كانت ليلة صيفية جميلة حين وصلتني رسالة في 15 من تموز عن وجود انقلاب عسكري، لم أشئ تصديق الأمر، قلت في نفسي لربما هناك إجراءات أمنية، كان مجرد تخيّل وجود انقلاب عسكري أمرًا ثقيلاً على النفس.
لقد دفعنا نحن ثمنًا كبيرًا في الانقلابات، ولم أكن أملك القوة التي تجعلني أتحمل انقلابًا عسكريًا آخر، دون أن يمضي وقت كثير على تخلصي من الآلام النفسية والتأثيرات المادية، وطول الليل منعتني أصوات الطائرات من النوم، وأنا أفكر في نفسي.. هل ستعود الأيام الماضية؟
كنت فتاة صغيرة، لا أعي ما يحدث حولي تمامًا، التحقت بثانوية الأئمة والخطباء حينها، وكنت سعيدة لأن هذه السنة أول سنة يسمح لي بارتداء الحجاب فيها، بعد انتهائي من سنوات الابتدائية الثمانية، التي كان الحجاب فيها محظورًا بالكامل.
لن ننسى الفوضى في البرلمان التركي عندما دخلت النائبة مروة قاوقجي بحجابها وصراخ النواب “اخرجي، اخرجي” مثل أطفال في روضة
حين دخلت المدرسة بدأت بعض الأقوال التي تقول إن الحجاب سيمنع في ثانوية الأئمة والخطباء لأن انقلابًا حدث، كانت الفتيات الرفيقات يتهامسن فيما بينهن عمّا ينبغي فعله، إحداهن تقول إن علينا أن نلبس باروكة شعر، حتى نستطيع الدخول إلى المدرسة دون أن يمسّنا الحظر، فيما كنت أرفض بشكل قاطع خلع الحجاب، هل سأدرس وأنا أعصي أوامر ربي!
بدأت الأمور تتطور في المدرسة، في البداية أرسلت الإدارة لنا تحذيرًا تطالبنا فيه بخلع الحجاب، تلاها إنذار آخر وآخر، ولكن استمرينا بالحجاب طول الفصل الأول.
مع بداية الفصل الثاني، دخلت إلى المدرسة مع بداية الدوام وصعدت إلى صفي، ومن النافذة رأيت حافلات الشرطة وهي تنتظر أمام المدرسة، كان هناك الكثير من شرطة فض الشغب بالعصي وقنابل الغاز، ظننت أن حدثًا كبيرًا حصل، كأن تكون هناك عملية للقبض على مجرم محترف، أو قاتل مخضرم، لكن علمت بعدها أن المجرمين هم بنات الثانوية الذين تتراوح أعمارهن بين 14-18، واللاتي رفضن خلع الحجاب، كان ذنبهن الوحيد هو لبس الحجاب.
نعم لقد كان الحجاب الذنب الأكبر!
استغربت عندما رأيت هذا المنظر، وفي نهاية الدوام كانت حفلة نهاية الأسبوع بفناء المدرسة، تجمّع كل الطلاب في الحديقة وفي أذهاننا مليون سؤال، في بداية الحفل سمعنا صوت المدير الذي يقول: “أيتها الطالبات، الفتاة التي لا تتبع قواعد اللباس والمظهر العام لتترك الآن حديقة المدرسة…” وصوته يرعب كل شيء من حوله، حتى إن الفناء اهتز من صوته المُحذر لنا، بعد تصريحات المدير، فتح حارس المدرسة باب الفناء بعيون حزينة، حينها 90% من الطلاب والطالبات تركوا المدرسة بهدوء، وحولنا الشرطة والأمن.
