الحكم بسجن رجل الأعمال التركي الشاب فاروق أوزر، مؤسس منصة “ثوديكس” لتبادل العملات المشفرة، لمدة 11 ألفًا و196 عامًا، سلّط الضوء على الصراع الدائر بين العملات المشفرة والمؤسسات الاقتصادية التقليدية، سواء كانت التعاملات بالنقود التقليدية حاليًّا أو بالعملات الرقمية مستقبلًا.
وشهدت قضية فاروق أوزر ومنصة “ثوديكس” خلال السنوات الثلاثة الماضية سلسلة محطات مثيرة، اختلطت خلالها المغامرة بالتشويق، وتخللتها مفاجآت صادمة بحكم حجم عمليات التداول اليومية (ملايين الدولارات)، التي انتهت بأكبر عملية احتيال في تاريخ الجمهورية التركية (حصيلتها 2 مليار دولار).
يحاول “نون بوست” الإجابة عن عدة تساؤلات حول منصة “ثوديكس”، كيف بدأت وكيف انتهت؟ لماذا صراع العملات المشفرة والرقمية؟ ما المباح وما المجرّم منها؟ أسباب معارضة الحكومات للتداولات الافتراضية؟ إلى أين يسير الاتجاه الرسمي للعملات الرقمية؟ ومن ينتصر في الصراع على “عملة المستقبل”؟
حكاية “ثوديكس”
لم يكن فاروق أوزر، المولود في ولاية كوجالي التركية عام 1994، يعرف أن المطاف سينتهي به سجينًا بحكم قضائي غير مسبوق على خلفية الاتهامات الموجهة إليه، منذ هروبه إلى ألبانيا عبر مطار إسطنبول في 20 أبريل/ نيسان 2021، ثم مبادرة السلطات الألبانية بضبطه في 30 أغسطس/ آب 2022 وإعادته إلى تركيا.
تفجرت قضية “ثوديكس” منتصف أبريل/ نيسان 2021، لكن قبلها جرت في بحر الحياة مياه كثيرة، نشط خلالها فاروق أوزر في عالم الـ”بيزنس” الخاص (شركات طبية وتجارة إلكترونية وعالم البرمجيات وإطلاق منصة ألعاب)، ثم راح يوسّع نشاطه في سوق العملات المشفرة.
أسّس فاروق أوزر منصة “ثوديكس” كبورصة مفتوحة لتبادل العملات المشفرة في منطقة شيشلي بإسطنبول في سبتمبر/ أيلول 2017، برأسمال 500 ألف ليرة زاد إلى مليون ليرة تركية لاحقًا، واستمر نشاط المنصة حوالي 5 سنوات بالتزامن مع ظروف حرجة مرَّ بها الاقتصاد التركي فترة 2018-2022.
خلال الفترة المذكورة، نفّذت “ثوديكس” عبر مقرها في قاضي كوي حملات إعلانية ضخمة لجذب المستثمرين، تضمّنت عمليات تحفيز مغرية مثل تقديم سيارات من شركات وطرازات العام لمستثمرين عبر المنصة، وتنوعت عمليات الجذب والوعود بتحقيق أرباح مالية ضخمة خلال فترات وجيزة.
كانت الإعلانات الترويجية لـ”ثوديكس” ومنصات تداول العملات المشفرة الأخرى يتم بثها عبر شاشات التلفاز ولافتات الشوارع، مع انتشار مكاتب متخصصة للعملات الرقمية في بعض المدن والولايات التركية، ساعدت جميعها في إغراء شريحة كبيرة من الأتراك على التداول، وسط الأجواء التي كانت تعانيها الليرة.
فجأة، تدحرجت الوقائع في قضية “ثوديكس” ككرة الثلج، بعدما تلقت النيابة العامة في البلاد ربيع عام 2021 بلاغات من مستثمرين في المنصة فشلوا في فتح حساباتهم الخاصة بها، ووفق لائحة الاتهام تنوعت عمليات تلاعب فاروق أوزر، من خلال تأسيس شركات وهمية وتحويل 356 مليون ليرة إلى حسابات مشفرة.
تبيّن لجهات التحقيق احتيال أوزر على حوالي 400 ألف شخص، جمّد حساباتهم النشطة وغير النشطة لمنعهم من تحويل الأموال، رغم أن البنك المركزي التركي سبق أن حذّر المواطنين من استخدام العملات والأصول المشفرة، “لمخاطرها الكبيرة وعدم خضوعها لأي آليات رقابة وحماية رسمية”.
