تزداد معاناة النساء في الشمال السوري المحرر يومًا بعد يوم، إذ تعد النساء المهجّرات والأرامل والمطلقات أكثر عرضة للمشقة بسبب تعدد مسؤولياتهن في إعالة أسرهن، خاصة اللواتي يعشن في مخيمات النزوح على الحدود السورية-التركية، في وقت تعيش البلاد ترديًا غير مسبوق على عدة نواحٍ أبرزها الناحية الاقتصادية.
أكثر من 12 عامًا من الحرب كانت كفيلة بتغيير ومحاصرة حياة جميع الفئات في المجتمع السوري، إذ دفعت نسبة البطالة في شمال غرب سوريا التي بلغت 87% بحسب تقارير حقوقية، المرأة السورية إلى الخروج بشكل أكبر للعمل في مختلف القطاعات، ومنها أعمال شاقة كانت حكرًا على الرجال الذين واجهوا ظروفًا صعبة بعد الحرب، وباتت عدة نساء يعملن في وظائف أخرى إلى جانب عملهن المنزلي، خاصة بقطاع الزراعة وجني المحاصيل، إضافة إلى أعمال خدمية أخرى خاصة بمدينة إدلب.
آثار جسدية ونفسية
تقول الأرملة فداء الأحمد (33 عامًا)، وهي أمّ لـ 3 أطفال، وتعمل في مصنع لتعبئة قطع البسكويت في سرمدا شمالي إدلب، لـ”نون بوست” إن الواقع المعيشي في المناطق المحررة وصعوبة تأمين مستلزمات الحياة وتراجع المساعدات الإنسانية أو المنح المالية المقدمة لها من قبل المنظمات قياسًا بغلاء الأسعار المتزايد، أجبرها كامرأة على العمل بهدف إعالة أسرتها وتأمين مستلزماتها.
تروي الشابة الثلاثينية التي تسكن في مخيمات بلدة كللي شمالي إدلب، أنها يوميًّا تتوجه إلى المصنع عبر سيارات عامة متوجهة إلى مدينة سرمدا أو كما وصفتها بـ”تقطيع”، وذلك لعدم قدرتها على دفع أجور الذهاب والإياب يوميًّا بالحافلات (سرافيس)، بسبب قلة راتبها البالغ 600 ليرة تركية أسبوعيًّا (26 دولارًا).
تتوقف الشابة فداء عن الكلام قليلًا وتمسك علبة السجائر، تنظر إليّ وهي تشعل سيجارتها قائلة: “هاد الوقت بده وحدة قوية وأخت رجال”، وتكمل: “مستعدة اشتغل بشغلين وثلاثة ولا أكسر نفسي لحدا”.
ورغم عصاميّة السيدة فداء لكنها أكّدت في لحظات ضعفها الذي لا تخفيه معظم السيدات اللواتي يعانين من سوء حالتهن المعيشية والظروف التي تعرضن لها، أن العمل قاسٍ وصعب وغير مناسب لظروفها، لافتة إلى أنها رغم عملها في المصنع منذ سنتَين لكنها صبورة رغم ما تتعرض له من تعب على الناحية الجسدية والنفسية، مشيرة أنها تعرضت للعديد من حالات الاستغلال سواء من أصحاب السيارات أو بعض أرباب العمل.
ولا يختلف الأمر عند آنسة مادة الرياضيات منى حاج عمر (23 عامًا) المهجرة من ريف حماة، والتي تسكن مخيمات قاح، إذ تؤكد لـ”نون بوست” أن دخل والدها من أجر المياومة البالغ 65 ليرة تركية، الذي يتقاضاه بعمل تجاري، لا يكفي لسدّ احتياجات المنزل والعائلة ودواء والدتها التي تعاني من مرض السكّر وهشاشة العظام منذ سنوات، ما يجعلها مجبرة على العمل لمساندة والدها في سدّ احتياجات المنزل والعائلة المكونة من 8 أفراد.
ومن زاوية أخرى، التقينا بالسيدة إسراء، وهي أمّ لطفلَين، فضّلت عدم ذكر اسمها بشكل كامل، انفصلت عن زوجها أواخر عام 2020، وتسكن اليوم في منزل والدها الكائن في بلدة أبين شمالي حلب، وتؤكد أنها تعرضت لعدة مواقف محرجة أثناء بحثها عن فرصة عمل بسبب جهلها، وفق قولها، إذ تؤكد أنها غير قادرة على القراءة والكتابة.
وتضيف: “بعد انقطاع السبل أمامي في البحث عن وظيفة تعيل أسرتي، قرّرت منذ قرابة 7 أشهر خوض دورات “محو أمية” بهدف تعلم القراءة والكتابة، بالإضافة إلى حضور معظم الورشات التي تقدمها منظمات المجتمع المدني في المدينة، بهدف رفع الكفاءة العلمية، وتعلم حرفة أو مهنة قد تكون مخرجًا لحالي المعيشي مستقبلًا”.
