أعلنت السلطات الإيطالية مؤخرًا وصول قرابة 7 آلاف مهاجر في يوم واحد إلى جزيرة لامبيدوزا القريبة من السواحل التونسية – أي ما يعادل إجمالي عدد السكان المحليين – ويُنقل المهاجرون الذين يصلون إلى لامبيدوزا بانتظام إلى جزيرة صقلية لتخفيف الازدحام هناك.
قبل ذلك، أظهرت أحدث بيانات وزارة الداخلية الإيطالية أن نحو 123860 مهاجرًا عبر البحر المتوسط بشكل إجمالي وصلوا إلى إيطاليا منذ بداية العام الحاليّ، وهو ما يمثّل تقريبًا ضعف الرقم المسجل في الفترة نفسها من العام 2022، في المقابل هناك رقم كبير لأشخاص بدأوا الرحلة ولم يصلوا إلى السواحل الإيطالية، فوفقًا لوكالة الهجرة التابعة للأمم المتحدة توفي أكثر من ألفي شخص هذا العام في أثناء عبورهم من شمال إفريقيا إلى إيطاليا ومالطا، منهم أطفال صغار ورضع وكبار سن.
أرقام مفزعة تبين حجم الكارثة التي يتعرض لها المهاجرون في رحلتهم نحو السواحل الشمالية للمتوسط، لكن هذه الأرقام تنقصها أرقام أخرى لمهاجرين غير نظاميين ماتوا في الصحراء الإفريقية الكبرى في رحلتهم من الجنوب إلى الشمال.
غالبًا ما يجري تسليط الضوء على أعداد المفقودين والضحايا في البحر، فيما تتجاهل الدول والمنظمات الإنسانية ضحايا الهجرة في الصحراء الكبرى، الذين يقدرون بعشرات الآلاف، ما دفعنا في “نون بوست” إلى الكتابة عن هذه الرحلة المميتة، ضمن ملف “الصحراء الكبرى”.
الهجرة في الصحراء عبر التاريخ
تُعرِّف وكالة الهجرة التابعة للأمم المتحدة، المهاجر بأنه أي شخص ينتقل أو انتقل عبر حدود دولية أو داخل دولة بعيدًا عن مكان إقامته المعتاد، بغض النظر عن الوضع القانوني للشخص، وما إذا كانت الحركة طوعية أو غير طوعية، وماهية أسباب الحركة ومدة الإقامة.
والهجرة ليست وليدة اليوم، فمنذ الأزمنة الأولى والبشرية في حالة تحرك وتنقل، فبعض الناس ينتقلون لأسباب اقتصادية، ومنهم من يهاجر لأسباب اجتماعية، وكثيرون يختارون هذا الطريق لأسباب تعليمية وأكاديمية، فيما يختار عدد منهم الهجرة لأسباب إنسانية، هربًا من الصراع أو الاضطهاد أو الإرهاب أو انتهاكات حقوق الإنسان.
اعتبارًا من يونيو/حزيران 2019، قُدر عدد المهاجرين الدوليين بنحو 272 مليونًا على مستوى العالم، بزيادة 51 مليون عن عام 2010، وفقًا لتقرير الهجرة العالمية لعام 2020 الصادر عن المنظمة الدولية للهجرة، وكان الثلثان تقريبًا من العمال المهاجرين.
هذه الأرقام تخفي خلفها مسارات كثيرة للهجرة، وهذا ليس مكانًا للحديث عن جميعها، بل سنركز على الهجرة عبر الصحراء الكبرى فحسب، فهي ظاهرة قديمة لا يمكن فهمها إلا في سياق الخليط الجغرافي والثقافي والاقتصادي المتشابك بشكل وثيق.
أدت ترتيبات ما بعد الاستعمار الأوروبي لدول الصحراء الكبرى إلى إنشاء دول مستقلة تتقاطع حدودها مع القبائل والعشائر والمجموعات العرقية، وهذه الأخيرة تشكل أقلية سياسية واقتصادية محرومة تقع على أطراف الصحراء.
تاريخيًا، أولت الحكومات القليل من الاهتمام للتنمية الاجتماعية والاقتصادية لهذه المناطق ومجتمعاتها، وفي حالة مالي وليبيا، أثارت الحكومات القبائل والعشائر المختلفة ضد بعضها البعض، وهو ما دفع أفرادًا كثر من هذه المجتمعات إلى الهجرة.
دفعت التغيرات المناخية أيضًا، العديد من الصحراويين إلى الهجرة، فالتحديات المناخية في المنطقة، مثل التباين في هطول الأمطار والجفاف الدوري والتصحر المتزايد، فرضت الهجرة المستمرة على سكان المنطقة.