وبعد تعدد اتهامات فاروق أوزر من الاحتيال وغسيل الأموال إلى إنشاء عصابات لارتكاب الجرائم، ومطالبة النيابة العامة بسجنه حوالي 40 ألفًا و562 عامًا، تم تخفيف الحكم إلى 11 ألفًا و196 عامًا، وتجمدت حسابات منصة “ثوديكس” لدى المؤسسات المالية التركية، فيما يواجه ضحاياه المجهول حاليًّا.
التداولات المشفرة
السؤال: لماذا تقبل شريحة كبيرة من الأتراك، كغيرها في دول العالم، على العملات المشفرة (Digital Assets)؟ هل هي ملاذ آمن فعلًا وسط الأزمات التي تعصف بالاقتصاد الدولي، وتداعياتها الضاغطة على الاقتصادات المحلية؟
تحولت العملات المشفرة إلى سوق رائج خلال السنوات الأخيرة، نتيجة قناعة شرائح مجتمعية معظمها من الطبقة الوسطى بأن التداولات الافتراضية هي الحل في مواجهة الظروف الاقتصادية مثل التضخم وأزمة سعر صرف الليرة، ووسيلة سهلة لتحسين الدخل وتحقيق مكاسب سريعة عبر المنصات المحلية والدولية.
من واقع قضية “ثوديكس”، فإن الشريحة الأكبر من المستثمرين هي من الشباب المنخرطين في عالم التكنولوجيا، المستسلمين لإغراءات التسويق والمتوهمين بتحقيق أرباح خيالية من العملات المشفرة، فزاد الإقبال على المنصة ومنصات أخرى، رغبة منهم في تحقيق أرباح المغامرة والمقامرة.
التحذيرات مستمرة
لا تحظى العملات المشفرة بثقة كاملة عالميًّا، ويتم التعامل معها كـ”ملاذ غير آمن” لافتقادها الأصول التجارية أو المالية الحقيقة، كما أنها عرضة لهزات الأسعار الدرامية، وغياب ركائز التأمين التقليدية، وسهولة ضياع الأموال المستثمرة، والفشل في استردادها نتيجة الاحتيال أو فقدان مفتاح المحفظة المالية.
وتنطوي العملات المشفرة على مخاطر كبيرة لأن بياناتها سرية يصعب تتبّعها، وتشكّل تحايلًا وتهديدًا للنظم النقدية والمالية، واحتمالات استخدامها في تمويل عمليات غير مشروعة (تمويل إرهاب، تجارة مخدرات وأسلحة وبشر وغسيل أموال)، كما لا تخفي الحكومات قلقها من التهرب الضريبي ودخول وخروج الأموال من دون رقابة.
وتحظر معظم دول الشرق الأوسط التعامل بالعملات والأصول المشفرة (الكريبتو) لخطورتها على الاقتصادات المحلية، على عكس دولة الإمارات التي تعمل على أن تكون مركزًا ماليًّا وتكنولوجيًّا، والاستفادة من نموّ سوق الأصول الرقمية، وكذلك البحرين صاحبة أول بورصة في هذا الشأن.
ورغم أن أكبر عدد من المتداولين في الأصول المشفرة في مصر، إلا أنها تواصل التحذير من تداولها، وتعاقب بالحبس أو بالغرامة، تصل إلى 10 ملايين جنيه مصري، كل من يتاجر ويروج أو يشغّل منصات تداول عملات مشفرة، للحد من تبييض الأموال وتهريبها أو “غطاء لتمويل عمليات إجرامية”.
وحتى مع وجود شركات ومنصات تداول محلية ودولية، هناك تحذيرات موجّهة للمستثمرين بـ”توخّي أقصى درجات الحيطة خلال ممارسة أنشطة جمع الأموال القائمة على الاستثمار في الأصول المشفرة، وأن تكون التعاملات عبر عمليات الطرح والطرق النظامية لتجنُّب تقلبات الأسعار نتيجة المضاربات وغيرها”.
هناك مخاطر أخرى حيث التشريعات غير متوافقة محليًّا، وعدم تدقيق المعلومات أو اكتمالها، والعروض المضللة التي تتلاعب بحجم الفوائد، والتسعير غير الواضح في بعض الأسواق الخارجية، وصعوبة التحكم بعملياتها، حتى أن الأزهر الشريف والاتحاد العالمي لعلماء المسلمين حرّما العملة المشفرة بهيئتها الحالية.