لقد استطعنا أن نهزم أصحاب عقلية 28 من شباط في 15 من تموز، وعلينا أن نبقي على هذه الروح في أعماقنا
بعد ذلك اليوم أصبحت المدرسة كالحلم، كل صباح كنا نذهب إلى المدرسة نستذكر أيامنا فيها، كنا ننتظر أمامها، لكنهم بعد أيام منعونا حتى من الوقوف أمامها، بعد المنع من الوقوف أمام المدرسة التي نحب، صرنا ننتظر في زقاقها، فقاموا بمنعنا من الزقاق أيضًا، عاملتنا الشرطة كأننا إرهابيون، طاردونا في الشوارع، ضربونا بالعصي والهراوات، كان أمرًا لا يصدّق!
مع مرور الأيام ازدادت خيبة أملي وأمل صديقاتي، كانت أصوات مختلفة بجواري تقول “اخلعي حجابك”، “ممكن تقلعي حجابك من أجل التعليم”، “أنت طفلة، لا يوجد مشكلة”، “في المدرسة اقلعي حجابك وارتديه عندما تخرجين”، “البسي شعرًا مستعارًا” وأصوات أخرى كثيرة، كانت كلماتها مؤلمة أكثر من الحظر نفسه بالنسبة لي.
مرت تلك الأيام بألم بالغ، صديقاتي اللواتي كن يدرسن في الثانويات العامة بلا حجاب تكلمن لي عن دروسهن ونجاحهن وكنت أبتلع الحزن وأمسك نفسي لكيلا أبكي.
حظر الحجاب سرق سنتين من شبابنا، تسبب بالقضاء على أحلامنا وتعليمنا، أحلامي الجميلة في مجال التعليم بقيت كحلم مستحيل، بعد سنتين من كل هذه المعاناة تحسّن الأمر قليلاً.
حظر الحجاب أرهقنا كطالبات في أروقة المدارس التركية، وفي كل المراحل التعليمية كنا نواجه مشكلة جديدة عنوانها الرئيسي الحجاب
يوم أن وصل حزب العدالة والتنمية إلى الحكم في تركيا، كنت أغضب من أردوغان الذي أصبح في السلطة عام 2002 ولم ينته هذا الحظر، لماذا؟ متى سينتهي؟ إذا لم تحلّوا مشكلة الحظر لماذا اخترناكم إذًا؟ كان لدي غضب عاطفي كبير تجاههم، ولكن الحمدلله انتهى الحظر في عام 2004 وعدنا إلى مدارسنا حتى ولو متأخرين.
مرحلة حظر الحجاب على الرغم من قسوتها وألم محطاتها، علمتني أن التغيير لا يتم بليلة واحدة، كنا نحاول أن نركض بتعليمنا خلف الطلاب الذين استمروا بتعليمهم بلا توقف في وقت تركناه نحن بسبب حظر الحجاب، حينها كنا نبذل جهدًا أكثر منهم كي ننجح.
على الرغم من كل الصعوبات أكملنا الثانوية، لكن لا يزال شبح الحظر قابعًا أمامنا، حظر الحجاب في الجامعات، فما إن أكملنا ثانويتنا العامة إلا وبدأت مشكلة أخرى وخيبة أمل جديدة، كل مرحلة تعليمية مررنا بها كانت بنفس الحاجز الذي يفرض علينا خلع الحجاب.
بعد سنوات ثلاثة سُرقت من حياتنا أجمل لحظاتها، تخرجت من الثانوية العامة، لم أستطع الالتحاق بجامعة حكومية بسبب حجابي، فالتحقت بجامعة خاصة للطالبات اللواتي يعانين من مشكلة حظر الحجاب، أكملت دراستي هناك بحجابي الذي أحب، بشهادة جامعية لا تعترف بها الحكومة التركية!
حظر الحجاب أرهقنا كطالبات في أروقة المدارس التركية، وفي كل المراحل التعليمية كنا نواجه مشكلة جديدة عنوانها الرئيسي الحجاب، حتى إنني عندما أنهيت تعليمي الجامعي، وتخرجت معلمة للغة العربية التي أحب، بدأت العمل في قطاع التعليم بمدرسة خاصة في إسطنبول، كنت أتوقع أن مشكلة الحجاب انتهت، فلم أعد طالبة وأصبحت معلمة في إحدى مدارس بلدي، لكن على ما يبدو مشكلة الحجاب لم تنته بعد، فمنعت وزميلاتي المعلمات من الخروج إلى حديقة المدرسة بالحجاب، لأن الحظر لم يرفع حينها من المدارس والمؤسسات التعليمية.
