استكمالًا للتحركات الصهيونية الساعية للتخلص من حل الدولتين وفرض الأمر الواقع على الصراع العربي الصهيوني، وفي سياق الاستراتيجية الذي يتبعها الاحتلال مع الفلسطينيين بشأن مستقبل القضية، والتي بدأت بالقضاء على أي فرصة لحل الدولتين، مرورًا بتهميش السلطة الفلسطينية والتحرك على الصعيدين الدولي والإقليمي لفرض حل لا يكون للجانب الفلسطيني فيه أي دور يُذكر، جاء مقترح رئيس حكومة اليمين نتنياهو من أستراليا، بشأن نشر قوات دولية في قطاع غزة، كخطوة متقدمة سيكون لها ما بعدها.
بهذا المقترح المفاجئ يحاول نتنياهو استغلال عامل الوقت والاستفادة من الظروف الراهنة المثالية بالنسبة لليمين الصهيوني، وذلك في ظل وجود ترامب، والتخاذل العربي والإقليمي تجاه القضية الفلسطينية، ولعل الجهود الدولية الرامية لفرض الحل الإقليمي، اعتمادًا على الصفقة التي أشار إليها نتنياهو خلال زيارته للولايات المتحدة تصب في مصلحة الكيان.
لذلك يأتي رفض الحكومة الصهيونية لمقترح عباس المشابه بعد عدوان 2009 على غزة، وإعادة طرح نتنياهو لفكرة نشر القوات الدولية في الوقت الراهن، في سياق المساعي الصهيونية التي نجحت في القضاء على حلم الدولة الفلسطينية، فإمكانية عودة السلطة الفلسطينية إلى غزة أمرًا بات شبه مستحيل، كما أن إمكانية وجود أي سيادة للسلطة الفلسطينية في الضفة الغربية، مسألة لم تعد قائمة، لذلك فإن الفصل التام بين غزة والضفة الغربية جغرافيًا وإداريًا وسياسيًا شكل دافعًا لنتنياهو لطرح مقترح نشر القوات الدولية في غزة.
سبق وأن رفضت حكومة اليمين في إسرائيل مقترحًا مشابهًا أثاره الرئيس محمود عباس عام 2009، فلماذا تحول مطلب نشر القوات الدولية في غزة إلى مطلب صهيوني؟
الإجابة على هذا السؤال تعبر عنها الصحافة العبرية، حيث لم يتوقف حديث الإعلام الصهيوني خلال الأسابيع القليلة المنقضية عن دولة غزة الكبرى، كما أن قيادات سياسية صهيونية أشارت إلى ذلك، فضلًا عن أن نجاح الكيان في إحداث الفصل التام بين الضفة الغربية وقطاع غزة، قد شغل الكثير من النخب الفلسطينية وهذا ما يفضله الكيان، فهو لا يُمانع من حيث المبدأ قيام دولة غزة كبديل عن الدولة الفلسطينية، لكن قيام هذه الدولة لا يعني بقاء خطر المقاومة، لذلك فإن مقترح نشر القوات الدولية قد يأتي في سياق ضمان منع تطور المقاومة وإبقاء حدود غزة آمنة.
وعليه فإن نتنياهو المعني بحل الصراع في الضفة الغربية عبر السيطرة الأمنية الكاملة، مع الإبقاء على السلطة الفلسطينية لتكون أشبه بدويلة منقوصة السيادة، يهمه أيضًا أن يكون الوضع مشابه في قطاع غزة، لكن عجزه عن فرض الأمن في غزة دفعه لطرح مقترح نشر القوات الدولية في غزة.
من شأن هذا الطرح الصهيوني بخصوص نشر القوات الدولية أن يخفف العبء الأمني على الكيان، فالسلطة الفلسطينية في رام الله أخذت على عاتقها هذه المسألة، بينما الوضع في قطاع غزة مختلف تمامًا، لذلك أشار نتنياهو إلى تجربة جنوب لبنان عام 2000، ورغم اعترافه بعدم نجاحها، إلا أنه أكد على إمكانية تطبيقها في غزة بشكل يسمح للقوات الدولية بالسيطرة الكاملة، وهو ما يؤكد على أن التصور الصهيوني لمستقبل غزة “دويلة منقوصة السيادة” تتكفل القوات الدولية بأمنها وأمن الكيان.
حاول الكيان من خلال سياسة الحصار التي يُمارسها منذ عام 2007 نزع سلاح المقاومة، لكن محاولاته لم تُجد نفعًا، لذلك فإن مقترح نشر القوات الدولية في غزة قد يكون بديلًا عن نزع سلاح المقاومة، فنجاحه في نشر قوات دولية، يعني تخلصه ولو بشكل مؤقت من معضلة سلاح المقاومة.
نتنياهو معني أيضًا باستمرار الفصل بين الضفة الغربية وغزة على جميع الصُعد، فنشر القوات الدولية من شأنه أن يعمق هذا الفصل أو يؤكد عليه، لأن السلطة الفلسطينية برئاسة عباس، سبق وأن طرحت فكرة نشر القوات الدولية في غزة، فحديث نتنياهو عن هذا الأمر يمكن أن يتحول إلى نقطة خلاف جديدة بين فصائل المقاومة والسلطة الفلسطينية، خاصةً أن الأخيرة لم تُعبر عن موقفها بشكل صريح من مقترح نتنياهو.