خلط أوراق
سلطت واقعة الاحتيال الكبرى لمنصة “ثوديكس” الضوء على ملف العملات المشفرة داخل وخارج تركيا، وصنعت حالة قلق رغم أن هذا النوع من العملات (أشهرها البيتكوين) أصبح من سمات عصر التجارة والتعاملات الإلكترونية، نتيجة دورها في تسهيل التعاملات وحماية خصوصية التداولات.
ومنذ ميلاد العملات المشفرة عام 2009، يتسع نطاق الحديث عن طبيعتها (لا مركزيتها، استخدامها خوارزميات وبرامج معقّدة لإتمام التعاملات)، وانتقال الاهتمام بها من نطاق الشرائح المحدودة إلى رحاب أوسع، حيث لم تعد المنافسة قاصرة على الأفراد والشركات بعد دخول حكومات إلى الملعب نفسه.
يرتبط ذلك باتساع عمليات التحول الرقمي عالميًّا، التي أخذت منحنى تصاعديًّا في مجال المدفوعات الإلكترونية، والاهتمام المتنامي بالعملات الرقمية لمواجهة العملات المشفرة، وسط حالة ارتباك مرجعها التضارب بين التحول الرقمي وآلياته، والتحذيرات من مخاطر العملات المشفرة.
يعود الخلط بين العملات الرقمية والمشفرة إلى ضعف التوعية المالية، ليس فقط بين المواطنين العاديين بل بين شريحة من المستثمرين، حتى أن بعضهم لا يعرف أن العملات الرقمية من الأصول المعمول بها بين بعض البنوك المركزية الدولية (كالبنك الفيدرالي الأمريكي) منذ سنوات.
هناك فروق جوهرية بين العملات الرقمية (الوجه الإلكتروني للعملات التقليدية كالدولار والروبل والين واليوان، التي تشرف على إصدارها وتأمينها البنوك المركزية بمعرفة الحكومات) والعملات المشفرة (اللامركزية غير الحكومية، مرجعها تقنية البلوكتشين، وتحكم تأمينها درجات التشفير المتفاوتة).
العملات الرقمية المستقرة (المربوطة بأصل آخر كالدولار مثلًا) تجمع بين مظلة أمان العملات التقليدية ومزايا الترميز وسرعة التعاملات، وتحظى بالاستخدام في تسوية المعاملات وخدمات المدفوعات، كالربط الحاصل بين سنغافورة وأستراليا وماليزيا وجنوب أفريقيا.
عالم التشفير
تحقق العملات المشفرة لمن يتعاملون في أسواقها ما يوصف بالمزايا النسبية، كتحويل الأموال في أي وقت حتى الإجازات الرسمية، وإتمامها خلال دقائق معدودة دون وساطة أو رسوم إضافية، دون الكشف عن هوية الطرفَين المرسل والمستلم، فيما يرتبط تأمينها بالحفاظ على حماية مفتاح المحفظة.
يتم حفظ العملات والأصول المشفرة عبر “محافظ باردة” (حل آمن لتخزين القيمة المالية في نطاقات غير متصلة بالإنترنت) أو “محافظ ساخنة”، وهي عبارة عن برامج إنترنت أقل أمانًا، يستخدمها المستثمرون في تسهيل وسرعة التعامل مع أصولهم المشفرة من أي مكان حول العالم من دون وساطة مالية.
تتعدد الأصول الرقمية (الرسوم والتصوير والشعارات والوسائط والمستندات والمواقع والعقارات والسلع الأولية)، لكن لا توجد سيطرة كاملة على هذه الأصول لعدم وجود تشريعات قانونية مسبقة، رغم عمليات “الترميز” في التخزين و”التشفير” في التأمين، ودفاتر الحسابات الرقمية، ومشكلات انتقال الملكية والتجزئة.
إمكانات الأصول الرقمية تشمل سرعة التداول والتسويات عبر الحدود، والتمويل التجاري، وخفض تكاليف المعاملات، وتسوية معاملات السندات، وأنشطة ما قبل التداول وما بعد التداول في أسواق رأس المال، وهناك عملات مشفرة تستقل بذاتها خارج سلسلة البلوكتشين، لكنها عرضة لتقلبات الأسعار.
تتعدد بورصات تداول العملات المشفرة، سواء المركزية (CEXs) المعنية بإنشاء الحسابات وإدارتها، أو غير المركزية (DEXs) التي تطلب من الراغبين في الاستثمار بسوق العملات المشفرة ربط محافظهم المالية بها لتسهيل التعاملات دون أي مميزات أخرى، حتى أنها تترك مهام تأمين المحافظ لأصحابها.