وأدت الهجرات الداخلية وعبر الحدود بين المجتمعات في جميع أنحاء الصحراء الكبرى إلى تخفيف الصدمات التي يتعرض لها الأهالي هناك، خاصة الساكنين في صحراء دول مالي والنيجر الذين فضلوا الاستقرار في العديد من المرات بالدول المجاورة كالجزائر وبوركينا فاسو وموريتانيا وليبيا.
ليبيا والجزائر.. دول المقصد الجذابة
تنطلق أبرز الهجرات من النيجر ومالي وتشاد إلى ليبيا والجزائر، فقد كانا من بلدان المقصد الجذابة بشكل خاص بسبب اقتصادهما القوي، وتمتعهما بثروات باطنية ومدخرات مالية كبيرة مكنتهما من بناء اقتصادات قوية، رغم أنها هشة.
تطورت العلاقات التجارية على مر السنين بين جنوب الجزائر وشمال مالي، وشهدت عبور العديد من التجار الماليين والعمال الموسميين الحدود الجزائرية للعثور على عمل هناك، لصعوبة الوضع في الصحراء المالية، وأضفت حكومتا البلدين الطابع الرسمي على هذه الهجرة من خلال اتفاقيات ثنائية شرعت حرية التنقل بين البلدين.
يوصل المهرِّبون وتجار البشر المهاجرين غير النظاميين إلى المدن الساحلية بواسطة شاحنات متهالكة عبر طرق ترابية غير ممهدة
برزت ليبيا في عهد معمر القذافي كدولة مستقبلة وراعية للأفارقة بفضل احتياطياتها النفطية التي تعدّ الأكبر في إفريقيا، وقد اجتذبت الثروة النسبية للبلاد منذ فترة طويلة المهاجرين بحثًا عن عمل، وفتح القذافي أبواب البلاد ضمن سياسته الخاصة بالوحدة الإفريقية.
سمحت ليبيا بدخول المواطنين الأفارقة البلاد دون تأشيرات بين عامي 1998 و2007، نتيجة ذلك توافد الأفارقة من جنوب الصحراء الكبرى إلى ليبيا بأعداد كبيرة من أجل العمل في الزراعة والبناء وغيرها من الأعمال الهشة.
مسارات الهجرة
في العقود الأخيرة، لم تعد ليبيا والجزائر دولتي استقرار يفضلهما للأفارقة، نتيجة عدم الاستقرار الأمني هناك، وأصبحتا دولتي ممر نحو البر الأوروبي، وأضيفت لهما تونس والمغرب، فالهدف عند المهاجرين الآن الوصول إلى أوروبا وليس شمال إفريقيا.
منذ نهاية التسعينيات، عرفت المنطقة تدفق أعداد متزايدة من المهاجرين القادمين من بلدان ساحل الصحراء، إذ تمتد هذه الهجرة لآلاف الكيلومترات عابرة الصحراء الكبرى ثم البحر المتوسط أو الأطلسي، لتصل إلى القارة الأوروبية، وقد اتخذت هذه التدفقات البشرية من البلدان المغاربية محطّات عبور للوصول إلى هدفها الرئيسي، أوروبا الغربية.
تتعدّد مسارات الهجرة غير النظامية داخل الصحراء الكبرى نحو السواحل الشمالية للبحر المتوسط، فالبعض يبدأ مغامرته مثلًا من أغاديس شمال النيجر وبدرجة أقل من غاو شمال مالي، وفيهما يتجمع مهاجرو النيجر ومالي وبوركينا فاسو.
يتجمع غالبية المهاجرين غير النظاميين القادمين من تلك المناطق في مدن الجنوب الليبي على غرار القطرون وأم الأرانب وسبها ومرزق وأوباري، وهناك يلجأون إلى العمل اليدوي لعدة أشهر وأحيانًا لسنوات للحصول على المال اللازم لإكمال بقية الرحلة إلى أوروبا.
ثمة فئة أخرى من المهاجرين تختار الذهاب إلى تمنراست أو ورقلة في صحراء الجزائر، وقد شهدت هاتان المدينتان تدفق أعداد كبيرة من المهاجرين، بعد أن عرفتا تحولات عمرانية وتنموية كبيرة أهلتهما لتكونا منطقتين جاذبتين للهجرة، إذ تحتاجان إلى أعداد كبيرة من اليد العاملة خاصة في مجال البناء والتعمير والفلاحة، وهي المجالات التي يعزف أبناء المدينة عن العمل فيها.
يتجه المهاجرون غبر غاو وأغاديس إلى جنوب ليبيا والجزائر سيرًا في جماعات صغيرة برفقة أحد المهرّبين، غالبًا يكون من الطوارق على متن السيارات ذات الدفع الرباعي أو الشاحنات القديمة أو حتى على الجِمال في بعض المرات.
