في أغلب دول العالم لاسيما المتقدّمة منها؛ تعكف وزارات وهيئات ومنظمات مختلفة، بوزرائها وخبرائها ومختصيها، من أجل استحداث طرق وآليات وأساليب جديدة لمكافحة الفساد والتعجيل بهدم أركانه، كما يقوم الإعلام فيها بتدعيم ذلك عبر تقاريره وتحقيقاته الإستقصائية التي تلاحق الفاسدين في كل مكان وتترصّد لهم، لذلك وصلت هذه الدول إلى ما وصلت إليه اليوم من تقدّمٍ في شتّى المجالات
أما في المملكة العربية السعودية – وللأسف – فإن الناس لا ينفكّون من تريد عبارة “يا حظ الفاسدين في هذا البلد”، فالفساد عندنا اتّخذ طابع “القداسة”، وكبار الفاسدين لهم وضع الحصانة، أبواب الخزينة مُفَتَّحةٌ أمامهم، ينهبون منها ما يشاؤون ليلاً ونهاراً، ولا أحد يجرؤ على محاربتهم أو انتقادهم، ومن يفعل ذلك يلقَ أصنافاً من التضييق والملاحقة، حتى وإن كان انتقاداً عابراً وغير مباشر.
أُجزم أن المملكة لم تشهد منذ تأسيسها مسلسلا فضائحياً وبامتياز كما يشهده اليوم، فلا يمر يوم أو أسبوع، إلا وكانت هناك فضيحة مالية مدوية واختلاس أو رشوة أو تلاعب يشيب له الرأس
أكاد أُجزم أن المملكة لم تشهد منذ تأسيسها مسلسلا فضائحياً وبامتياز كما يشهده اليوم، فلا يمر يوم أو أسبوع، إلا وكانت هناك فضيحة مالية مدوية واختلاس أو رشوة أو تلاعب يشيب له الرأس، لكن القضية إما أنها تندثر بكامل تفاصيلها – مع سبق الإصرار والترصّد – كما حصل مع فضيحة نهب ترليون ريال من خزينة الدولة مؤخرا، أو أن الفاعلين يبقون مجهولين وتُنسى الجريمة مع تقادم الأيام، وقد يحصل أن يتم تكريمهم وترقيتهم وهذا ما حصل مع عادل فقيه (أمين محافظة جدة السابق)
إذ بدل أن يُعاقَب (فقيه) على كارثة سيول جدة في 2009 التي أدت إلى مصرع 116 شخصاً وأكثر من 350 في عداد المفقودين، ناهيك عن تضرر أكثر من ثلاثة آلاف سيارة، والكل أجمع وقتها على أن الفساد والفشل وسوء التخطيط والإدارة؛ هو المسبب الأول لها، إلا أن المواطنين تفاجأوا بصدور أمر بتعيينه وزيراً للعمل بعد أشهر قليلة من وقوع الكارثة، وكم من فاسدٍ ومقصّرٍ غيره تمت ترقيته إلى مناصب أعلى بعد اكتشاف فساده وتقصيره، وهذا الأمر أقل ما يمكن أن يُقال عنه: “تحدٍ للوطن والمواطن” !
لنتحدّث الآن بلغة الأرقام ونرى هول ما أحدثه الفساد والنهب المنظّم لثروات البلد طيلة العقود التي خلت، فدخْلُ المملكة من النفط 14 تريليون ريال خلال 85 عام مضت، نصفها في آخر 7 سنوات أي ( 7 ترليون ريال)، وهذا الدخل المباشر للخزينة من الصادرات في 7 سنوات (يعادل) الدخل المباشر للخزينة اليابانية من صادراتها المتنوعة، سيارات وأجهزة وإلكترونيات !
