تمر اليوم (4 من مارس)، الذكرى الأولى لوفاة عالمنا وفقهينا الكبير الدكتور طه جابر العلواني – رحمة الله – الذي غادر دنيانا العام الماضي عن عمر يناهز الثمانين عامًا قضاها في خدمة الإسلام والمسلمين، ولد الدكتور طه جابر العلواني – رحمه الله – في مدينة الفلوجة العراقية، وتفتحت عيناه على القرآن الكريم طفلًا، حيث انتظم في سلك التعليم الديني صبيًا، حتى ترسخت قناعاته بهذا الكتاب الكريم، وأنه كتاب الاستخلاف وكتاب الهداية ومنبع كل حكمة وخير، وبدأ يطرح التساؤلات على نفسه: لماذا، إذًا، حال المسلمين بعيد عن هذا الكتاب؟ وكيف حدث هذا الفصام؟ ولم حدث؟
وحمل العلواني تساؤلاته إلى القاهرة، حيث التحق بأزهرها الشريف، وحصل على الشهادة العالِمية، متخصصًا في علم أصول الفقه، ثم عاد إلى العراق ليخوض تجربة دعوية وسياسية، زادته وعيًا وارتباطًا بالسؤال الملح عن سبب تخلف حال الأمة عن تصورات القرآن، وكيف نستطيع أن نوجد علاقة بين القرآن والأمة كالعلاقة التي أوجدها الرسول بين هذا الكتاب والأمة؟
العلوانيّ – رحمه الله – يعتبر أنَّ أخطر أزمات الأمة الإسلامية قديمًا وحديثًا هي “الأزمة الفكريَّة” وليست الأزمة العَقَديَّة كما يتصور السلفيون
وبعد تجربة سياسية ودعوية مريرة في العراق، رحل مدرسًا للفقه وأصوله، في المملكة السعودية، ليجد ضالته في العلماء الكبار الذين كانوا يرافقونه في المملكة، حيث قرروا تأسيس المعهد العالمي للفكر الإسلامي في الولايات المتحدة الأمريكية، كمؤسسة تعمل على بلورة القضايا الفكرية الأساسية التي تهم الأمة، من أجل إعادة بناء العقل المسلم (منهجيته ومعارفه)، وليعمل ويرابط على هذا الثغر من عام 1980 وحتى وفاته رحمه الله.
أخطر أزمات الأمة
كان العلوانيّ – رحمه الله – يعتبر أن أخطر أزمات الأمة الإسلامية قديمًا وحديثًا هي “الأزمة الفكرية” وليست الأزمة العَقَديَّة كما يتصور السلفيون، ولا الأزمة السياسية كما يتصور الإخوان والتحرير وبقية جماعات الإسلام السياسي، ولا الأزمة الأخلاقية كما يتصور عامة الدعاة، وقد حمله اهتمامه هذا لتكريس معظم مؤلفاته لقضية الفكر واكتشاف منهجية القرآن المعرفية من مصدريها الأساسيين: القرآن المجيد والكون، عبر منهجية الجمع بين القراءتين.
جبل النجاة
انطلق العلواني، في سعيه لبيان طريقنا نحو عمران جديد، وتحقيق الشهود الحضاري، من ضرورة الكشف عن “المقاصد القرآنية العليا الحاكمة”، مؤكدًا أن هجر المسلمين للقرآن المجيد، كان هجرًا ممنهجًا له قواعده وتاريخه في تراثنا، نتج عنه تفكك العلاقة بين الأمة وكتابها، ففقدت الأمة “المنهاج”، فلم يعد في مقدورها تعويضه بأي نوع من أنواع المعرفة وبأي وسيلة أخرى، ومن ثم تداعى عمرانها وبنائها الحضاري.
ومن ثم كان العمل على إعادة رد المسلمين إلى القرآن وإعادة القرآن إلى مركز الدائرة في تفكير الإنسان المسلم واستخراج المحددات الأساسية للمنهجية المعرفية، هو السبيل لإعادة صياغة سؤال أزمتنا الراهنة بشكل صحيح، حتى يعطينا القرآن عبر “منهاجه الكوني” الجواب الشافي لأزماتنا وأزمات الإنسانية وحضارتها الراهنة التي لم يعد من الممكن معالجتها بأي فكر أو منطق غير الفكر الكوني والمنطق الكوني القرآني.
