربها إلى مضيق باب المندب جزيرتا حالب وفاطمة.
مواجهات بين إريتريين تسلّط الضوء على العلاقات بين أسمرة وتل أبيب
أعادت المواجهات التي حدثت بين طالبي لجوء إريتريين وقوات الشرطة في تل أبيب في وقت سابق من سبتمبر/ أيلول الحالي، تسليط الضوء على العلاقات الأمنية شبه السرية بين “إسرائيل” والنظام الدكتاتوري في إريتريا، وفق ما ذكرت وسائل إعلام إسرائيلية.
وبدأت الأحداث بعراك بين إريتريين مؤيدين لرئيس النظام في بلادهم، إسياس أفورقي، وطالبي لجوء إرتريين معارضين للنظام، الذين حاولوا منع حفل في السفارة الإريترية في تل أبيب.
وسرعان ما تحول العراك إلى مواجهات بين طالبي اللجوء والشرطة الإسرائيلية، التي استخدمت وسائل تفريق مظاهرات، مثل قنابل الغاز المسيل للدموع والأعيرة المطاطية، وضرب طالبي اللجوء بهراوات، وحتى إطلاق النار الحي وإصابة عدد من طالبي اللجوء بعضهم جراحهم خطيرة، وتحدثت تقارير عن إصابة 170-190 طالب لجوء وعدد من أفراد الشرطة.
جدير بالذكر أن رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، توصّل في أبريل/ نيسان 2018 إلى اتفاق مع مفوضية اللاجئين التابعة للأمم المتحدة، يقضي بنقل نحو 16 ألف طالب لجوء إريتري من “إسرائيل” إلى دول أوروبية، لكنه بعد 24 ساعة تراجع عن هذا الاتفاق في أعقاب ضغوط من اليمين الإسرائيلي، حسبما ذكرت صحيفة “يديعوت أحرونوت”.
منذ 3 عقود
تقيم “إسرائيل” وإريتريا علاقات دبلوماسية رسمية منذ 3 عقود، وذلك بعد استقلال الأخيرة، حيث تولى الديكتاتور أفورقي منصب الرئيس الذي لا يزال يشغله حتى اليوم، لكن صحيفة “هاآرتس” أشارت إلى أن بين تل أبيب وأسمرة علاقات أمنية سرية، وفي موازاة ذلك لجأ آلاف الإريتريين إلى “إسرائيل” بهدف التهرب من تجنيدهم عنوة في جيش النظام.
ووفقًا للمصدر السابق، فقد حوّل أفورقي إريتريا إلى إحدى الدولة المغلقة والأكثر استبدادية في العالم، لكنّ “إسرائيل” استمرت في إقامة علاقات دبلوماسية وأمنية معها.
وكشف موقع “زمان يسرائيل” العبري النقاب عن أن “دولة الاحتلال تخفي المنتجات والفئات وبلدان المقصد التي يسمح لها بالتصدير العسكري، بزعم أن سريتها تحفظ أمن الدولة، مع أنه كلّما كانت المعلومات مخفية زاد الخوف من الفساد والرشوة والوساطة المشكوك فيها، بعكس المعمول به في الدول الأجنبية التي تكشف كل شيء”.
وفي عام 2019 رفضت المحكمة العليا الإسرائيلية التماسًا طالب بالكشف عن وثيقة أعدّتها وزارة الخارجية حول وضع حقوق الإنسان في إريتريا، وكان من شأن هذه الوثيقة أن تشكّل أساسًا للنظر في طلبات لجوء، لكن قضاة المحكمة قالوا إنهم اقتنعوا بموقف الحكومة، وأن كشف الوثيقة سيلحق ضررًا كبيرًا بعلاقات “إسرائيل” الخارجية، ما يؤكد وجود علاقة سرية وثيقة بين تل أبيب وأسمرة تحرص دولة الاحتلال على التكتم عليها.
وأشارت “هاآرتس” إلى أن قرار قضاة المحكمة العليا يعدّ تلميحًا نادرًا إلى العلاقات شبه السرية بين “إسرائيل” والنظام الدموي في إريتريا، لافتة إلى أن تقارير في وسائل إعلام عالمية قد أفادت في الماضي بأن لـ”إسرائيل” قاعدة عسكرية في إريتريا، وأن سلاح البحرية الإسرائيلي ينفّذ عمليات في المياه الإقليمية الإريترية في البحر الأحمر، وأنه توجد مواقع تنصُّت إسرائيلية في إريتريا تسمح لـ”إسرائيل” بالحصول على معلومات استخباراتية حول دول في المنطقة.
الفصائل الفلسطينية دعمت حركات التحرر الإريترية
استطلع “نون بوست” رأي الباحث والأكاديمي الإريتري البارز محمد خير عمر عن طبيعة العلاقة بين دولة الاحتلال وإريتريا، فقال إن معظم الفصائل الفلسطينية دعمت جبهات التحرير الإريترية ضد إثيوبيا خلال حرب التحرير (1961-1991)، وفي المقابل دعمت “إسرائيل” الجيش الإثيوبي ودرّبت وحدات خاصة لمكافحة التمرد.
وأضاف أن “إسرائيل” خلال ستينيات وسبعينيات القرن الـ 20 اعتبرت جبهة التحرير الإريترية (ELF) جزءًا من حركة التحرر العربية، وكانت تعارضها كدولة جديدة على طول البحر الأحمر، ظنًّا منها أنها ستجعل البحر محاطًا بالدول العربية أو مؤيديها، موضحًا أن معظم الفصائل الفلسطينية دعمت جبهة التحرير الإريترية (ELF) وليس الجبهة الشعبية لتحرير إريتريا (EPLF) التي تحكم إريتريا منذ عام 1991، وقال إن الحكومة الحالية في أسمرة لم تعبّر أبدًا عن دعمها للحقوق الفلسطينية، ربما لهذه الأسباب.