بعد الوصول إلى مدن الجنوب الليبي، يبدأ التحضير للجزء الثاني من المغامرة، أي انتقالهم من المدن الحدودية بالجنوب إلى مدن الشمال الساحلية، وتتم العملية بشكل فردي أو جماعي، حيث تتكفل المليشيات المسلحة بإيصالهم إلى مدن الشمال الساحلية بمقابل مالي.
يوصل المهرِّبون وتجار البشر المهاجرين غير النظاميين إلى المدن الساحلية بواسطة شاحنات متهالكة عبر طرق ترابية غير ممهدة، ويكون المهرِّبون في الغالب تابعين لمليشيات مسلحة أو تحت حماية مليشيات معينة يدفعون لها إتاوات نظير الحماية.
أما المرحلة الثالثة والأهم في مسار الهجرة عبر ليبيا، حيث يتجمع المهاجرون في أماكن تجميع على الساحل الليبي في مزارع واستراحات بمدن الخمس والقربوللي وطرابلس وصبراته وزوارة وبنغازي وسرت حتى يكتمل العدد لبدء رحلة قوارب الموت.
نفس الحالة تتكرر في الجزائر، فبعد الوصول إلى ورقلة ثم تمنراست، يبدأ المسار نحو مدينة غرداية فأدرار ثم الحدود المغربية، للوصول في الأخير إلى السواحل الشمالية للبلاد أو السواحل الجنوبية المطلة على جزر الكناري.
المهاجرون غير النظاميين لا ينطلقون نحو البر الأوروبي من الجزائر وإنما من ليبيا والمغرب، وتتشابه عملية الهجرة في كلا البلدين، فعندما يحين وقت المغامرة النهائية، يدفع المهاجر ثمن الرحلة للمهربين ثم يصعد إلى السيارة التي ستقله إلى الشاطئ الذي عادة لا يكون بعيدًا عن مراكز التجميع، قبل الوصول إلى الشاطئ بدقائق ينزل الجميع من السيارة، فعليهم متابعة الرحلة سيرًا على الأقدام ليجدوا في انتظارهم زوارق مطاطية تتكفل بنقلهم إلى المركب المخصص لرحلة العبور إلى الضفة الأخرى من المتوسط أو المحيط الأطلسي.
في السنوات الأخيرة، تراجعت الهجرة من السواحل الليبية والمغربية نحو السواحل الأوروبية، نظرًا للصعوبات الأمنية في ليبيا وتشديد المراقبة الأمنية في المغرب، فاضطر آلاف المهاجرين الأفارقة إلى خلق طريق جديد ووجدوا في تونس مقصدهم.
بعد الوصول إلى ليبيا أو الجزائر، يواصل المهاجرون الأفارقة القادمون من الصحراء الرحلة نحو الجنوب التونسي ومن ثم نحو المدن الساحلية خاصة صفاقس التي تعتبر أبرز مدن الانطلاق نحو الساحل الأوروبي الجنوبي.
وسجلت السواحل التونسية في الأشهر الأخيرة، تضاعف أعداد المهاجرين المنطلقين منها نحو أوروبا، ما دفع السلطات الأوروبية لإبرام اتفاقيات تلزم السلطات التونسية بالتصدي للمهاجرين مقابل الحصول على بعض المساعدات التنموية.
خطر محدق طوال الرحلة
مثلت الهجرة للعديد من الأشخاص المقيمين في الصحراء الكبرى صمام أمان، فمن خلالها يهربون من الحروب والبطالة والتغيرات المناخية وانعدام الاستقرار السياسي والاجتماعي والاستبداد والانتهاكات التي تطالهم، وفي ظنهم أن رغد العيش ينتظرهم في بلدان الشمال.
يستغرق التحضير لهذه المغامرة وقتًا طويلًا، فالأمر ليس سهلًا، إذ يتطلب تمويلًا كبيرًا بالنظر إلى الظروف الاقتصادية المزرية لغالبية المهاجرين، ويضطر غالبية المهاجرين للعمل في أعمال شاقة أو الاقتراض من الأهل والأصدقاء لتوفير ثمن الرحلة الذي يتراوح بين 300 إلى 1000 يورو.
يمثل هذا المبلغ كلفة النقل تدفع للمهربين أو رسوم ورشاوى على طول مسار الرحلة، وفي بعض الأحيان لحراس الحدود، أو للبدو أو المجموعات المسلحة المنتشرة في كامل الطريق، هذا دون اعتبار ثمن الرحلة من سواحل ليبيا أو تونس أو المغرب نحو السواحل الأوروبية التي تتكلّف عادة نحو 1500 يورو.
يختار المهاجرون مسارات طويلة لتجنب السلطات الرسمية، لكنهم في الوقت ذاته يعرضون أنفسهم لمخاطر عديدة، وسبق أن خلص تقرير جديد لمنظمة “بوردر فورنزكس” (Border Forensics)، إلى أن المهاجرين ليس لديهم أي فرصة تقريبًا للبقاء على قيد الحياة عند عبور الصحراء من النيجر إلى ليبيا.