الأرامل أكثر تعرضًا للمضايقات
ومن خلال استبيانات ومقابلات مباشرة أجرتها متطوعات في الدفاع المدني السوري مع 1746 امرأة ضمن 160 قرية وبلدة في محافظتَي إدلب وحلب في مارس/ آذار 2023، حول التحديات التي تواجه النساء في شمال غرب سوريا، أظهرت النتائج أن نسبة النساء العاملات من إجمالي المشاركات بلغت 29%، في حين أن 71% من النساء غير عاملات.
وفي محاولة من هذه الدراسة للكشف عن مدى انتشار مظاهر المضايقات أو التحرش أو الاستغلال بالنسبة إلى النساء، أظهرت أن 9% فقط من النساء اللواتي خضعن للدراسة تعرضن للمضايقات أثناء العمل، وكانت الأرامل والمطلقات أكثر عرضة للمضايقات من غيرهن، بينما أجابت 91% من النساء العاملات بعدم تعرضهن لذلك.
وبالنظر إلى مدى تأثير هذه المضايقات والعوامل على سير العمل، أكدت نسبة 65% من السيدات أن التأثير على أعمالهن كان محدودًا، ما يعني أن المرأة تدرك حقوقها المتعلقة بالعمل وتعرفه جيدًا وتنظر بإيجابية إلى إجراءات الشكاوى، ووفقًا للدراسة فإن 67% من النساء أبدين قناعتهن التامة بإمكانية تقديم شكاوى للجهات المعنية بخصوص المضايقات، وهو ما يعكس وعي وعلم المرأة بحقوقها المتعلقة بالعمل.
إلا أن النسبة الأكبر (84%) من المشاركات أكدن أنهن لا يعتبرن تقديم الشكوى بخصوص المضايقات أو التحرش وصمة عار أو شيئًا معيبًا، إنما هو إجراء وحق من الواجب اتّباعه لحماية حقوقهن.
وتعليقًا على ما سبق، تقول عضوة مجلس الإدارة في مؤسسة الدفاع المدني السوري، ندى الرشد، لـ”نون بوست” إن فقدان المعيلين كان إحدى أكثر العواقب المؤلمة للحرب التي يشنّها نظام الأسد وروسيا على السوريين، إذ تركت هذه الخسائر عددًا لا يحصى من الأسر دون مصدر دخل ثابت، ما دفع النساء إلى لعب دور اقتصادي في مواجهة الخيارات المحدودة، حيث اتّبعن أشكالًا مختلفة من العمل، تتراوح من ريادة الأعمال الصغيرة إلى الزراعة لإعالة أسرهن.
ورأت الرشد أن مشاركة المرأة في جهود العمل والبناء ليست مجرد ضرورة، فهي رصيد حيوي لمستقبل المنطقة، تساهم مشاركتها النشطة في العديد من الجوانب الحاسمة لتعافي المجتمع وتنميته.
وشدّدت الرشد أثناء حديثها لـ”نون بوست” على ضرورة وجود دعم لعمل المرأة، مشيرة إلى أن توفير الوصول إلى التدريب والموارد والمساعدة يمكن أن يمكّن المرأة من تعزيز مساهماتها بشكل أكبر، بالإضافة إلى ذلك ينبغي بذل الجهود لإنشاء مساحات وشبكات آمنة، حيث يمكن للنساء التعاون وتبادل الخبرات وتطوير استراتيجيات للتغلب على التحديات التي يواجهنها.
واسترسلت قائلة: “هناك من يعتبر أن دور المرأة محصور فقط بالمنزل وتربية الأولاد، وبالتأكيد هذه مهمات عظيمة لكنها لا تمنع المرأة من أخذ دورها الحقيقي بعيدًا عن التأطير والنمطية، ولا يتناقض أبدًا مع عادات المجتمع ومبادئه وأخلاقه دور في بناء سوريا، تكون موجودة فيه وبطريقة فعّالة في الظروف الطبيعية التي تعيشها أي دولة”.
ما دور الاتحاد النسائي؟
خلال إعداد هذا التقرير التقينا برئيسة الاتحاد النسائي العام في شمال سوريا فاطمة حامد، والتي أكّدت لـ”نون بوست” على أن الاتحاد النسائي لامس قضية تمسك النساء في المناطق المحررة بعادات دينهن الحنيف (الإسلام)، واستطعن الحفاظ على عاداتهن وتقاليدهن، نافية وجود مضايقات جسدية أو لفظية للنساء واسعة النطاق أثناء عملهن، مؤكدة أن المضايقات قد تنحصر في بُعد العمل عن مكان إقامتهن، أو قلة وسائل النقل، ما يعكس في حقيقة الأمر مشقة على السيدات، بالإضافة إلى ابتعادهن عن رؤية أطفالهن الذين يغبن عنهم لساعات طويلة.
