ربما تابع الكل منذ سنوات مسلسل التغريبة الفلسطينية للمخرج حاتم علي وتأثر به العالم حتى لقد قالت تلك العجوز الفلسطينية لحفيدها وهي تتابع مشهد النازحين وتبكي “انظر في الجموع جيدًا ربما ترى خالك الذي أضعته طفلاً في النزوح”.
كان بعيدًا عن خواطرنا ونحن نقرأ تاريخ فلسطين وكيف هُجر أهل حيفا ويافا وكيف كانت سياسة اليهود في الهجوم المروع والقتل والإبادة لمناطق المدنيين حتى يهرب الناس بأعمارهم إلى مكان يجدون فيه الحياة عوضًا عن الموت؟ ما أشبه اليوم بالبارحة، إن مشاهد القصف التي تتداولها صفحة سيناء 24 ليست جديدة لكن لا يتابعها الكل، وإدراك أن جزءًا من أرض مصر يتم تهجير أهله وتجريف أرضه وتفجير بيوت سكانه الأصليين مع الأسف لا نراه في نظرات الشعب المهموم على القوت وفقط، إن الناس تسمع وتصمت وتنكر وتذهل بواقعها الذي لم يعد بعيدًا عن واقع أهالي سيناء وتفضل في النهاية أن تتعامى عن تلك الحقائق المرعبة.
إن مشهدي النازحين من حلب والنازحين من العريش ما هما إلا وجهين لعملة واحدة لأنظمة قمعية تقتات على فزع الشعوب وتعبث في عقول المدنيين لتجعل الحقائق أبعد ما تكون عن المشهد
لفظة ولاية سيناء صارت معروفة بالفعل وحقيقتها مؤكدة لمن يعيش على أطراف الصراع من المدنيين، هناك حادثة يجزم الكثيرون بوقوعها لمجموعة من المعلمات من رفح كن في طريقهن إلى المدرسة حين أوقف الباص مجموعة من الرجال وتحدثوا مع المعلمات أنهم من ولاية سيناء وعلى المعلمة أن تلتزم النقاب وتصطحب محرمًا إن كن يردن أن يعملن! ثم تهرب المحافظ من مقابلة المعلمات الخائفات على حياتهن بعد تلك الحادثة.
صورة جنود الجيش المصري وهم ينكلون بشاب سيناوي ويقتلونه من أشد الوقائع ضراوة على نفس كل عاقل في هذا الوطن. إن دولة العسكر تصنع أعداءها بمهارة منقطعة النظير ثم تظهر ولولتها وتغنيها بشهداء الواجب التي تبلغ عنان السماء على الإرهاب ضربًا من الكذب والخداع المحض، لقد أوصلوا الناس هناك إلى تفضيل وجود داعش وتنظيم الدولة على وجود الجيش بقصفه الذي دك رفح المصرية ويطال الآن مدينة العريش في شمال سيناء، حيث ظهرت سلسلة ممنهجة من قتل وحشي للمدنيين من الأقباط، مما دفع الكنيسة إلى توجيه رعاياها للخروج وهو ما كان الأهالي يريدونه بعد أن صارت السيناريوهات المرعبة تهدد حياتهم كل يوم.
إن انتحاب مواقع التواصل الاجتماعي على أطفال سوريا وتهجير حلب وقصف الجيش السوري لمناطق المدنيين بالبراميل المتفجرة وأحداث المجازر المهولة يبدو ظالمًا جدًا إذا ما قارناه بالتغافل والتجاهل لما يحدث على بعد مدن في وطننا مصر.
قضية سيناء هي الجرح النازف في ضمير كل حر، اليهود الآن يتجولون بطائراتهم في سمائها ويصرحون في إعلامهم الرسمي بهذا دون مواربة، والجيش يعيث فسادًا في أرضها ويطارد أهلها وينكل بعائلات كاملة، ويبدو أن ما يمارسه من تواطؤ على غزة وإغلاق للمعبر وتفجير للأنفاق ليمنع عن المدينة المحاصرة كل عون أو مدد لا يكفي بل صار على جيران غزة أن يشاركوهم الحصار.
هناك نظرية تقول إن ما يحدث من تهجير لأهالي سيناء وقتل استفزازي في الأقباط ما هو إلا ذريعة من ذرائع العسكر لإرسال البقية الباقية من المدنيين في سيناء إلى مدن أخرى من الجمهورية ووضع سيناء كاملة تحت تصرف اليهود مع غطاء وتفويض شعبي كامل لهذه المهزلة!
صورة جنود الجيش المصري وهم ينكلون بشاب سيناوي ويقتلونه من أشد الوقائع ضراوة على نفس كل عاقل في هذا الوطن
لا يعرف أحد حقيقة ما يدور هناك إلا أن أنهار الدماء التي استبيحت تحت مسميات مختلفة هي الشاهد الأقوى على أن ما تواجهه مصر في سيناء أمرًا شديد الهول وأن هذا التهجير الذي سمعنا عنه في سوريا صارت مصر تعيشه في أجزاء عزيزة منها أيضًا، ولا يوجد أي بارقة أمل في تحسن الأوضاع وعودة النازحين، بل ما وجدناه هو السرعة غير المسبوقة التي واجهت بها الحكومة تهجير الأقباط ونداءات الإعلام بضرورة سرعة نقل أوراق أولادهم إلى مدارس وجامعات مدينة الإسماعيلية بعد أن فتحت الكنيسة الإنجيلية أبوابها لهم، وأسطوانات النحيب التي تعمل عليها جوقة الإعلام المصري في وصف التطرف الذي تعيش سيناء يجعل المنطق يرجح أن هذا النزوح وتلك التضييقات والجرائم التي ارتكبت وذلك المشهد السلسل يخلو من العشوائية ويبدو من تنفيذ جهات قد وضعت مخططًا ما لسيناء لا بد سيراه الناس قريبًا.
إن مشهدي النازحين من حلب والنازحين من العريش ما هما إلا وجهين لعملة واحدة لأنظمة قمعية تقتات على فزع الشعوب وتعبث في عقول المدنيين لتجعل الحقائق أبعد ما تكون عن المشهد وتوطد لنظام الهمجية الممنهجة، حيث يبدو الوطن غاية في الفوضى تجعل عقول ساكنيه غير راغبة في التفكير في أكثر من قوت يوم آخر، وكأن العالم قد جن تمامًا وصارت اللامنطقية هي قانونه الوحيد.
ومع القصف الذي يطال مناطق غزة هذه الأيام يبدو منطقيًا مع تهجير أهالي سيناء وكأن غزة هي جواب كل شيء هم يريدون لأهلها التسليم ولو رضخت غزة لرأينا نزوح أهلها إلى سيناء تمامًا كما يتمنى اليهود وأتباعهم وتظل البقعة الوحيدة الحرة والحارقة في العالم هي التي تدير المشهد، كغزالة في أوج عنفوانها تقاتل وسط قطعان من الضباع لا يعلمون من أين يصيبونها ورغم الحصار لا تسقط، ونصلي لتكون شرارة الثورة والحرية المنتظرين في بلاد عشش فوق رأسها العنكبوت، وتحية للصامدين من أهالي العريش وتحية للمرابطين في منارة القلوب (غزة) وتحية للشهداء في كل وقت وحين.