انطلقت اليوم الثلاثاء 19 سبتمبر/أيلول 2023 فعاليات الدورة الـ78 للجمعية العامة للأمم المتحدة بمدينة نيويورك الأمريكية، المقرر لها أن تستمر لمدة أسبوع كامل، بمشاركة أكثر من 145 رئيسًا وقادة دول وحكومات، وحشود هائلة من وزراء الخارجية والدبلوماسيين والإعلاميين.
تأتي اجتماعات هذه الدورة التي تعد الأكبر من حيث عدد المشاركين منذ جائحة كورونا (كوفيد 19) عام 2019، وسط مشهد يعاني من الارتباك الشديد، سياسيًا واقتصاديًا وأمنيًا، ومساعي استعادة الثقة وتنشيط التضامن العالمي مرة أخرى لمواجهة التحديات الهائلة التي تواجه المجتمع الدولي.
وبينما تشهد هذه الدورة الظهور الشخصي الأول للرئيس الأوكراني فلاديمير زيلينسكي في الأمم المتحدة منذ بدء الحرب الأوكرانية في فبراير/شباط من العام الماضي، يغيب عنها زعماء أربع من الدول الخمسة دائمة العضوية في مجلس الأمن، الرئيس الصيني شي جين بينغ ونظيريه، الفرنسي إيمانويل ماكرون والروسي فلاديمير بوتين، بجانب رئيس الوزراء البريطاني ريشي سوناك، فيما يحضر الرئيس الأمريكي جو بايدين.
انطلاق أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة بمشاركة الرئيس الأوكراني فولوديمير #زيلينسكي لأول مرة حضوريا منذ #الغزو_الروسي على بلاده#الأمم_المتحدة #أوكرانيا #روسيا #نيويورك pic.twitter.com/3ZT6RXkni1
— فرانس 24 / FRANCE 24 (@France24_ar) September 19, 2023
سياق مرتبك
تنطلق فعاليات الدورة الأممية الحاليّة وسط مشهد مرتبك على المسارات كافة، حيث استمرار الحرب الروسية الأوكرانية التي ألقت بظلالها القاتمة على منظومة الطاقة ذات الكلفة الباهظة، فضلًا عن تأثيراتها الكارثية على خريطة الأمن الغذائي وتعريض حياة الملايين فوق الكرة الأرضية للخطر بسبب الجوع ونقص سلاسل الإمدادات.
كما أن العالم لم يتعاف بعد من تبعات جائحة كورونا التي دفعت الأسعار والتضخم والبطالة والعجز إلى مستويات غير مسبوقة، الأمر الذي زاد من حدة الحياة المعيشية، فزج بالملايين من الأشخاص إلى أتون الفقر والعوز، هذا في الوقت الذي صبت فيه الطبيعة غضبها الجم على الجميع، فتسببت بأعاصيرها وفيضاناتها وحرائقها وزلازلها في وفاة عشرات آلاف الضحايا وتهديد غذاء الملايين الآخرين لا سيما في المناطق النائية ذات الطبيعة البيئية القاسية.
ومما زاد من سخونة الأجواء، موجة الانقلابات العسكرية التي شهدتها – ولا تزال – القارة الإفريقية في منطقة الساحل والصحراء، التي بدأت بمالي مرورًا ببوركينا فاسو ثم النيجر ومنها إلى الغابون وصولًا إلى إرهاصات انقلابات جديدة في هذا الحزام المضطرب، كذلك اشتعال الموقف في الداخل السوداني جراء حرب الجنرالات المستعرة، كل هذا يزيد من أعباء المجتمع الدولي إزاء القارة الإفريقية التي تحولت في الآونة الأخيرة إلى خزان العالم من الثروات الطبيعية المستقبلية التي بسببها تحولت إلى قبلة القوى الاقتصادية الكبرى وأحد الملفات المحورية على أجندة المجتمع الدولي.
الوضع الإنساني المتدني في المغرب وليبيا جراء الزلازل والأعاصير التي ضربت البلدين وأودت بحياة عشرات الآلاف تمثل هي الأخرى تحديًا كبيرًا لا سيما في ظل تراخي المجتمع الدولي في أداء الدور المنوط به لإنقاذ الموقف، مقارنة بما حدث في بلدان أخرى، الأمر الذي وضعه في حرج كبير أمام الإنسانية العالمية.
وفوق كل ذلك حرب الاستقطابات المشتعلة بين المعسكرين: الشرقي ممثلًا في الصين وروسيا، والغربي ممثلًا في الولايات المتحدة وأوروبا، وهي الحرب التي أوقعت الكثير من دول العالم بين المطرقة والسندان، ما كان له أسوأ الأثر في تفاقم الأزمة العالمية وتعريض الاقتصاد والأمن الدوليين للخطر.