وأشارت إلى أن السيدات السوريات أثبتن جدارتهن على مدار أكثر من عقد من الحرب، في قدرتهن على إعالة أسرهن وتحمل المسؤولية، خاصة أن معظم السيدات في شمال سوريا فقدن ابنًا أو زوجًا أو منزلًا أو أهلًا.
وعن أبرز مهام الاتحاد، لفتت الحامد إلى أن مهامه تكمن في تمكين النساء في شمال غربي سوريا اقتصاديًّا واجتماعيًّا، من خلال تقديم جميع التدريبات التي تخصّ النساء، “فمن الناحية الاقتصادية استطعنا تنظيم دورات ناجحة في صناعات الحلويات وصناعة الأجبان والألبان والخياطة وتجميل السيدات وإعادة التدوير، بهدف النظر إلى حال العديد من السيدات، وتأمين مصدر دخل أساسي لهن يواجهن به الواقع المعيشي المتردي الذي تمرّ به البلاد”.
وأضافت أن الاتحاد يساعد أيضًا السيدات المتعلمات في تأمين كافة احتياجاتهن، بهدف مساعدتهن لدخول سوق العمل خاصة في المنظمات والمؤسسات، وأهمها إقامة دورات حاسوب وتعليم اللغات والإدارة والتمريض والتعامل مع الكوارث.
مضايقات لا حلول لها
أكّد عبد الكريم العمر، مدير فريق أتحرر التطوعي، على وجود مضايقات بشكل محدود للنساء أثناء عملهن، مشيرًا أنهم عملوا خلال السنوات الماضية على هذا الشأن بشكل كبير، من خلال تقديم ورشات تدريبية من شأنها تسليط الضوء على قضية التحرش الجنسي ومعايير العمل الإنساني والابتزاز الإلكتروني.
وأوضح خلال حديثه لـ”نون بوست” أن هذه الورشات انعكست بشكل إيجابي على النساء، خاصة العاملات في المنظمات الإنسانية، ما جعلهن على دراية كاملة بهذا الخصوص، الأمر الذي حدّ من هذه المضايقات بنسبة كبيرة جدًّا.
ولفت إلى أن المضايقات التي بقيت دون حلول وتتعرض لها النساء إلى اليوم مصدرها السلطات المسيطرة في شمال غربي سوريا، كونها لا تحبّذ عمل النساء ومشاركتهن في العمل الإنساني أو الشأن العام عمومًا.
مشاكل النساء وأكثرهن تضررًا
وعن أبرز الحالات النسوية المتضررة خلال الحرب والتي صادفتهن خلال عملهن في الفريق، يقول العمر: “إن معظم النساء اللواتي لامسنا قضاياهن هن معتقلات سابقات أو ناجيات من الاعتقال، بالإضافة إلى نساء أصبن في القصف وأخريات عانين من التهجير والظروف الصعبة أثناء النزوح”.
ولعلّ أبرز المشاكل التي تواجه السيدات اليوم بحسب العمر، هو ضعف مشاركتهن بعمليات الاستجابة، وعدم وجود مساحات تحترم خصوصية النساء في مراكز الإيواء أو المخيمات أو مراكز النزوح، إضافة إلى ضعف الخدمات المقدمة لهن من قبل المنظمات العاملة في المنطقة.
وأشار إلى أن العديد من النساء أيضًا عجزن عن إكمال دراستهن التعليمية نتيجة التكاليف المادية الكبيرة من جهة، وانشغالهن في تأمين المعيشة ورعاية أطفالهن من جهة أخرى، منوّهًا أن جزءًا قليلًا من النساء اللواتي فقدن أزواجهن حصلن على فرصة عمل، لكن في المقابل ابتعدن عن رعاية أطفالهن بشكل جدّي ووقفن عاجزات عن إكمال تعليمهن.
ما رواه العمر أكّده أيضًا مدير المركز المدني في مدينة الأتارب غربي حلب، محمد شاكردي، حيث أهم مشاكل النساء في الوقت الحالي يكمن في غياب صوتهن ومشاركتهن في أماكن صنع القرار، بالإضافة إلى ضعف التواصل معهن والاطّلاع على مشاكلهن الحياتية واليومية الحقيقية.
ولفت في الختام إلى أن استمرار النظرة التقليدية إلى المرأة وعملها، وارتفاع أعداد المعيلات للأسر في المناطق المحررة، لعبا دورًا هامًّا في حرمانهن من حق التعلم، والتفرغ لتأمين لقمة العيش.