أيقن العلواني أن التجديد، بكل أنواعه، لن يتم دون الرجوع إلى القرآن المجيد واسترداد المنهج القرآني في معالجة مشكلاتنا
فقد آمن العلواني أن التعامل مع القرآن من ذات المنطلقات التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعامل معه بها، واستخراج هذه “المقاصد القرآنية العليا الحاكمة”، باعتبارها منظومة مقاصدية كاملة، وإعادة بناء الأمة التي تبشر بتلك المقاصد وتدعو إليها، يكمل خماسية البناء والعمران الحضاري، المتمثلة في التوحيد والتزكية والعمران والأمة والدعوة، وتشكل – جميعها معًا – مقياسًا من الضوابط تمهد لظهور منهج متكامل نعيد به قراءة وكتابة تراثنا وإصلاح وتجديد أحوال أمتنا وعالمنا ومن ثم بناء عالميتنا الجديدة.
ومن هنا أيقن أن التجديد، بكل أنواعه، لن يتم دون الرجوع إلى القرآن المجيد واسترداد المنهج القرآني في معالجة مشكلاتنا، ولتتبلور معالم المشروع الفكري له، في مشروع تدبر القرآن ومقاصده العليا الحاكمة والمهيمنة على تراثنا ومناهج بحثنا، والمنشئة لأصول عالميتنا الثانية المرتقبة وعمراننا الحضاري المنشود.
ماهية المقاصد العليا الحاكمة؟
المقاصد والقيم القرآنيَّة العليا الحاكمة، كما بينها العلواني، تتمثل في التوحيد والتزكية والعمران، وهي كليات مطلقة قطعية، فالتوحيد حق الله تعالى، والتزكية مؤهِّل الإنسان للاستخلاف والعمران، والعمران هو حق الكون المسخَّر وميدان فعل الإنسان ونشاطه، وتنحصر مصادر هذه المقاصد القرآنية العليا في القرآن المجيد، فهو المصدر الأوحد لها في كليته وإطلاقه وقطعيته وكونيته وإنشائه للأحكام.
مؤلفاته
كتب عالمنا – رحمه الله – مئات المقالات والأبحاث المقدمة للمؤتمرات، ولديه ذخيرة كبيرة من المؤلفات في الفقه والمقاصد والتجديد الإسلامي تتمثل في القائمة التالية:
تحقيق ودراسة كتاب (المحصول في علم أصول الفقه) الإمام فخر الدين الرازي – الإمام فخر الدين الرازى ومصنفاته – ابن رشد الحفيد: الفقيه والفيلسوف – الاجتهاد والتقليد في الإسلام – تحقيق كتاب “النهي عن الاستعانة والاستنصار في أمور المسلمين بأهل الذمة والكفار” للعلامة مصطفى الوارداني – أصول الفقه الإسلامي: منهج بحث ومعرفة – أدب الاختلاف في الإسلام – مشكلتان وقراءة فيهما، مع المستشار طارق البشري – إصلاح الفكر الإسلامي: مدخل إلى نظام الخطاب في الفكر الإسلامي المعاصر – ابن تيمية وإسلامية المعرفة – خواطر في الأزمة الفكرية والمأزق الحضاري للأمة الإسلامية – الأزمة الفكرية ومناهج التغيير: الآفاق والمنطلقات – الجمع بين القراءتين: قراءة الوحي وقراءة الكون – التعددية: أصول ومراجعات بين الاستتباع والإبداع – حاكمية القرآن – إسلامية المعرفة بين الأمس واليوم – في فقه الأقليات المسلمة – مقدمة في إسلامية المعرفة – مقاصد الشريعة – الخصوصية والعالمية في الفكر الإسلامي المعاصر – مدخل إلى فقه الأقليات – أبعاد غائبة عن فكر وممارسات الحركات الإسلامية المعاصرة – نحو منهجية معرفية قرآنية: محاولات بيان قواعد المنهج التوحيدي للمعرفة – ابن رشد الحفيد: الفقيه والفيلسوف – أزمة الإنسانية ودور القرآن الكريم في الخلاص منها – الوحدة البنائية للقرآن المجيد – لسان القرآن ومستقبل الأمة القطب – لا إكراه في الدين: إشكالية الردة والمرتدين من صدر الإسلام إلى اليوم – معالم في المنهج القرآني – إشكالية التعامل مع السنة النبوية – حوار مع القرآن – نحو إعادة بناء علوم الأمة مع الدكتورة منى أبوالفضل – العراق الحديث – التوحيد – نحو التجديد والاجتهاد – نحو موقف قرآني من النسخ – الحاكمية والهيمنة: نحو إعادة بناء مفهوم الأمة والدولة والدعوة – تفسير سورة الأنعام – نحو موقف قرآني من إشكالية المحكم والمتشابه – أفلا يتدبرون القرآن – التوحيد والتزكية والعمران – التعليم الديني بين التجديد والتجميد – تأملات في الثورات العربية – تجربتي مع الحياة السياسية في العراق، وله قيد النشر دراستان عن حد الرجم والحرابة بالإضافة للجزء الثاني من مذكراته.