لا نستغرب من دخول البرلمانيات التركيات بحجابهن إلى البرلمان، فأحلام الأمس أصبحت حقائق اليوم
حظر الحجاب لم يكن ينتهي إلا بتغيير جيل كامل، غير حياة الكثير من الطالبات والعوائل، بعض منا تركن التعليم وتزوجن، والآن يربين أولادهن دون تعليم، وبقي موضوع التعليم عقدة في داخلهن وهن أمهات، طالبات أخريات ذهبن إلى بلدان أخرى ليكملن تعليمهن، وبعضنا انتظرن حل المشكلة بصبر لا يفنى.
اليوم الحمدلله انتهت مشكلة الحجاب في كل المؤسسات وتربع الحجاب على العروش والمقاعد الدراسية كما نحب نحن كطالبات محجبات، الحجاب الآن مسموح به من الابتدائية إلى الجامعة ودون حظر، وهو كذلك في الشركات الخاصة والدوائر الحكومية التركية.
رفع الحظر عن الحجاب كُلّيًا لم يكن يتحقق إلا بمواجهة الكثير من الصعوبات، دفعنا فيها ثمنًا عاليًا بسبب خوفنا على الحجاب.
لن ننسى الفوضى في البرلمان التركي عندما دخلت النائبة مروة قاوقجي بحجابها وصراخ النواب “اخرجي، اخرجي” مثل أطفال في روضة، وكلام رئيس الوزراء السابق بولنت أجاويد: “علّموا هذه المرأة حدّها“.
أصوات الفوضى تلك لن تمحى من أذهاننا، فاليوم أخت النائبة مروى، روضة قاواقجي تدخل البرلمان التركي مرفوعة الرأس بنفس الحجاب مؤدية قسم اليمين، دخلت رضوى البرلمان ولم يحدث أي خلل أو فساد في الديمقراطية كما حصل في السابق مع أختها مروى، وليس هذا فحسب، فدخل البرلمان مع رضوى 21 نائبة أدّين قسم اليمين بالحجاب في برلمان تركيا.
لا نستغرب من دخول البرلمانيات التركيات بحجابهن إلى البرلمان، فأحلام الأمس أصبحت حقائق اليوم.
حظر الحجاب سرق سنتين من شبابنا، تسبب بالقضاء على أحلامنا وتعليمنا، أحلامي الجميلة في مجال التعليم بقيت كحلم مستحيل، بعد سنتين من كل هذه المعاناة تحسّن الأمر قليلاً
هذا هو رئيس جمهورية تركيا الديمقراطية التي يدعون، لم أستطع ولن أستطيع فهم كراهية هذا الرئيس لحجابنا! لكنني كنت أعرف حينها أنه يجب علينا ذكر محاسن موتانا، لم أتكلم عليه بسوء، وفي نفس الوقت لم ولن أستطيع الثناء عليه.
نعم، لقد دفعنا أثمانًا باهظة في هذا الطريق، وفقدنا سنوات قيمة من أعمارنا، ربما لأننا لم نفقد أملنا بالله، فقد أثمر صبرنا وعاد إلينا بفوائد كبيرة، واليوم يدفع الثمن من جعلونا ندفع هذه الأثمان سابقًا، كنا مواطنين غير مرغوبين في المجتمع، يتم طردنا من المؤسسات التعليمية والدوائر الحكومية والمعسكرات.
لقد استطعنا أن نهزم أصحاب عقلية 28 من شباط في 15 من تموز، وعلينا أن نبقي على هذه الروح في أعماقنا، وفقط أتذكر أقوال المرحوم نجم الدين أربكان حين قال: “إن لدي إيمان جازم بأن السنوات القادمة ستكون للحق وللذين يؤمنون بالحق”.