اعتاد سكان البلدة القديمة في القدس ومن يسكن بجوار المسجد الأقصى وتحديدًا قرب باب الرحمة، على رؤية المستوطنين وهم يحملون البوق (الشوفار) والنفخ فيه وقت أعيادهم التوراتية، دون إدخاله إلى المسجد لاستكمال طقوسهم قرب حائط البراق، وذلك بأمر من شرطة الاحتلال لحمايتهم من المواجهة مع المقدسيين.
لكن ما جرى قبل أيام وتحديدًا في عيد رأس السنة العبرية، حين تجرّأ المستوطنون على النفخ بالبوق داخل الأقصى وبحماية الشرطة الإسرائيلية، أثار غضب الفلسطينيين الذين اعتبروا ذلك بداية لتحويل الطقوس التوراتية إلى فرض سياسة الأمر الواقع.
لم يكن عبثًا النفخ في البوق أو مبادرة فردية من قبل المتدينين، بل كان مدبّرًا من قبل جماعات الهيكل، التي تتوعّد بشكل مستمر من اقتراب بناء الهيكل المزعوم وهدم الأقصى وتهويد معالمه، وكذلك الشرطة الإسرائيلية التي شكّلت رأس حربة في فرض الاقتحامات للمسجد خاصة وقت الأعياد، ليتجاوز عدد المقتحمين الذين يمارسون طقوسهم الدينية بواسطة أدواتهم التوراتية المئات يوميًّا.
نستعرض في هذا التقرير خطورة إدخال البوق والنفخ فيه داخل الأقصى، بالإضافة إلى الدلالة التاريخية لذلك، والرسائل التي تريد جماعات الهيكل إرسالها عبر تلك الطقوس.
مسار قانوني لانتزاع قرار قضائي لنفخ البوق
بدايةً تحكي السيدة المقدسية سلمى عبد الله، التي تسكن بجوار المسجد الأقصى وتحديدًا عند باب السلسلة القريب من حائط البراق، أنها تنزعج كبقية أهالي البلدة القديمة من صوت البوق عند النفخ، لكن ما استغربته هذه المرة أن النفخ كان قبل بدء الأعياد بأيام.
وتقول لـ”نون بوست” إنه منذ بداية السنة العبرية يتعمّد المستوطنون الوقوف مقابل البيوت المقدسية وهم ينفخون لاستفزازنا، لكن ما كان صادمًا هو النفخ داخل المسجد الأقصى، ما استفزهم وجعل أبناءهم الشباب يتوعّدون بالردّ.
وتضيف: “نحاول نحن جيران الأقصى ومن يتمكن الوصول إليه من الضفة الغربية والداخل المحتل، الرباط في باحاته والتكبير والتهليل ردًّا على ممارسة الطقوس التلمودية التي تمسّ بحرمة مسجدنا”.
وذكرت أن الحادثة وقعت مرتَين العام الماضي وما سبقه لكن لم يوثَّق ذلك بالتصوير، كون الاحتلال يخشى اندلاع مواجهة، لكن هذه المرة كانت الحراسة مشددة من قبل الشرطة الإسرائيلية وقت تهريبهم للبوق والنفخ فيه، دون اكتراث لأي ردة فعل.
وما يؤكد قول المقدسية إن حادثة النفخ بالبوق تكررت في السنوات السابقة دون توثيق، هو ما جاء في خبر نشرته مؤسسة القدس الدولية عبر موقعها الإلكتروني، وجاء فيه: “شهد المسجد الأقصى يوم الأحد 17 سبتبمر/ أيلول 2023 نفخ البوق فيه من جديد من قبل المستوطنين الصهاينة، بعد محاولات خاطفة شهدها الأقصى لنفخ البوق عامَي 2021 و2022، وبعد حملة واسعة لنفخ البوق على أبوابه وفي جواره عام 2020، والتقدم بالتماسات أمام محاكم الاحتلال للسماح بنفخه، انتهت إلى منحها الغطاء العلني لنفخه في جوار المسجد الأقصى وعلى أبوابه، والضمني لنفخه داخل المسجد ذاته”.
وتجدر الإشارة إلى أن المجلس الحاخامي (السنهدرين) لجأ إلى مسار قانوني، في محاولة لانتزاع قرار قضائي يسمح بممارسة هذا الطقس في ساحات المسجد الأقصى، مدّعيًا أن محكمة إسرائيلية اعتبرت عام 2015 أن النفخ في البوق ليس عملًا استفزازيًّا، بل جزءًا من الوضع القائم الذي فُرض بعد يونيو/ حزيران 1967، مع أن مفهوم الوضع الراهن في القانون الدولي يتحدث عن الحفاظ على الأقصى، كما كان عليه الوضع قبل اندلاع حرب ذلك العام.