السفارة الإسرائيلية في أسمرة مهجورة منذ عام 2020
استرسل الباحث الإريتري المقيم في العاصمة النرويجية أوسلو بالقول إن العلاقة بين “إسرائيل” وحكومة إريتريا شهدت تقلبات صعودًا وهبوطًا، حيث في بداية سنوات الاستقلال كانت العلاقات قوية، لكن تدريجيًّا بردت هذه العلاقات، موضحًا أن إريتريا لم تسمح لـ”إسرائيل” بتعيين سفير في أسمرة منذ سنوات، وتُرك مبنى السفارة الإسرائيلية مهجورًا منذ عام 2020.
ويرجّح الأكاديمي محمد خير عمر أن يكون توتر العلاقات الأخير بين “إسرائيل” وإريتريا ذا علاقة بتدهور علاقات إريتريا مع الولايات المتحدة، وقد يكون أيضًا نتيجة لأن إريتريا لم تتمكن من عقد صفقة مع “إسرائيل” لإعادة طالبي اللجوء إلى داخل البلاد.
وقال إن السنوات الأخيرة شهدت تصويت إريتريا باستمرار ضد “إسرائيل” في المحافل الدولية، بما في ذلك الأمم المتحدة، وكانت معارضًا صريحًا لإعادة “إسرائيل” كمراقب في الاتحاد الأفريقي، مستطردًا أنه في أعقاب المواجهات الأخيرة بين مؤيدي النظام الإريتري ومعارضيه في “إسرائيل”، قدمت الحكومة الإريترية ادّعاء غريبًا يلقي باللوم على الموساد في الوقوف ورائها.
ومن جهته كشف المحلل الأمني البارز في صحيفة “هاآرتس” العبرية، يوسي ملمان، أنه في البداية اعتبرت “إسرائيل” والغرب أفورقي صديقًا، وأنه بعد إعلان إريتريا استقلالها مباشرة، تم نقله جوًّا إلى “إسرائيل” لتلقي العلاج الطبي المنقذ للحياة في مركز سبأ الطبي في تل هاشومر.
وأضاف في مقال له أنه بسبب الموقع الجغرافي لإريتريا على القرن الأفريقي، وموانئها على ساحل البحر الأحمر، وقربها من المملكة العربية السعودية واليمن ومضيق باب المندب، رأت “إسرائيل” أن إريتريا تمثل “رصيدًا استراتيجيًّا”.
ويضيف الكاتب: “وفقًا لتقارير أجنبية، أدارت المخابرات الإسرائيلية مركز تنصت في إريتريا، وراقبت تحركات السفن واستخدمت البلاد كنقطة انطلاق لتسلُّل عملاء الموساد إلى الدول العربية المجاورة”.
يرجع الباحث الإريتري محمد خير عمر عدم وجود دليل ملموس على وجود قواعد استخباراتية وغواصات إسرائيلية في السواحل الإريترية وما حولها، نظرًا إلى أن كل شيء في إريتريا يتم التعامل معه بسريّة تامة.
“إسرائيل” الرابح الأكبر
المتتبع لتحركات الرئيس الإريتري إسياس أفورقي، يجد أنه ليس لديه مبدأ سياسي أو إنساني يحكم علاقاته وتكيتيكاته، فكل شيء مباح في طريق تحقيق أهدافه، تلك الأهداف التي لا يعلمها غيره بحكم أنه ينفرد برئاسة إريتريا منذ أكثر من 3 عقود، حيث رفاق الأمس يمكن أن يكونوا هم أعداء اليوم ومؤهّلين ليعودوا أصدقاء غدًا، مثل علاقته وعدائه مع إثيوبيا التيغراي ثم إثيوبيا آبي أحمد أكبر دليل على ذلك.
علاقته أيضًا بالسودان شهدت تحولات كثيرة، فرغم اعترافه بدعم السودان لإريتريا في حربها من أجل التحرير، عمل على تأجيج الصراعات في السودان، حيث عادى البشير واتهمه بمحاولة اغتياله، ثم تحالف معه، ثم توترت علاقتهما مرة أخرى قبيل الثورة السودانية.
لذلك ليس بمستغرب أن تكون علاقته مع “إسرائيل” متذبذبة، وأن يتهم الموساد بتدبير أحداث العنف بين الإريتريين في تل أبيب، لكن رغم ذلك حرص الجانبان على إبقاء العلاقة الأمنية طيّ الكتمان، بدليل رفض المحكمة العليا الإسرائيلية التماسًا طالب بالكشف عن وثيقة أعدّتها وزارة الخارجية حول وضع حقوق الإنسان في إريتريا.
وبكل المقاييس دولة الاحتلال هي الرابح الأكبر من هذه العلاقات السرية، فوجودها الاستخباراتي “المفترض” في إريتريا يمكّنها من إحداث اختراق للأمن القومي في المنطقة، بما في ذلك الشرق الأوسط، كما أنها ضمنت الحصول على موطئ قدم ثابت ومستمر في هذه المنطقة الاستراتيجية، يتيح لها التجسُّس على الدول العربية المجاورة أو حتى على الدول الإقليمية المنافسة لها مثل إيران.
ولا ننسى كذلك أن الوجود الإسرائيلي في سواحل البحر الأحمر يساعد على مكافحة أنشطة تهريب السلاح إلى المقاومة الفلسطينية.