#الأمم_المتحدة تقدر عدد متضرري السيول في #ليبيا بأكثر من 880 ألفا وتطلق مناشدة عاجلة لتلبية احتياجات نحو ربع مليون منهم pic.twitter.com/9aaJcjPblG
— قناة الجزيرة (@AJArabic) September 15, 2023
جدول أعمال مُتخم
يعاني جدول أعمال القمة الـ78 للأمم المتحدة من تخمة في الملفات والموضوعات الحيوية الشائكة، لعل أبرزها ما يتعلق بالقطاع الصحي مثل قضايا الوقاية من الأوبئة والتأهب والاستجابة والتغطية الصحية الشاملة والمكافحة العالمية لمرض السل، بجانب التطرق إلى التقدم المذهل الذي حققته تكنولوجيا الاتصالات فيما يتعلق بالذكاء الاصطناعي وبحث مدى قدرة توظيفه لخدمة الإنسانية والارتقاء بها.
كذلك قمة الطموح المناخي المقرر عقدها على هامش القمة والاستعدادات المكثفة على المستوى الوزاري لعقد قمة المستقبل العام المقبل والحديث عن تداعيات ومخاطر التغيرات المناخية وسبل التعاطي معها بشكل يقلل من كوارثها ويضمن أقل قدر ممكن من التأثيرات السلبية على البلدان والشعوب.
ومن المقرر أن تنعقد على هامش الاجتماعات عدد من اللقاءات الخاصة بمجموعات منبثقة عن الأمم المتحدة، منها قمة أهداف التنمية المستدامة التي انطلقت أمس وتستمر حتى اليوم، حيث يجتمع قادة دول العالم لتقييم خطة التنمية المستدامة لعام 2030، بجانب الاجتماع الوزاري لقمة المستقبل المقرر له الخميس 21 سبتمبر/أيلول الحاليّ، ويستهدف وضع النقاط الأخيرة قبل قمة المستقبل، التي ستستضيفها نيويورك العام القادم، هناك أيضًا قمة العمل المناخي المقرر انطلاقها غدًا الأربعاء 20 سبتمبر/أيلول الحاليّ، وتهدف إلى حشد زخم جديد للعمل المناخي الفعال.
وستكون الأزمة الأوكرانية حاضرة بشكل واضح خلال أعمال تلك القمة، حيث تحدث الرئيس الأوكراني لأول مرة بصورة شخصية مباشرة أمام الجمعية العمومية للأمم المتحدة صباح اليوم، هذا بجانب انعقاد اجتماعات خاصة لمناقشة سبل دعم أوكرانيا والحفاظ على السلام بها.
التنمية المستدامة.. الملف الأبرز
التحديات الاقتصادية والاجتماعية التي خلفتها التطورات والمستجدات التي شهدها العالم خلال السنوات الماضية دفعت المجتمع الدولي إلى وضع ملف “التنمية المستدامة” تحت مجهر العناية الفائقة، ومنحه صدارة قائمة الأولويات، لما يمثله من أهمية محورية قبل تفاقم الأزمة وحصادها المر الذي لن ينجو منه أحد.
وتبحث الأمم المتحدة من خلال قمة التنمية المستدامة التي عقدت أمس واليوم برئاسة الأمين العام غوتيريش، العديد من الأهداف التي تسعى المنظمة لتحقيقها في هذا الإطار بهدف إنقاذ العالم وضمان عدم تخلف أحد عن الركب، على رأسها القضاء على الفقر لا سيما في المناطق الريفية حيث وصلت معدلاته بها 2.17% أي 3 أضعاف معدلات الفقر في الحضر.
ووضعت الأمم المتحدة روشتة عاجلة للقضاء على الفقر حتى عام 2030 تتضمن: تخفيض نسبة الرجال والنساء والأطفال من جميع الأعمار الذين يعانون الفقر بجميع أبعاده، استحداث نظم وتدابير حماية اجتماعية ملائمة، ضمان تمتّع جميع الرجال والنساء، لا سيما الفقراء والضعفاء منهم، بنفس الحقوق، حشد موارد من مصادر متنوعة لتزويد البلدان النامية والأقل نموًا، بوسائل تمكنها من تنفيذ البرامج والسياسات الرامية إلى القضاء على الفقر.
قادة العالم يعتمدون إعلانا سياسيا لتعزيز القضاء على الفقر بهدف تحقيق التنمية المستدامة#قنا #الأمم_المتحدةhttps://t.co/pYGCs7ipln pic.twitter.com/T6DKTkOHRf
— وكالة الأنباء القطرية (@QatarNewsAgency) September 19, 2023
ثم يأتي ملف القضاء على الجوع ليكمل جهود مسار القضاء على الفقر، خاصة بعد بلوغ عدد من يذهبون إلى الفراش جائعين أكثر من 820 مليون شخص حول العالم، منهم 135 مليون يعانون من الجوع الحاد بسبب النزاعات البشرية وفق تقديرات أممية.
