أيام قليلة تفصل المشهد المصري عن فتح باب الترشح للانتخابات الرئاسية المزمع إجراؤها إما نهاية العام الحاليّ وإما بداية العام المقبل، وسط فوضوية وتخبط تعاني منهما الخريطة السياسية المصرية المحبوسة داخل أنفاق التضييق والكبت والملاحقات، وترقب الملايين الذين يؤملون أنفسهم بضوء جديد – ولو خافت – نهاية النفق يعيد الشمس للحياة السياسية المظلمة مرة أخرى.
وفي تلك الحالة المتدنية اقتصاديًا وحقوقيًا واجتماعيًا، تأتي تلك الانتخابات التي يراهن عليها البعض في أن تكون محطة مفصلية للانتقال من واقع مؤلم تضاعفت فيه الأعباء والهموم ووصلت فيه معدلات الديون والبطالة والتضخم والفساد مستويات قياسية لم تشهدها البلاد في تاريخها إلى مستقبل أكثر إشراقًا، أو على الأقل أبطأ نسبيًا في معدلات الانزلاق.
وفي مثل تلك الأجواء يكون التعويل على المعارضة الداخلية في تقديم البديل هو الحل، غير أن الحالة المصرية لها خصوصية مغايرة، فالمعارضة غائبة بشكل شبه كامل عن المشهد، تعاني من ارتباك وانقسامات حادة، حتى مسألة الاتفاق على مرشح واحد يمثلها – ولو من باب الحضور الشكلي – مسألة بعيدة تمامًا عن الواقع.. فما الذي أوصل المعارضة المصرية التي كانت في السابق نموذجًا يحتذى به إلى هذا المستوى المتدني من الهشاشة والتسطيح؟
الحركة المدنية: #مصر "لن تحتمل" فترة رئاسية ثالثة للسيسي.. وتأخر التغيير يضعها على شفا "الانفجار"https://t.co/JbTgR70DiA
— CNN بالعربية (@cnnarabic) September 11, 2023
خريطة الأحزاب المصرية.. حضور شكلي للمعارضة
يبلغ إجمالي عدد الاحزاب السياسية المصرية المعلنة بشكل رسمي 87 حزبًا حسب ما قالته الهيئة العامة للاستعلامات (حكومي)، لكن هناك قرابة 17 حزبًا تحت التأسيس لم يتم الموافقة عليهم حتى اليوم، وعليه يكون إجمالي الأحزاب 104 أحزاب، لا يوجد بينهم حزب يمثل الدولة بشكل رسمي بعد حل الحزب الوطني القديم.
يفترض وفق أبجديات العلوم السياسية أن الغالبية العظمى من تلك الأحزاب – إن لم تكن كلها – يتم تصنيفها تحت عنوان “المعارضة” كونها جميعًا تسعى للسلطة في ظل عدم وجود ائتلاف حزبي رسمي للسلطة الحاكمة، لكن الواقع يقول عكس ذلك تمامًا.
مجلس النواب (البرلمان) المصري على سبيل المثال، ممثل من 13 حزبًا فقط من بين الأحزاب الـ104، ويضم 568 نائبًا، منهم 315 عضوًا تابعين لحزب “مستقبل وطن” المشكل مؤخرًا الذي يتصدر المشهد كونه حزب السلطة وإن لم يكن ذلك بشكل رسمي، بجانب 50 عضوًا تابعين لحزب “الشعب الجمهوري” الذي يتبنى نفس خط “مستقبل وطن”.
أما الأحزاب الـ11 المتبقية فتتقاسم المقاعد المتبقية، أبرزها حزب الوفد صاحب المركز الثالث فى مجلس النواب (25 نائبًا) وتكتل (25-30) بثلاثة نواب، فضلًا عن أحزاب أخرى ممثلة بمقعد واحد فقط مثل حزب “إرادة جيل”، فيما يشغل 25% من المقاعد مستقلون، وإن كانوا تابعين لأحزاب وكيانات سياسية داعمة لهم لكنهم لم يترشحوا على قوائمها.
اللافت هنا في تلك الخريطة أن معظم تلك الأحزاب، السلطوية منها كـ”مستقبل وطن” و”الشعب الجهوري”، والمعارضة التقليدية كـ”الوفد” و”إرادة جيل” تميل في توجهاتها إلى تأييد النظام الحاليّ ودعم السلطات في كل ممارساتها في الداخل والخارج، ومن ثم لا يمكن اعتبارها معارضة بالمعنى المعروف، حتى إن أطلق عليها الإعلام هذا المسمى نظريًا.
