تسارعت خطوات الدول العربية في التطبيع مع نظام الأسد خلال الفترة الأخيرة، متجاوزة الأسباب الرئيسية التي دعت إلى قطع علاقاتها سابقًا مع النظام وتجميد عضويته في الجامعة العربية، وفرض عقوبات اقتصادية عليه مع بدء الثورة السورية عام 2011، على خلفية الحرب الهمجية التي أعلنها على الشعب السوري وأسفرت عن انتهاكات جسيمة بحق المدنيين.
إذ عملت عدة حكومات عربية على إعادة تأهيل النظام وتأمين انخراطه مع المجتمع الدولي والعربي، عبر إعادة فتح السفارات وزيارة المسؤولين والرؤساء لدمشق ولقاء رأس النظام وأركان نظامه، وتشييد تفاهمات واتفاقيات اقتصادية، وصولًا إلى قرار الجامعة العربية منحه مقعد سوريا، وطيّ صفحة القطيعة معه، في التفاف واضح على القوانين الدولية والقرارات الصادرة بشأن الانتقال السياسي في سوريا.
دوافع الهرولة العربية تجاه النظام
يعد إنهاء وطيّ حقبة الربيع العربي الهدف الاستراتيجي المشترك والناظم لتحركات معظم الدول العربية المطبّعة مع نظام الأسد ضمن ما يعرَف بـ”الثورات المضادة”، وبالتالي إن دعمها نظام الأسد وتثبيت أركانه وإعادة شرعيته الدولية والإقليمية يدخل في صميم هذه الرؤية المشتركة، وأشار إلى ذلك ولي العهد السعودي محمد بن سلمان خلال كلمته بالقمة العربية في جدة، قائلًا: “يكفينا مع طيّ صفحة الماضي تذكُّر سنوات مؤلمة من الصراعات عاشتها المنطقة، وعانتها شعوبها وتعثرت بسببها مسيرة التنمية”.
تختلف دوافع ومصالح الدول العربية في مسار تطبيعها مع نظام الأسد من دولة إلى أخرى، رغم اشتراكها بخطوط عريضة ممثَّلة بمجوعة دوافع استراتيجية وتكتيكية دعتها إلى تغيير سياساتها تجاه الملف السوري، على رأسها القضايا الأمنية والإنسانية والاقتصادية المتعلقة بملف تهريب المخدرات، إلى جانب الحد من النفوذ الإيراني والتركي في سوريا، وعودة اللاجئين السوريين، ورغبة الدول العربية في لعب دور أساسي في الوصول إلى حل سياسي للملف السوري، بعد سنين من لعب دور ثانوي، لا سيما بعد التدخل الروسي في سوريا عام 2015، خصوصًا السعودية.
يرى كثيرون، على سبيل المثال، أن العجلة السعودية في السير تجاه نظام الأسد تنمّ عن رغبتها في لعب دور إقليمي وعربي مؤثر، واستعادة حضورها في المنطقة بما يتوافق مع رؤيتها لعام 2030، وتهيئة ظروف الاستقرار في المنطقة بما يدعم تلك الرؤية، وهو ما يرتبط أيضًا بالاتفاق مع إيران على تخفيف حدة المواجهة في المناطق التي تتواجد فيها إيران عسكريًّا، بما في ذلك سوريا والعراق ولبنان، واستئناف العلاقات الدبلوماسية بين البلدَين، وإعادة فتح السفارات فيهما.
عبّرت تلك الدول عن دوافعها المشتركة للتطبيع مع نظام الأسد، عبر مواقف ولقاءات واجتماعات وبيانات مشتركة، حيث لخّص مجمل هذه الدوافع البيان الختامي للاجتماع التشاوري في جدّة بين دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية والأردن ومصر والعراق في أبريل/ نيسان 2023، والذي ناقش عدة قضايا منها سوريا.
برر الأردنيون توجههم نحو التطبيع مع النظام بالمصالح الاقتصادية، لا سيما بعد جائحة كورونا وتقلُّص الاقتصاد الأردني وارتفاع نسب البطالة.
أشار البيان في معرض حديثه عن الملف السوري إلى ضرورة الوصول إلى حل سياسي يحافظ على وحدة سوريا، وتهيئة الظروف اللازمة لعودة اللاجئين والنازحين السوريين إلى مناطقهم، و”القضاء على الإرهاب”، ومكافحة تهريب المخدرات والإتجار بها، ودعم “مؤسسات الدولة” لبسط سيطرتها على كل الجغرافيا السورية، لإنهاء تواجد الميليشيات المسلحة فيها والتدخلات الخارجية في الشأن الداخلي السوري.
كما أكّد عليها اجتماع عمّان التشاوري حول سوريا، بين وزراء خارجية الأردن والسعودية والعراق ومصر، إضافة إلى وزير خارجية نظام الأسد في مايو/ أيار الماضي، إذ اعتبر وزير الخارجية الأردني أيمن الصفدي أن الاجتماع “بداية لمسار سياسي يقوده العرب لحل الأزمة السورية، ووضع خريطة طريق وفق منهجية خطوة مقابل خطوة وقرارات الأمم المتحدة”، مشيرًا إلى أنه جرى التركيز على الجانب الإنساني وملف اللاجئين ومكافحة تهريب المخدرات.