أنا مسلم
من آخر ما كتب فقيهنا الراحل، قبل وفاته بأيام، تلك الكلمات المعبرة عن فكره وعقيدته:
“أُقدِّس العدلَ، وأمجِّدُ الحريَّة، وأكرِّمُ الإنسانَ، وأرفق بالضعيف، وأُذَكِّرُ القويَّ بالذي هو أقوى منه، أنصح الأغنياء بأنّ يؤدوا حقوق الفقراء في الأموال، وأدعو الفقراء أن يعرفوا أن أغنياءَهم مستخلَفون بمال الله فيهم، أحب الخير، وأدعو إلى البرّ، وأرفض الشرَّ، وأرفض العنف، وأحب الرفق، واتشبثُ بالهدى، وأصون الحق.
أحارب الباطل، وأنهي عن الفساد، وأريد الإصلاح ما استطعت وأرجو حسن الخاتمة، واستعيذ بالله من سوئها، أحب الجنة، وأبغض النار، يمتد نسبي إلى آدم وحواء، فآدم أبي، وحواء أمي، وكل البشر أخواني وأخواتي.
لا أحقر أحدًا منه، لا أسلمه، ولا أخذله، بل أعمل على هدايته، وإنارة الطريق بين يديه، والأخذ بيديه إلى الجنَّة، والحيلولة بينه وبين السقوط في النار.
أحب الكون وأنتمي إليه، وأحب كل جيراني فيه: من شجر أو حجر أو نبات أو حيوان أو جبال أو بحار، السلام غايتي، والأمان مطلبي، والإرهاب عدوي، والصراع خصمي، والأمن والطمأنينة مطلبي”.
خاتمة
عاش العلواني لحظة أزمة إسلامية عالمية مركبة شاملة تتطلب التفكير العميق في التحول الحاصل من جرائها، وحاول البحث عن أسباب هذه الأزمة ومنهج الخروج منها، فابتدأ من أصول الفقه، مرورًا بالعلوم الاجتماعية الغربية وأسلمتها، لينتهي إلى ضرورة بل حتمية عودة المسلمين والناس جميعًا إلى قرآنهم بعد هجرانه، ومؤكدًا، أن القرآن المجيد، يمتلك منهجية معرفية، لا تختص بحقل معرفي ديني أو إنساني محدد، لكنه منهج معرفي، يهيئ الإنسان لحالة عقلية ونفسية تطلق طاقاته كلها، للقيام بركن القراءة في الكون، لتحقيق غاية الحق من الخلق، في “العمران” ولتتحقق “التزكية” الفردية والجماعية لأبناء آدم.
وأن شرط التحول والانتقال، من العمران المادي السائد اليوم إلى العمران الحضاري القرآني، إنما هو في اكتشاف واتباع المنهجية المعرفية القرآنية القائمة على المقاصد القرآنية العليا المتمثلة في التوحيد والتزكية والعمران، والتي تبني أمة الدعوة الحاملة لمشروع العمران المحقق للحياة الطيبة لأبناء آدم، فالعمران الحضاري، عند العلواني، مفهوم قرآني، يرتبط لزومًا برؤية ونمط حياة المجموعة البشرية ونمط حركتها على الأرض.