المعارضة في الانتخابات.. انقسام وتشتت
رغم قرب الانتخابات، لم تتفق المعارضة، أحزاب وكيانات، بعد على مرشح بعينه لخوض الماراثون، بل هناك اختلاف وتباين في مسألة المشاركة من عدمها، ووصل الأمر إلى دعم بعض الأحزاب المحسوبة على المعارضة للرئيس الحاليّ عبد الفتاح السيسي في الانتخابات القادمة، كاشفة أنه الأفضل في ضوء الإنجازات التي حققها من وجهة نظرها.
وبينما كان البعض يعول على الكيانات السياسية الوليدة مؤخرًا كالحركة المدنية والتيار الليبرالي كونهما يضما تحت لوائهما العديد من الشخصيات السياسية ذات التاريخ السياسي الكبير، إلا أنهما يعانيان مما تعاني منه بقية الأحزاب، فلا توجد هناك رؤية شاملة وموحدة بشأن الانتخابات القادمة، وحتى اليوم لم تعلن أي من الجبهتين موقفها بشكل رسمي ونهائي.
وبدلًا من الاتفاق على مرشح واحد والتخندق خلفه ودعمه أمام الترشيح المحتمل والقوي للسيسي في الانتخابات القادمة، انقسم الجميع وتباينت وجهات النظر، وبدأ التحرك بصورة فردية، حيث أعلن رئيس حزب الكرامة السابق أحمد الطنطاوي، ورئيس حزب المحافظين أكرم قرطام نيتهما الترشيح، فيما رشح آخرون رئيسة حزب الدستور جميلة إسماعيل، ورئيس الحزب المصري الديمقراطي الاجتماعي فريد زهران، وجميعهم ضمن الأحزاب المنضوية تحت تكتل الحركة المدنية.
أما حزب الوفد صاحب الإرث السياسي الطويل فأعلن اثنان من قادته نيتهما الترشح، أحدهما وهو رئيس الحزب عبد السند يمامة، قال نصًا إنه يؤيد السيسي في الانتخابات رغم إعلانه الترشح أمامه، في مشهد أعاد للأذهان ما حدث في 2005 حين قال زعيم حزب الأمة المصري أحمد الصباحي، المرشح في الانتخابات الرئاسية آنذاك عبارته الشهيرة إنه يتعهد بالتنازل فورًا للرئيس حسنى مبارك حال فوزه في هذه الانتخابات.
*الأربعاء ٢٠ سبتمبر انعقاد الهيئة العليا لحزب الدستور لاعلان موقف رئيسة الحزب من الترشح علي مقعد رئاسة الجمهورية و إصدار خطاب للهيئة الوطنية للانتخابات بشأن ضمانات نزاهة العملية الانتخابية و حرية الانتخابات و سلامة القائمين علي حملات المرشحين و أمانهم خلال الانتخابات و حتي… pic.twitter.com/8lgrN7FE8e
— Gameela Ismail (@GameelaIsmail) September 15, 2023
حتى التحركات التي يقوم بها أعضاء الحركة المدنية بشأن الترتيب للانتخابات لم تلق الدعم والتأييد من بقية أنصار الحركة، كما حدث في الاجتماع الذي عقده مجموعة من الأشخاص المحسوبين على هذا التكتل الشهر الماضي في أحد منتجعات الساحل الشمالي، بعضهم كان حاضرًا بملابس البحر، بدعوة من القيادي أكمل قرطام، رئيس حزب “المحافظين”.
حينها اقتُرح تكوين فريق رئاسي مكون من كل الأشخاص الراغبين في خوض الانتخابات والاختيار فيما بينهم والاتفاق على مرشح واحد، لكن هذا المقترح لم يلق التأييد بحسب ما كتبه السياسي المعارض يحيى حسين عبد الهادي على صفحته على “فيسبوك”، لافتًا إلى تباين وجهات النظر والآراء بشأن المقترح بين رافض للمشاركة في الانتخابات من الأساس، ورافض لفكرة الفريق الرئاسي، وآخرين وافقوا عليها.