وتقدم العملات المشفرة نفسها كحلّ لمشكلات تقنيات الجيل الثالث على الإنترنت، حيث لا تحتاج مستويات متقدمة من الخبرة التقنية والمهارات العملية من مستثمري التشفير ومجال تعدين العملات الرقمية، عبر استخدام حلول الذكاء الاصطناعي في التداولات، فضلًا عن دوره في عمليات تعدين العملات.
التعدين والبلوكتشين
الضالعون في تجارة العملات المشفرة يؤكدون أن تعاملاتها تكتسب طابع الشفافية من خلال “عمليات تسجيل المعاملات على البلوكتشين كدفتر مركزي”، وهي خطوات توثّق التسلسل الزمني لملكية العملة الواحدة ومصدرها، عبر رمز مفتوح المصدر بهدف التحقق من التعاملات الرقمية.
والتعدين (Mining) هو عملية تحقق من التعاملات في سوق العملات المشفرة، عبر حواسيب خاصة بشبكات البلوكتشين تهدف إلى حماية التداولات من التلاعب والاحتيال وعمليات القراصنة، عبر عمليات تشفير معقدة تقوم بها عناصر محترفة وموثوقة.
عمليات التعدين سلسلة معقدة من رموز الكمبيوتر متباينة التقييمات، تقابلها فئة “الرموز المميزة” (أصول رقمية قابلة للبرمجة عبر البلوكتشين بالمنصات المتخصصة)، وتعدّ الصين وروسيا البيئة الأنسب للمستثمرين الراغبين في عمليات التعدين، بسبب البنية التحتية اللوجستية (أجهزة الكمبيوتر الخارقة وإمدادات الكهرباء).
يعمل نظام البلوكتشين أو تقنية الكتل (Blockchain) على إضفاء المصداقية على العملات المشفرة، كنظام تأمين عالمي تقوم به حواسيب عملاقة وخوارزميات معقدة، خلال العمليات المرتبطة بأسواق العملات المشفرة، يطلق عليها “دفتر الأستاذ الرقمي” المخصص لتسجيل التعاملات.
وشبكة البلوكتشين تتجدد بشكل مستمر لرصد التعاملات على العملة المشفرة (البيع والشراء والسعر)، مع إضافتها إلى السجل الأساسي لعمليات نقل ملكية العملات على الشبكة، معزز بآلية التحصيص (Staking crypto) كإحدى طرق المصادقة، ومكافأة من يبادرون بتدقيق العملات.
تقنية البلوكتشين أصبحت مظلة للتعاملات عن بُعد، وتحويل الأموال لأغراض التعاملات المباشرة أو التجارة الرقمية (أشبه بسجلّ التعاملات المصرفية) بواسطة آلية إثبات الهوية (Authentication) وخطوات أخرى، في أسواق العملات المشفرة.
ظهرت تقنية البلوكتشين مطلع التسعينيات من القرن الماضي لحماية الوثائق الإلكترونية، قبل التوسع في استخدامها كآلية حماية خلال نقل أصول ذات قيمة من شخص إلى آخر على شبكة الإنترنت، عبر تأمين وربط كتل البيانات باستخدام عمليات التشفير من دون تكلفة.
ويتوقف تحقق كل هذه الخطوات بمبادرة الراغب في دخول سوق العملات الرقمية بـ”فتح حساب في بورصة العملات الرقمية، عبر وسيط تقليدي على شبكة الإنترنت.. تمويل الحساب بطرق عديدة، من بينها ربط الحساب المصرفي مع المنصة، أو التحويل البنكي النقدي لشراء العملات أو المضاربة على أسعارها”.
ومن خلال شبكة العملات المشفرة اللامركزية (سوق الكريبتو) يجري التحقق وتتبُّع المعاملات، عبر شبكة واسعة من أجهزة الكمبيوتر تقوم بدمج التعاملات في بروتوكولات متخصصة، على هيئة كتل مرتبطة ببعضها لإنشاء سجل توثيقي شامل بحسب نوع كل عملة.
وعملات الكريبتو عنوان جامع للعملات الرقمية-المشفرة العصية على التزوير والإنفاق المزدوج أو التدخل الحكومي، ومنصة دفع رقمية تلغي الحاجة إلى حمل الأموال المادية، عكس الأموال التقليدية التي تصدرها الحكومات فقط، وعملاتها قابلة للاستبدال مع الحفاظ على قيمتها عند البيع والشراء والتداول.