تستمد المساهمة العلوانية، قيمتها البالغة اليوم، من واقع قدرتها على المساهمة في تحليل أزمة أمتنا المسلمة من جهة، والأزمة العالمية المعاصرة، التي تتمثل أكثر ما تتمثل في طغيان وسيادة عالم الأشياء، وارتباط خلاص الإنسان بمفهوم الرفاه المادي من جهة أخرى
وتستمد المساهمة العلوانية، قيمتها البالغة اليوم، من واقع قدرتها على المساهمة في تحليل أزمة أمتنا المسلمة من جهة، والأزمة العالمية المعاصرة، التي تتمثل أكثر ما تتمثل في طغيان وسيادة عالم الأشياء، وارتباط خلاص الإنسان بمفهوم الرفاه المادي من جهة أخرى، بالإضافة لرؤيته الدقيقة لهما، وتمييزه المحدد للعلاقة الحساسة بين العمران والحضارة.
وقد استطاع رحمه الله أن يقدم تصورًا قرآنيًا معرفيًا للعمران الحضاري، يسمح بإمكانية بإعادة بناء الأمة من جديد في هذا العصر، فنظرته للإسلام كدين يؤكد على الحياة والعمران والتزكية المنطلقة من التوحيد، وأن فهم أزمة حضارتنا، يعني تجديد الأدوات والمصطلحات والتعابير، والمنهجية الفكرية الشائعة في تراثنا ولدى الحضارة المهيمنة على عالمنا، وأن نكسر قيود التقليد وتقديم عطائنا المبدع دون خوف، قيامًا بأمانة الاستخلاف والعمران، كما أن هذه الرؤية، تقدم فرصة للمسلمين للوقوف مرة أخرى على أقدامهم كصناع وبناة عمران حلمنا به طويلًا، ينطلق من مقاصد القرآن العليا.
وأخيرًا، فإن مشروع العلواني القرآني، لإعادة بناء الأمة، يثير العديد من الأسئلة التي تحتاج إلى دراسات مفصلة، لعل من أهمها ما يتعلق بتفصيل رؤيته للتوحيد والتزكية والعمران – خاصة بعدي التزكية والعمران -، وكيفية تشغيل منظومة القيم القرآنية العليا من خلال المجتهد الفرد، أو عبر الاجتهاد الجماعي، وكيفية الجمع بين علماء الاجتماعيات والطبيعيات لبناء منهجيتها المعرفية، وكذلك توضيح مفهوم المنهجية المعرفية القرآنية ومحدداتها بشكل دقيق لا يحدث لبسًا لدى مستقبليه ولا مستعمليه.
إن مشروع العلواني، لبناء العمران القرآني، القائم على استرداد العافية والثقة للإنسان المسلم في هويته القرآنية وقدرته على الفعل لا التقليد والكسل المعرفي، والمبني على التعقل والإيمان والعمل المزكى العمراني، هو مشروع واعد لإعادة بناء الأمة، لا يزال يدرج في طفولته، ولم يتخط بعد دور التجريب، وهو يحتاج من الأمة وعلمائها جهودًا كبيرة لجعله حقيقة تنبئ بعالمية جديدة، تحقق عمرانًا مشوبًا بالقيم يحقق الحياة الطيبة لأمتنا وللناس أجمعين.
لقد وقف العلواني – رحمه الله – على قمة جبل المجددين في الربع الأخير من القرن الماضي والعقد الأول من هذا القرن، أفرادًا ومؤسسات، وأطل من عليائه واستفاد من تراكمات اجتهاداتهم وطورها، ليعطي لنا خلاصة خبرته في إعادة بناء الأمة، مستعينًا بلسان القرآن، جامعًا بين القراءتين، من خلال منهجية القرآن المعرفية.
رحم الله العلواني رحمة واسعة وقيض لمشروعه الفكري من تلاميذه وعارفي فضله من يكمله إلى نهاياته التي كان يرجوها العلواني وعاش لها عمره كله.