ويجسد هذا التباين واقع المعارضة المصرية مع كل استحقاق انتخابي، سواء رئاسي أم برلماني، فالتشتت والتشرذم السمة الأبرز التي تخيم على أجواء المشهد السياسي المعارض في مصر، الظاهرة ليست وليدة اللحظة، بل تكرر الأمر مرات عدة إبان فترة مبارك، فمع أول انتخابات شبه حقيقية أجريت في 2005 دفعت أحزاب المعارضة بمرشحين: نعمان جمعة عن “الوفد”، وأيمن نور عن “الغد”، فيما فشلت محاولات الاتفاق على مرشح واحد وقتها.
الأمر الذي دفع للتساؤل عن هذا الفشل المستمر وغياب الرؤية المشتركة لدى أحزاب المعارضة في مصر رغم تغول السلطة الحاكمة على المشهد والمزاج الشعبي الرافض لها شكلًا ومضمونًا.
مربع الفشل
يتفق الخبراء والساسة على أن أزمة المعارضة المصرية وفشلها في التوافق وتوحيد جبهتها يرجع إلى 4 أسباب رئيسية، تقف حجر عثرة أمام هذا الهدف الذي ينشده الشارع المصري مع كل استحقاق دستوري، لكن للأسف مع كل مرة يُمنى بالإحباط واليأس جراء فشل تلك الكيانات عن تلبية الحد الأدنى من طموحات المصريين في التغيير.
السبب الأول: التضييق الأمني والسياسي، حيث تواجه أحزاب المعارضة خناقًا سلطويًا كبيرًا، يحول بينها وبين ممارسة نشاطها العام والاقتراب بالناس، ومن الصعب – إن لم يكن مستحيلًا – أن يُسمح لحزب معارض بعقد ندوة أو لقاء يجمعهم بالمواطنين، ومن هنا تأتي اللقاءات معظمها حتى بين أعضاء تلك الأحزاب في نطاق من السرية، ومع ذلك تتعرض للاستهداف والتنكيل كما حدث أكثر من مرة مع الحزب المصري الديمقراطي الاجتماعي وتعرض رئيسه فريد زهران للضرب والإصابة.
ومنذ عام 1954 بعد قرار حل الأحزاب وتجريم العمل الحزبي تعاني الأحزاب المصرية من واقع مأزوم جراء القوانين المقيدة للحريات التي فرضت عليها وأجبرتها على التقوقع داخل جدرانها، كذلك ما تعرض له رموز العمل السياسي المعارض من تنكيل وترهيب، آخرها ما تعرض له القيادي بالتيار الليبرالي والناشط السياسي هشام قاسم الصادر بحقه حكم بالحبس 6 أشهر، بجانب اعتقال عدد من أعضاء حملة المرشح المحتمل أحمد طنطاوي بحسب بيان رسمي صادر عنه نشره على صفحته الرسمية على “فيسبوك”.
بيان للشعب المصري العظيم "
جرائم أمنية بحق شركائي في الحملة الانتخابية"
صعدت الأجهزة الأمنية خلال الأيام الأخيرة من وتيرة وحدة تصرفاتها غير القانونية واللا الأخلاقية تجاه حملتي الانتخابية، والتي بدأت منذ لحظة إعلاني الترشح لرئاسة الجمهورية، مستخدمة أساليب متنوعة من التجاوزات… pic.twitter.com/BAjpB2Kdiu— Ahmed Altantawy – أحمد الطنطاوي (@a_altantawyeg) September 13, 2023
السبب الثاني: اختراق المعارضة من الداخل، تعاني معظم الأحزاب السياسية المصرية من اختراقات أمنية تجهض كل الجهود والأنشطة التي تقوم بها، فمع كل محاولة للخروج من عنق الزجاجة وتحريك المياه الراكدة في المشهد السياسي يقابلها تيار داخلي رافض لتلك المحاولات، بل ويتهم أصحابها بالأدلجة وتنفيذ أجندات خارجية.
الأمر يزداد تعقيدًا بالدفع بكوادر حزبية موالية للسلطة وزرعها داخل تلك الكيانات، واختيارات عشوائية غير مؤهلة لقيادة أحزاب المعارضة، تكون في الغالب بأوامر من الأجهزة الرسمية في الدولة، سواء كان ذلك بشكل مباشر أم غير مباشر، ومن هنا يسيطر على المشهد السياسي المعارض في الدولة رجال أعمال وشخصيات ذات نفوذ مالي واجتماعي، تتشابك علاقاتها مع الحكومة والسلطات، بشكل يحول بينها وبين التغريد بعيدًا عما هو مرسوم، وهو ما أفرغها من مضمونها وحولها إلى أحزاب كرتونية بامتياز.