ينسجم مقترح نتنياهو مع الحل الإقليمي الذي يجري الترويج إليه من قبل الكيان الصهيوني والولايات المتحدة الأمريكية، ولا يُستبعد أن يلقى ذلك المقترح استحسان عربي، خاصةً أن الجانب المصري يتخذ من مسألة انعدام الأمن في سيناء ذريعة
ينسجم مقترح نتنياهو مع الحل الإقليمي الذي يجري الترويج إليه من قبل الكيان الصهيوني والولايات المتحدة الأمريكية، ولا يُستبعد أن يلقى ذلك المقترح استحسان عربي، خاصةً أن الجانب المصري يتخذ من مسألة انعدام الأمن في سيناء ذريعة يبرر من خلالها عدم قدرته على الانفتاح مع قطاع غزة، فنشر قوات دولية في غزة ربما يكون فيه مصلحة لمصر.
يحاول نتنياهو بهذا المقترح أن يجس نبض الأطراف الدولية، فيما لو تم تحويل قطاع غزة من قضية فلسطينية صهيونية إلى قضية دولية، من خلال إشراك قوات متعددة الجنسيات، أو محاولة استنساخ تجربة دولة جنوب السودان، على اعتبار أن قطاع غزة منطقة أزمات.
لكن الحديث عن نجاح هكذا خطوة يحتاج إلى بيئة مناسبة تسبق التطبيق العملي، فالفصائل الفلسطينية وعلى رأسها حركة حماس ستحول دون نجاح المخطط الصهيوني، وعلى الأرجح أن الكيان يمكن أن يلجأ إلى خطوتين لتحقيق مبتغاه.
الأولى تشديد الحصار على قطاع غزة من أجل دفع المقاومة الفلسطينية نحو القبول بمقترح نتنياهو، لذلك لا تتوقف حكومة الأخير عن تشديد الحصار، وقد وصل الأمر مؤخرًا إلى منع إدخال أكثر من 500 سلعة إلى قطاع غزة، فضلًا عن تعمق الكثير من الأزمات الاقتصادية والمعيشية لا سيما أزمة الكهرباء.
صحيح أن سياسة تشديد الحصار على قطاع غزة قد فشلت في تركيع المقاومة لكنها تبقى الخيار الأسهل بالنسبة للكيان، خاصةً أن شروط رفع الحصار عن غزة صهيونيًا، مرتبطة باعتراف حماس بشروط اللجنة الرباعية الدولية، ولا يُستبعد أن يلجأ الكيان إلى مقايضة فك الحصار عن قطاع غزة بنشر القوات الدولية، لكن نجاح تشديد الحصار لدفع المقاومة نحو قبول نشر القوات الدولية يبقى محدودًا.
الثانية عدوان جديد على غزة لتحقيق غاية نتنياهو بشأن نشر القوات الدولية، لأن سيكون عليه العمل على إنهاء الوجود السياسي والعسكري لقوى المقاومة في غزة، وتحديدًا حماس من خلال شن عدوان شرس على القطاع.
هذه المغامرة غير المحسوبة من حيث العواقب، من شأنها أن تستدعي موقفًا دوليًا ليترجم مقترح نتنياهو بخصوص نشر القوات الدولية، وذلك بحجة حماية المدنيين، حينها ستكون فصائل المقاومة مضطرة لقبول ذلك المقترح إذا تم ربط نشر القوات الدولية بملف إعادة الإعمار، خاصةً أن تداعيات المواجهة العسكرية المحتملة ستكون كبيرة.
تبذل حكومة نتنياهو محاولات غير مسبوقة لاستثمار وتوظيف الظروف الدولية والإقليمية لإنهاء القضية الفلسطينية، سواء في الضفة الغربية أو قطاع غزة
في هذه الأثناء لا يُستبعد أن يكون هناك توافقًا إقليميًا عربيًا على هذه الرؤية، خصوصًا أنه حاضر ضمنًا، فالحديث عن تحالف عربي إقليمي مع الكيان بغطاء أمريكي، بات مؤشرًا أوليًا على ذلك، لكن نقطة البداية في هذا المشروع تحتاج إلى فعل ما له علاقة بأمن الكيان الصهيوني، وهذا ما يُفسره تركيز التقارير الإعلامية الصهيونية الحديثة على أنفاق المقاومة الهجومية التي تتجاوز حدود غزة.
قصارى القول، تبذل حكومة نتنياهو محاولات غير مسبوقة لاستثمار وتوظيف الظروف الدولية والإقليمية لإنهاء القضية الفلسطينية، سواء في الضفة الغربية أو قطاع غزة، لكن نفي القيادة السياسية الصهيونية إمكانية الدخول في مواجهة مع المقاومة في غزة، لا يعني عدم الاستعداد الصهيوني لذلك الأمر، لكن ساعة الصفر لم تحن بعد، لأن تصور الكيان لما بعد المواجهة المحتملة يبدو أنه لم ينضج بعد، فطرح نتنياهو نشر القوات الدولية في غزة هو تصور مبدئي ولم يتبلور إلى رؤية صهيونية لمستقبل غزة.