ويختلف سوق عملات الكريبتو بحجمه النسبي وحداثته في عالم المال والأعمال، عن سوق بيع وشراء العملات الأجنبية (الفوركس) بحجم تداولاته اليومية التي تصل إلى تريليونات الدولارات، عبر البورصات التقليدية وخارجها، ويتأثر في الوقت نفسه بتطورات الاقتصاد الدولي.
تم تصميم العملات المشفرة للتداول دون سلطة مركزية، من خلال عمليات تشفير متنوعة يتم التحكم فيها من خلال المستخدمين عبر ما يسمّى بـ”المفتاح العام” (باسوورد) لحماية التعاملات، مع مستويات أعلى في هذه التجارة (تعدين العملات وتثبيت برنامجها).
ويتجاوز عدد عملات أسواق الكريبتو آلاف العملات المشفرة، جزء منها يتم تداوله على نطاق ضيّق، على عكس عملات شهيرة (بيتكوين وإيثريوم وكاردانو وستيلر ودجكوين وريبل ولايتكوين وترون وبولكادوت) تحظى بإقبال من الراغبين في الاستثمار في هذا النوع من العملات المشفرة.
التعاطي الرسمي
تتبدى الرغبة الإقليمية الدولية في توسيع مساحة الاستفادة من العملات الرقمية، حتى لا تصبح قاصرة على الاستخدام في جهات الوساطة المالية فقط، وضرورة شمولها للمدفوعات والتسويات والتعاملات العابرة للحدود، مع الاستفادة من عامل سرعة وسهولة التعاملات وقلة التكاليف.
مشاريع اختبار العملة الرقمية تتعاون فيها بنوك وشركات تقنية مالية لتحليل المزايا والمخاطر والإجراءات التنفيذية، وضمان بيئة صفرية للمخاطر المحتملة، لا سيما القيمة السوقية للأصول، وقابلية تدقيق حسابات الاحتياطيات، والقدرة على استرداد العملات المستقرة بالقيمة الاسمية.
وتحاول الحكومات المنكبّة على مشاريعها الرقمية توظيف التكنولوجيا المالية، وتطوير آليات الرقابة وتعزيز التشريعات المنظمة للتعاملات المالية، مع تطويع تقنية البلوكتشين في خدمة الاقتصادات التقليدية، كي تظل البنوك المركزية مظلة العرض والطلب والأسعار ونسب الفائدة، بدلًا من نظام العملات المشفرة.
يأتي هذا إدراكًا من البنوك المركزية (المتحكمة في صناعة النقود وتداولها وتنظيمها) لعدم الدخول في مواجهة خاسرة مع العملات المشفرة بحسب المجلس الأطلسي للتنمية، وقد طرحت دول السويد وسنغافورة وماليزيا عملاتها الرقمية، فيما تبحث عشرات الحكومات الأخرى إصدار عملاتها.
وحتى لا تحدّ أنشطة العملات المشفرة من جهود الحكومات، قامت دول بتبنّي نظام العملات المشفرة (السويد والولايات المتحدة وكندا وأستراليا والمكسيك وقبرص والبحرين والإمارات وفيتنام والفلبين وسويسرا واليونان وبيرو وكولومبيا والأرجنتين وتشيلي وجزر مارشال ومالطا).
وتتحدث الحكومة التركية منذ 4 سنوات عن اتجاهها لإصدار عملة رقمية وطنية (كوين تورك) مدعومة بأُسُس قانونية لحماية التعاملات، وإدراجها في بورصة إسطنبول، خاصة مع الأموال الضخمة المستثمرة من الأفراد والشركات في منصات دولية غير مضمونة، عبر وسطاء عملات الكريبتو (الاسم الجامع للعملات الرقمية).
لم تتوقف الجهات التركية المعنية عن التذكير بمخاطر منصات تداول العملات المشفرة، وأن أنشطتها تتقاطع مع قائمة الكيانات المخاطبة بتشريعات مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، ووفقًا للجريدة الرسمية: “العملات المشفرة وبقية الأصول الرقمية القائمة على تكنولوجيا الدفاتر الموزعة ليست أداة للدفع”.
مصادر متطابقة قالت لـ”نون بوست” إن “التحذير من العملات المشفرة يرتبط بدورها الضاغط على قيمة الليرة، خاصة أن لدى الأتراك أكثر من 7 ملايين محفظة مالية تتقاطع مع سوق العملات المشفرة، وأن الطلب على الأصول الرقمية كان بعملات أجنبية، ما يعني طرحها خارج التداولات الرسمية وإمكانية تهريبها للخارج”.