وبالتوازي مع القضاء على الفقر والجوع يأتي العمل من أجل الصحة الجيدة، وهو الملف الذي توليه الأمم المتحدة أهمية كبيرة لما يمكن أن يترتب عليه من آثار كارثية قد تؤدي إلى موجات نزوح من المناطق التي تتفشى فيها الأمراض، إلى مناطق أخرى مما يهدد استقرار تلك البلدان.
ويُكمل التعليم مثلث الخطر العظيم (الصحة – الفقر – التعليم)، حيث تضع الأمم المتحدة نصب عينها أهمية هذا الملف، باعتباره الوسيلة الأسرع للهروب من الفقر، ولتأثيره الإيجابي القوي في استقرار الدول والأنظمة الحاكمة، وهو ما قد ينعكس على تبريد الأجواء في مناطق النزاعات، كاشفة أن خمس سكان أطفال العالم تقريبًا، أي نحو 260 مليون طفل، كانوا خارج المدرسة في عام 2018.
القضية الفلسطينية.. حضور شكلي معتاد
كعادتها لم تغب القضية الفلسطينية عن فعاليات القمم الأممية، بعيدًا عن تأثير ذلك على القضية والشعب الفلسطيني، حيث عُقد لقاء أمس الإثنين 18 سبتمبر/أيلول 2023 جمع بين مسؤولين عرب وأوروبيين ممثلين لـ50 دولة من مختلف أنحاء العالم، بهدف بحث جهود سبل دعم وإحياء عملية السلام في الشرق الأوسط.
الاجتماع وفق بيان الخارجية المصرية كان بدعوة من الاتحاد الأوروبي وجامعة الدول العربية والسعودية، بالشراكة مع مصر والأردن، فيما طالب الوزير المصري سامح شكري خلال الاجتماع “الجانب الإسرائيلي بالتوقف عن الإجراءات أحادية الجانب التي تعرقل عملية السلام”.
فيما أشار وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان، إلى أن هذا الاجتماع “يهدف إلى إعادة الحديث عن حل الدولتين (الفلسطينية والإسرائيلية)، في ظل التصعيد الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية”، لافتًا خلال تصريحات إذاعية له أن “الناس بدأت تفقد الأمل في حل الدولتين، ونريد من خلال المجهودات إعادته إلى الواجهة”، مشددًا على أنه “لا مجال لحل الصراع إلا بضمان قيام دولة فلسطينية مستقلة”.
في كلمتي اليوم امام #الاجتماع_الوزاري لتعزيز #مبادرة_السلام_العربية بنيويورك تحدثت عن مخاطر تقويض #حل_الدولتين، وضرورة وضع المبادرة، التي ترعاها #الجامعة منذ اطلاقها، مجدداً على الأجندة الدولية. (١) يتبع …#UNGA78#نيويورك #الأمم_المتحدة pic.twitter.com/EefBSoGraA
— الأمين العام لجامعة الدول العربية (@lassecgen) September 18, 2023
وعلى الجانب الأوروبي، أشاد مسؤول العلاقات الخارجية في الاتحاد الأوروبي، جوزيف بوريل، بهذا اللقاء الذي حضره ممثلو العشرات من البلدان، مؤكدًا عبر تغريدة له على موقع “إكس” أنه قد تم الاتفاق على بدء عملية تطوير حزمة دعم السلام، مضيفًا “وتحقيقًا لهذه الغاية، سيتم إطلاق 3 مجموعات عمل، ستبدأ عملها الشهر المقبل في البعد السياسي والأمني والاقتصادي والبيئي، والبعد الإنساني”.
السؤال الذي يفرض نفسه مع كل اجتماع للأمم المتحدة، وعلى مدار 77 دورة سابقة، أي تأثير ممكن أن تُحدثه تلك الاجتماعات وما يتمخض عنها من قرارات؟ ومع تراجع نفوذ المنظمة الأممية مقابل تكتلات إقليمية أخرى أكثر نفوذًا وتأثيرًا، خفت الحديث عن قوة القرارات الأممية التي يكون مصيرها – في الغالب – الأدراج والجدران، وهو ما تعاني منه القضية الفلسطينية على سبيل المثال.
ومع غياب 4 من قادة الدول الخمسة دائمي العضوية بمجلس الأمن، ممن لهم حق النقض (الفيتو)، والحديث عن انشغال الرئيس الأمريكي جو بايدن بالترويج لحملته الانتخابية القادمة من خلال تلك الزيارة، وزيادة حدة الانقسامات في ظل حرب الاستقطابات المستعرة حاليًّا، وتعاظم التحديات التي تواجه المجتمع الدولي في ضوء المستجدات الأخيرة، يبقى التفاؤل بشأن مخرجات إيجابية لهذا الاجتماع في أدنى مستوياته، لتؤكد الأمم المتحدة تلك الصورة الذهنية التقليدية بأنها ما عادت إلا مكلمة لتجاذب أطراف الحديث دون ترجمة ذلك عمليًا وفقدانها أدوات الضغط الممكنة للرضوخ لقراراتها.