يذكر أن المرتَين اللتين حصل فيهما النفخ في الساحة الشرقية للأقصى لم يتمكّن حرّاس الأقصى من رصده بسبب إبعادهم واستهدافهم، بينما اليوم تمكّن أحد حرّاس الأقصى من رصد صوت البوق من بين فوج المقتحمين.
ما هو البوق؟
يسمّى “شوفار” باللغة العبرية، مصنوع من قرن كبش، ويستمر النفخ فيه منذ بداية السنة العبرية وطيلة أيام التوبة، وتذكر الكتب اليهودية أن النفخ يذكّر بقصة الذبح التي أمر الله بها نبيه إبراهيم عليه السلام، لكنهم يعتقدون أن الذبيح هو النبي إسحاق عليه السلام.
وللنفخ في البوق مدة ودرجات معينة منقطعة ومتصلة، وحسب المعتقدات اليهودية يحمل هذا النفخ دلالات، منها إيقاظ القلب والتوبة والتذكير بحادثة انتقالهم من سيناء.
يذكر أن مؤسس الحاخامية العسكرية، الحاخام شلومو غورين، نفخ بالبوق على جبال سيناء عند احتلالها عام 1956، وعند تلة المغاربة عند احتلال شرقي القدس عام 1967، ولذلك ينفخ المستوطنون بالبوق في “عيد الاستقلال” (النكبة) سنويًّا.
وكان غورين قد ألّف العديد من الكتب الدينية، منها كتب الصلاة الخاصة بجنود الاحتلال من مظليين وطيارين وغواصين، فهو من تتلمذ على يد أبرز منظري الفكر الصهيوني الحاخام أبراهام كوك، وانضمَّ إلى عصابة الهاغاناه الصهيونية، وشارك في حرب النكبة عام 1948 والعدوان الثلاثي عام 1956 واحتلال القدس عام 1967.
وانضم إلى العصابات التي احتلت شرق القدس وهو يحمل البوق (الشوفار) ولفافات التوراة، وقال لجنود الاحتلال مشجّعًا إياهم إبّان حرب النكسة عام 1967: “أنا على ثقة تامة بأن جبل الهيكل سيعود إلينا، أراكم عند حائط المبكى في القدس المحررة”.
سلاح جديد لتحويل هوية المسجد إلى هيكل
ويعدّ نفخ البوق من أخطر الاعتداءات النوعية على الأقصى، وهنا يعقب زياد ابحيص المختص في شؤون القدس بالقول إن ممارسة هذا الطقس التلمودي يعني -من وجهة نظر جماعات الهيكل- إعلان سيادة صهيونية، وانتهاء الزمان الإسلامي في الأقصى وبدء زمان التهويد.
وذكر ابحيص أن المعنى الأهم بالنسبة إلى اليهود عند النفخ في البوق هو أنه بات هناك توظيف للطقوس الدينية، وتحويلها من تديُّن وتقرُّب للرب إلى طقوس لفرض برنامج سياسي.
ويوضح لـ”نون بوست” أن النفخ في البوق بجانب قبة الصخرة وبشكل معلن وموثّق، يُقصد منه تحويل المسجد الأقصى من مقدس إسلامي خالص إلى مقدس مشترك تمهيدًا لتهويده بالكامل، مشيرًا إلى أن النفخ في البوق يستخدَم كسلاح لتبديل هوية المسجد إلى هيكل.
وبحسب متابعته، فإن استخدام الأدوات التوراتية خلال الاحتفال بالأعياد العبرية وخاصة النفخ في البوق ليس عفويًّا، بل دليلًا على القول إن هذا المكان هيكل بالممارسة والعبادات، ولتحفيز بقية الجهات العاملة لأجل الهيكل سواء من الصهيونية الدينية وجمهورها أو من المسيحية الإنجيلية، لتضاعف جهودها لبناء الهيكل كونه قائمًا من الناحية المعنوية ولا بدَّ من الناحية المادية.
ويوضّح ابحيص أن العمل من الناحية المادية يكمن بالتوظيف المركزي، عبر تأسيسه فيزيائيًّا بالمباني وطرد المسلمين.
وتنذر ممارسة الطقوس التوراتية في المسجد الأقصى، لا سيما المحظورة أو التي تحدث بعيدًا عن أعين المقدسيين، بالمزيد من الطقوس التي يهدد المستوطنون بتنفيذها من حين لآخر كذبح القرابين، تمهيدًا لبناء الهيكل واقعيًّا.