وفيما يشدد البنك المركزي التركي على أن “مقدّمي خدمات الدفع لن يكون باستطاعتهم تطوير نماذج أعمال بطريقة تستخدم فيها الأصول المشفرة”، تقول وزارة الخزانة: “نشارك القلق العالمي بشأن تطوير العملات المشفرة، ونعمل على وضع لوائح منظمة”.
مخاطر وفرص
مواصلة اكتشاف التطبيقات الجديدة وتنفيذها لا يتوقف، وبالسرعة نفسها تنمو تقنية البلوكتشين أمام قيود الحكومات التي تحاول وقف توسُّع أسواق الكريبتو وتنظيم العملات المشفرة، رغم أن المرحلة الانتقالية التي يمرّ بها الاقتصاد الصناعي ستحدده التقنيات المالية التكنولوجية.
وعليه، فإن توقف جهود البنوك المركزية عند التوعية بالمخاطر المالية المرتبطة بمنصات تداول العملات المشفرة، دون مبادرة هذه المؤسسات الرسمية بخطوات سريعة كي تصبح جزءًا من مستقبل الأدوات المالية الجديدة (إطلاق عملات رقمية وغيرها)، سيجعلها شريكًا في دفع المستخدمين إلى أسواق الكريبتو.
بمعنى آخر، إن الحظر الرسمي المفروض حاليًّا على العملات المشفرة في معظم دول العالم، لا بدَّ أن يكون له بديل قادر على تلبية طموحات الراغبين في الاستثمار الرقمي، حتى لا يصبح تفعيل هذا الحظر مستحيلًا، فيتم سحب البساط تباعًا من تحت أقدام العملات التقليدية (والرقمية المرتبطة بها) لصالح العملات المشفرة.
ويتطلب هذا أن تعمل البنوك المركزية على مواءمة سياساتها واستراتيجياتها المالية مع منظومة الأصول الرقمية، وأن تمدّ الجسور بين النظام المالي الحالي (القائم على خدمات الوساطة) والعملات الرقمية المستقرة، مع تحسين التشريعات وحوكمة البيانات وتكثيف حظر الدعاية والترويج للعملات الافتراضية.
في المقابل، على الراغبين في دخول سوق الكريبتو أن يسارعوا أولًا بالفهم النسبي لكل ما يتعلق بهذا العالم الكبير (طبيعته وأدواته وأضراره وفوائده)، حتى لا تتحول استثماراتهم إلى سراب، خاصة أن الأصول الرقمية (على عكس ما يروج) تتأثر بكل المتغيرات، ولا يمكن التنبؤ الكامل بتقلبات أسعارها.
كما أن الرغبة في الاستثمار بالعملات المشفرة لا تعني تجاهل تحذيرات المؤسسات الرسمية، وأن العملات الافتراضية ليست مركزية (Defi) بل مجهولة التعاملات والمصادر، وعرضة للاستخدام في أنشطة مشبوهة، وعندها تصبح التعاملات أحد أشكال التهور العمدي.
ولا تزال معظم الجهات المنظمة للتعاملات المالية الرسمية تجدد التذكير بعدم ولايتها (التنظيمية والرقابية أو الإشرافية) على سوق العملات المشفرة، وعدم الاعتراف بها، نتيجة عدم وضوح آلياتها، وبذلك يصبح الانخراط في أسواق الكريبتو مسؤولية المستثمر نفسه الذي يتحمّل تداعيات خطوته.
أما الطرف الثالث (الجهات المصدرة للمنتجات والأدوات الرقمية، ومن يزاولون نشاط الوساطة ومنصات التداول) مطالَب بمدّ الجسور مع الجهات المالية الرسمية، لضمان تعاملات متوافقة مع التشريعات والقواعد، خاصة أن الحديث عن خصوصية العملات المشفرة يجانبه الصواب، وأنه تحت سيطرة أنظمة عالمية.
المختصون يعرفون أن تقنية البلوكتشين ليست بعيدة عن سيطرة حكومات كبرى (رغم إجراءات الترميز والتشفير)، كما أن تعاملاتها المقوّمة بالدولار لن تجعل العملات الافتراضية الفرصة المحتملة للراغبين في التخلص من هيمنة القوى الكبرى على النظام المالي (النقدي) العالمي، بل لتحقيق مكاسب لمن يملك أدواتها ويعرف خباياها.