السبب الثالث: إفساد المناخ السياسي، وهو سبب لا يبتعد كثيرًا عن التضييقات السلطوية، حيث تعد السلطة السبب الأول والأبرز فيه، ساعدها على ذلك الأوضاع الأمنية والاجتماعية والاقتصادية الهشة التي تدفع بالسياسة إلى مستنقع الأولويات لدى المواطن الذي يكرس كل همومه ومشاكله ومن ثم تفكيره واهتماماته في لقمة العيش التي باتت مربوطة بالنظام الحاكم صعودًا وهبوطًا.
المناخ الداخلي المصري في عمومه شهد خلال الآونة الأخيرة حزمة متغيرات ساعدت في إفساد الأجواء السياسية، منها مثلًا تأميم المجتمع المدني عبر قوانين صارمة مقيدة، وخنق النشاط النقابي وتأميم النقابات المهنية، وفرض قيود مشددة على العمل العام بدعوى الأمن القومي والتصدي للجماعات المتطرفة، فضلًا عن احتكار الخريطة الإعلامية والرياضية والفنية بيد السلطة، الأمر الذي مهد نحو تأميم مكتمل الأركان للدولة وهو ما ألقى بظلاله القاتمة على العمل السياسي الذي بات مُجرمًا في كثير منه.
السبب الرابع: الفجوة بين الأحزاب والشارع، يقول علماء السياسة إن الأحزاب لا بد أن تكون مرآة الشارع، وأن تكون بموضوعوتها وأجنداتها وسياساتها في خدمة هموم المواطن، لكن أن تكون الأحزاب في واد والشعب بمشاكله وأزماته في واد آخر، فهذا لا علاقة له بالسياسة ولا العمل السياسي الحزبي بالمرة.
وحين تخلت الأحزاب عن هذا الهدف وفشلت في تقديم البديل الأكثر جدوى، اتسعت الهوة بينها وبين المواطن الذي فقد الأمل فيها شكلًا ومضمونًا، وبدأ يتعامل معها على أنها جدران خاوية، من صنيعة الدولة في معظمها، تتبنى أيديولوجيات فوقية مفروضة عليها، ومن ثم فهي لا تمثل الشعب ولا علاقة لها بهمومه، تعزز هذا الأمر بعد فشل تلك الكيانات في استثمار مكتسبات ثورة يناير/كانون الثاني 2011، ومساهمتها بشكل أو بآخر في الانقلاب عليها في 30 يونيو/حزيران 2013.
وأمام هذا الواقع المحبط للمعارضة وكياناتها الحزبية، لم يجد المواطن بدًا من منصات التواصل الاجتماعي للتنفيس عما بداخله، فتحولت تلك المنصات إلى صوت الشارع الأكثر مصداقية، وبات “فيسبوك” و”إكس” و”إنستغرام” هي الكيانات البديلة لأحزاب المعارضة، وتحتل درجات من المصداقية والموثوقية والتأثير تفوق ما عليه تلك التكتلات الكرتونية التي تحولت إلى “بوتيكات” للتربح على حساب المواطن.
في الأخير، فإن تلك الوضعية الحرجة المخزية للمعارضة المصرية، التي لا تؤهلها من قريب أو بعيد للمنافسة على منصب رئيس الجمهورية في الانتخابات القادمة، ليست هي السبب الوحيد في تراجع فرص نجاحها في الماراثون القادم، فغياب النزاهة والافتقاد للشفافية ربما يكون معول الهدم الأبرز في تلك العملية، وذلك يرجع بحسب الباحث السياسي عمرو هاشم ربيع، نائب رئيس مركز الأهرام للدراسات الإستراتيجية، إلى وجود الرئيس الحاليّ كمرشح في الانتخابات نفسها.
وطالما هناك رئيس مرشح فأنت “أمام إعلام يروج للسلطة، وهيئة وطنية للانتخابات تسكت على التجاوزات” على حد قول ربيع الذي ربط النزاهة الانتخابية بتحقق شرطين أساسيين: عدم دعم الجيش لأي مرشح، وألا يترشح الرئيس للانتخابات، وهذا ما ثبت حدوثه فعليًا في عام 2012″.