يُخيَّلُ لمن يعيش خارج المملكة العربية السعودية أن المواطن السعودي يعيش اليوم في رفاهية تضاهي رفاهية مواطني كندا وسويسرا وغيرهما، وأن البنية التحتية للبلد تُنافس بنية اليابان وسنغافوره وماليزيا، لكن الحقيقة غير ذلك تماماً
للوهلة الأولى يُخيَّلُ لمن يعيش خارج المملكة العربية السعودية أن المواطن السعودي يعيش اليوم في رفاهية تضاهي رفاهية مواطني كندا وسويسرا وغيرهما، وأن البنية التحتية للبلد تُنافس بنية اليابان وسنغافوره وماليزيا، لكن الحقيقة غير ذلك تماماً، صحيحٌ أن السعودية تُعتَبرُ واحدةً من أقلِّ دول العالم مديونية، لكن مواطنيها هم الأعلى مديونية على مستوى العالم، إذ إنّ الغالبية العظمى من الشعب تذهب معظم رواتبهم للبنوك لتسديد القروض التي عليهم
اليوم، وبعد هذه السنوات الترليونية؛ لدينا نسبة تترواح بين 65% إلى 75% من المواطنين لا يملكون سكناً خاصاً بهم، وهم يرزحون تحت رحمة المؤجّرين، رغم المساحة الشاسعة للبلد والإماكانيات المادية الضخمة، ناهيك عن معاناة الناس مع العلاج الذي لا يحصل كثير منهم عليه إلا بعد استجداء كبار المسؤولين – هذا إن حصلوا عليه قد أن يدهمهم الموت – فضلاً عن معاناتهم مع البطالة وسوء البنية التحتية ورداءتها وغير ذلك من الكوارث التي يطول ذكرها
ورغم أن الحكومة لا تفصح عن بيانات رسمية حول معدلات الفقر في البلاد، إلا أن تقارير صحفية تداولتها صحيفتا “واشنطن بوست” الأميركية و”الغارديان” البريطانية في عام 2013، أشارت إلى أن هناك ما بين 2 إلى 4 ملايين سعودي يعيشون تحت خط الفقر، وهنا نتحدّث عن فترة كانت فيه الميزانية تحقق فوائض كبيرة، ولم يكن المواطن يعرف شيئاً اسمه ضرائب أو فواتير كبيرة، فالدولة كانت حينها تدعم أسعار الطاقة وخدمات وسلع كثيرة أخرى، أما اليوم فيمكننا أن نقول جازمين أن نسبة الفقر زادت بشكل مهول، فهو ينتشر انتشار النار في الهشيم، خصوصاً بعد تطبيق “رؤية السعودية 2030” التي كان عنوانها العريض هو “التقشف”، فأثقلت كاهل المواطن وزادته أعباءً فوق أعبائه، إذ فرضت الضرائب الكبيرة حتى على أبسط الخدمات، ورفعت الدعم عن أسعار الطاقة فضلاً عن كثيرٍ من السلع والخدمات بالإضافة إلى زيادة رسوم فواتير الماء والكهرباء، بنسبة وصلت إلى أربعة أضعاف، من أجل تقليص العجز الذي أصاب الميزانية في السنوات الأخيرة بفعل استمرار النهب المنظّم لثروات البلد
الطامة الكبرى هي أنه وبالرغم من كل هذه الكوارث التي تسبّب بها الفساد المتجذّر في جميع المؤسسات الرسمية وغير الرسمية، إلا أنه بدل أن تتم محاربة الفاسدين والقبض عليهم وسَوقهم إلى المحاكم ومن ثمَّ إلى الزنازين، يتم التكتم على جرائمهم واختلاساتهم وربما تكريمهم وترقيتهم إلى مناصب أعلى، وفي المقابل يُسجَن ويُعاقَب منتقديهم والمطالبين بمحاكمتهم، فكم من كاتبٍ كُسِرَ قلمه، وكم من ناشط مضيَّق عليه، وكم من داعٍ للإصلاح يقبع الآن في غياهب السجون
طالما طرقت كلمة “الإصلاح” مسامعنا، وهزّت مشاعرنا وألهبت نفوسنا، ولكن الأمر المهم الذي ينبغي الإشارة إليه هو أن الإصلاح ممارسة للتغيير نحو الأفضل قبل أن يكون شعارا نتدثّر به أو يافطة نتغنّى بها
ولطالما طرقت كلمة “الإصلاح” مسامعنا، وهزّت مشاعرنا وألهبت نفوسنا، ولكن الأمر المهم الذي ينبغي الإشارة إليه هو أن الإصلاح ممارسة للتغيير نحو الأفضل قبل أن يكون شعارا نتدثّر به أو يافطة نتغنّى بها، فلا إصلاح بدون القضاء على الفساد؛ ولا يمكن القضاء على الفساد بدون مشاركة حقيقية للمواطن في صناعة القرار، والرقابة على المال العام ومحاسبة ناهبيه، أمّا أن يعيش الفاسد عيشة السلاطين ويتمتع بأموال المساكين والفقراء آمناً من أيّ عقاب أو ملاحقة أو فضيحة تلحق به، بينما كل من ينتقدهم يتم التضييق عليه والتنكيل به، فهذا إستغفال وتخدير للمواطن ليس إلا
خلاصة الأمر؛ هو أن العبث بعوائد البترول طوال العقود الماضية، شكّل ثقوباً سوداءً ابتلعت ثروات البلد الخيالية، وألقت الشعب المتزايد سكانياً لسنوات سوداء قادمة، بسبب استمرار الفساد وحصانة المفسدين، ويقابله اللجوء المباشر لجيب المواطن، لحل مشاكل متراكمة لم يكن له يد في حدوثها وتراكمها، وهي برأيي أكبر جريمة تعرض لها الشعب منذ اكتشاف النفط.