شكلت إفريقيا على الدوام أهمية إستراتيجية كبيرة بالنسبة للقوى الاستعمارية العظمى لما تملكه القارة السمراء من خيرات طبيعية ومواد أولية، ولا سيما النفط الذي أصبح العنصر الحيوي المحرك للاقتصاد العالمي. وقد كان لفرنسا عبر التاريخ نشاطاً استعمارياً بارزاً في القارة الأفريقية، حيث احتلت عدد من دول إفريقيا مثل: (تونس، الجزائر، المغرب، بالإضافة إلى موريتانيا)، والسنغال، وغينيا، ومالي، والنيجر، وتشاد، وكوت ديفوار (ساحل العاج)، والجابون، والكونغو برازافيل، وبنين (داهومي)، وبوركينا فاسو (فولتا العليا)، وإفريقيا الوسطى، والكنغو الأوسط (كنشاسا)، وكذلك مدغشقر، وجيبوتي (الصومال الفرنسي)، فضلاً عن جزر كومورو (جزر القمر)، وعدد من جزر المحيط الهندي الأخرى.
تقلص الدور الفرنسي في القارة الإفريقية أواخر القرن العشرين بعد أن نالت الدول الأفريقية التي كانت تابعة للاستعمار الفرنسي
تقلص الدور الفرنسي في القارة الإفريقية أواخر القرن العشرين بعد أن نالت الدول الأفريقية التي كانت تابعة للاستعمار الفرنسي استقلالها، وبعد التغيرات التي لحقت بالنظام الدولي مع نهاية الحرب الباردة، والتي نتج عنها انفراد الولايات المتحدة بوضعية القوة العظمى والقطب الأوحد في ظل النظام العالمي الجديد.
إن هذه الظروف لم تعني أن فرنسا تخلت عن أحلامها الاستعمارية في إفريقيا، فقد استمرت فرنسا بعد مرور أربعين عاماً على استقلال مستعمراتها القديمة في إفريقيا، في منحها أهم عنايتها ومساعدتها، حيث لا تزال فرنسا إلى اليوم بأشكال مختلفة، مباشرة أو عن طريق الاتحاد الأوروبي والبنك الدولي وباقي المنظمات الدولية تمنح لهذه البلدان أكثر من ثلثي مساعدتها المقدرة بأكثر من خمسة مليارات من الدولارات سنوياً. إضافة إلى ذلك هناك 14 دولة أفريقية ملزمة من فرنسا، من خلال اتفاق استعماري، على وضع 85% من احتياطاتها الأجنبية في البنك المركزي الفرنسي تحت سيطرة الوزير الفرنسي للرقابة المالية. حتى الآن، توجو و13 دولة أخرى ملزمة بدفع ديون فترة الاستعمار الفرنسي لفرنسا. إن هذا يدفعنا باتجاه افتراض أن أفريقيا لم تتحرر بعد من الاستعمار الفرنسي، بغض النظر عن شكل هذا الاستعمار.
تحاول فرنسا اليوم العودة إلى إفريقيا تحت راية مكافحة الإرهاب
تحاول فرنسا اليوم العودة إلى أفريقيا تحت راية مكافحة الإرهاب، حيث أعلنت فرنسا في أواخر عام 2013 عن إعادة تنظيم قواتها العسكرية في الصحراء والساحل الغربي الأفريقي في مؤشر على تغيير في إستراتيجيتها العسكرية في القارة الأفريقية وعلى نحو يتيح تواجداً إقليمياً أكثر قوة، رداً على تزايد التهديدات المتطرفة في تلك المنطقة، وهو ما ظهرت بوادره في مالي، وبعدها في أفريقيا الوسطى، بعد التدخل العسكري على أراضيها، في ظل أزمات سياسية كبيرة تعصف بالبلدين.
ولم تأت هذه الإستراتيجية الفرنسية فجأةً، ففي عهد الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك، دشنت الخارجية الفرنسية عام 1997 مشروعا عرف باسم “مشروع أفريقيا”، لإعادة تنظيم التواجد العسكري الفرنسي في القارة السمراء، بحيث يضم خبراء، ومستشارين، أكثر مما يضم وحدات عاملة. أما فرنسوا هولاند الرئيس الفرنسي الحالي فقد أرسى تعديلاً طفيفاً على مبدأ شيراك، وعرف باسمه “مبدأ هولاند”، ويقوم على فكرة التدخل الفرنسي المحدود، استناداً إلى تأييد دولي ومحلي، بهدف ظاهري، وهو الهدف الإنساني وآخر أساسي غير ظاهر، وهو تحقيق أهداف فرنسا، والحفاظ على مصالحها السياسية والاقتصادية، لاسيما في مواجهة نفوذ الدول الكبرى الأخرى، خاصة الولايات المتحدة والصين، وهو ما يمكن أن ينطبق على حالة جمهورية أفريقيا الوسطى..
استغلت فرنسا حاجة بعض الأنظمة الأفريقية للمساعدات الغربية، إضافة إلى خشيتها من تنامي النزاعات الإسلامية المتطرفة بدعم هذا التوجه الجديد في في محاربة الإرهاب على الساحة الإفريقية، إلا أن المساعي الفرنسية الظاهرية في حفظ الأمن الأفريقي تخفي نوايا جدية لعودة فرنسا إلى أفريقيا.
فإن أحد الأهداف الكبرى للتدخل الفرنسي في مالي ربما يتمثل في قطع الطريق أمام تزايد النفوذ الصيني في إفريقيا
لقد حصلت الصين خلال حكم الرئيس السابق أمادو توماني توري في عام 2010 على حق التعدين عن اليورانيوم في شمال مالي. وعليه فإن أحد الأهداف الكبرى للتدخل الفرنسي في مالي ربما يتمثل في قطع الطريق أمام تزايد النفوذ الصيني في أفريقيا. ومن هنا يمكن فهم سياسة هولاند التي تحارب الإرهاب في مالي وليبيا ومناطق أخرى، وتدعمه في سوريا أنها تأتي من منطلق المصلحة الفرنسية في إفريقيا، ففرنسا ستبقى ملتزمة بدعم التوجه الأمريكي في سوريا في مقابل الدعم الأمريكي لفرنسا في أفريقيا. وبما أن الصين حليفة روسيا اليوم فإنه من الطبيعي أن تكون فرنسا في المعسكر المضاد لروسيا والصين.
انطلاقاً من مقولة فرنسوا ميتيران في بداية الخمسينات من القرن الماضي حين كان وزيراً لفرنسا ما وراء البحار في الجمهورية الرابعة “دون إفريقيا لن يكون لفرنسا تاريخ خلال القرن الواحد والعشرين” يبدو أن الإستراتيجية الفرنسية الجديدة تقوم على صناعة تاريخ فرنسا الاستعماري من جديد.