ومنذ تطبيق قوانين مراقبة الحدود عام 2015، أُجبر المهاجرون على اتخاذ مسارات أكثر بعدًا وفتكًا، وفقًا لشركة بوردر فورنزكس، ما أدى إلى وفاة المئات وفقدان آثر آلاف المهاجرين غير النظاميين في الصحراء الكبرى.
في سنة 2015، اعتمدت نيامي قانونًا يجعل نقل واستضافة المهاجرين غير قانوني، ما دفع المهربين للبحث عن طرق جديدة بعيدة عن الطرق الرئيسية وأقل وضوحًا للسلطات، ما ضاعف عدد القتلى، وإن كانت لا توجد أرقام رسمية تعطي الرقم الحقيقي للضحايا من المهاجرين.
يكون المهاجرون في الصحراء ضحايا للمرض وبصفة أكبر للجفاف، فالعديد منهم يموتون نتيجة نفاد المياه الصالحة للشرب منهم وعدم إيجاد أي مورد مائي في الصحراء القاحلة والسلطات تصل إليهم بعد فوات الأوان.
البعض الآخر يكون ضحية لارتفاع درجات الحرارة الشديدة أو الرياح العاتية والعواصف الرملية، أي ضحايا مناخ الصحراء الكبرى القاسي، فالبقاء لأيام طويلة في العراء وتحت أشعة الشمس الثاقبة له أن يربك القدرات الجسدية للمهاجر غير النظامي، ويتسبب في موته.
هناك جزء كبير من المهاجرين يكونون ضحايا عصابات الجريمة المنظمة المنتشرة في أغلب مناطق الصحراء الكبرى، فضلًا عن التنظيمات الإرهابية الناشطة بقوة في تلك المنطقة، وقد تم رصد وفاة المئات على يد هذه التنظيمات المسلحة.
العديد من الجثث تختفي تحت الرمال شيئًا فشيئًا، وتبقى مدفونة هناك للأبد، خاصة أن السلطات الرسمية لا تولي اهتمامًا كبيرًا لهؤلاء المهاجرين، فغالبًا هي التي تدفعهم للهجرة بغية التخلص منهم، لكن في بعض المرات يمكن للعواصف الهوائية أن تكشف الجثث، فتكشف عن أجساد جافة، انكشفت فجأة بفعل حركات الرمال، وفق بوردر فورنزكس.
ووفقًا للوكالة التابعة للأمم المتحدة، ارتفع عدد المهاجرين الذين تقطعت بهم السبل خلال الأشهر الأربع الأولى في شمال النيجر بنسبة 35% في عام 2022، وخلال ذلك العام، قالت المنظمة الدولية للهجرة إنها ساعدت أكثر من 17 ألف مهاجر في المنطقة، ويقولون إن الأرقام ستستمر في النمو في عام 2023 أيضًا.
دفع هذا الأمر المنظمة الدولية للهجرة، إلى انشاء سبعة مراكز عبور على طول طرق الهجرة في منطقتي أغاديس ونيامي من أجل تقديم المساعدة للمهاجرين المستضعفين، وغالبية الأشخاص الذين تساعدهم المنظمة الدولية للهجرة يأتون من مالي وغينيا ونيجيريا وسيراليون، لكن من الصعب على أي من هذه المراكز تلبية جميع الاحتياجات بشكل كاف، في ظلّ تزايد الأعداد.
حتى من كتب له النجاة ووصل إلى بلدان شمال إفريقيا (ليبيا وتونس والجزائر والمغرب) فإن سلطات تلك الدول، غالبًا ما تدفع المهاجرين الأفارقة غير النظاميين مرة أخرى إلى الصحراء، وقد عايننا ذلك مؤخرًا في تونس والجزائر بصفة خاصة.
تتعمد السلطات في تونس والجزائر خصوصًا طرد المهاجرين إلى الصحراء دون أكل وشراب وفي العراء وذلك بعد تجريدهم من ممتلكاتهم، لدفعهم إلى مغادرة البلاد، ما أدى إلى وفاة عشرات المهاجرين بين الكثبان الرملية للصحراء الكبرى.
يهلك عشرات المهاجرين يوميًا في عرض المتوسط والأطلسي، لكن هناك أعدادًا أخرى لا يتحدث عنها الإعلام كثيرًا ولا المنظمات الإنسانية، وهم ضحايا الصحراء الكبرى، إذ يسجل يوميًا عشرات الموتى من المهاجرين في هذه الصحراء القاسية لكن دون أن تتدخل السلطات المحلية ولا الدولية بالشكل المطلوب لوقف هذه المجازر بحق المهاجرين.