يمكن القول، بناءً على المعطيات السابقة، إن الدوافع العربية للتطبيع مع نظام الأسد تتمثل بشكل رئيسي في دوافع أيديولوجية لمواجهة الربيع العربي، ومناهضة أي حركة تغيير ديمقراطي في المنطقة، أمنية وإنسانية، وتحديدًا في ملف المخدرات وعودة اللاجئين السوريين وتقليص نفوذ القوى الإقليمية الأخرى المنافسة كإيران وتركيا.
تحقق ذلك فعليًّا وسط بيئة دولية ذات أرضية مناسبة تسمح بتحقيق اختراق على صعيد العلاقات مع نظام الأسد، بعد فترة من التراخي والتراجع الأمريكي النسبي في المنطقة، مقابل ثقل الحضور الروسي الذي سعى إلى ملء الفراغ الأمريكي، وهو ما كان عاملًا مهمًّا وقاعدة أساسية للاندفاع العربي نحو النظام.
يضاف إلى ذلك المصالح والدوافع الخاصة لكل دولة على حدة، كالمصالح الاقتصادية التي تدفع بعض الدول كالإمارات والأردن، إذ برر الأردنيون توجههم نحو التطبيع مع النظام بالمصالح الاقتصادية، لا سيما بعد جائحة كورونا وتقلُّص الاقتصاد الأردني وارتفاع نسب البطالة.
المكاسب الاقتصادية المنتظرة
يبدو أن العامل الاقتصادي والاستئثار بعقود إعادة الإعمار يحظيان أيضًا بأهمية حقيقية ضمن قائمة أولويات دول، كالإمارات مثلًا، في هرولتها تجاه النظام، خاصة أن التعاون الاقتصادي الإماراتي مع النظام كان حاضرًا بقوة في مرحلة مبكرة من عمر القضية السورية، بعد تبنّيها مواقف غامضة ومتناقضة في الوقت نفسه من طبيعة الصراع في سوريا منذ بداية العام 2013.
تحولت الإمارات مبكرًا، رغم قطع علاقاتها الدبلوماسية مع النظام عام 2012، إلى التعاون والتنسيق الاقتصادي معه، وأصبحت ملجأ رئيسيًّا للشخصيات المقربة من النظام، ولعدد من أقرباء رأس النظام، وتحديدًا والدته أنيسة التي توفيت في الإمارات عام 2016، وشقيقته بشرى مع أبنائها.
كما أصبحت وجهة مفضلة لرجال الأعمال وأصحاب رؤوس الأموال المقرّبين من النظام للهروب من العقوبات الاقتصادية الغربية، وتوفير حرية لهم للقيام بالنشاطات الاقتصادية المختلفة، على رأسهم ابن خالة رأس النظام رامي مخلوف وعدد من رجال الأعمال وأمراء الحرب مثل سمير الفوز.
تسعى الإمارات إلى الحصول على عقود الاستثمار في عملية إعادة الإعمار التي يسوّق لها نظام الأسد، وبما يقدم له تنفّسًا اقتصاديًّا عبر بوابة التطبيع مع النظام، لا سيما في قطاعات العقارات والمواصلات والعمليات التجارية في البحر المتوسط، فقد أبرمت سلسلة من الاتفاقيات والتفاهمات مع النظام عبر مؤسساتها الرسمية الحكومية أو من خلال شركاتها، حيث وقّعت مجموعة شركات إماراتية مع وزارة الكهرباء التابعة للنظام عام 2021 اتفاقية تعاون، لإنشاء محطة توليد كهروضوئية في منطقة وديان الربيع بالقرب من محطة توليد تشرين في ريف دمشق، بعد زيارة لوزير الخارجية الإماراتي على رأس وفد دبلوماسي إلى دمشق واستقباله من قبل رأس النظام.
ترغب الإمارات بالاستحواذ على مشاريع متوسطة وبعيدة المدى، تتعلق أيضًا بقطاعات الطاقة والمياه والبنية التحتية والنقل البحري عبر الموانئ السورية وعمليات التمويل.
كما أعلنت وسائل إعلام نظام الأسد عقب عودة النظام إلى الجامعة العربية، عن أول مشروع سياحي خدمي مشترك بين الإمارات والنظام تحت مسمّى Tomorrowland، في منطقة الليرمون، أشهر المناطق الصناعية في مدينة حلب.
سبق ذلك في عام 2021 إصدار وزارة الاقتصاد والتجارة الخارجية في حكومة النظام قرارًا بتشكيل مجلس الأعمال السوري الإماراتي، لتطوير التعاون الاقتصادي بين الطرفَين في مجالات السياحة والصناعة والزراعة والتجارة والاستثمار، وإتاحة المجال للشركات الإماراتية لإعادة إعمار سوريا، بحسب وكالة الأنباء التابعة للنظام “سانا”.
ترغب الإمارات بالاستحواذ على مشاريع متوسطة وبعيدة المدى، تتعلق أيضًا بقطاعات الطاقة والمياه والبنية التحتية والنقل البحري عبر الموانئ السورية وعمليات التمويل، وقد أبدى وزير الطاقة والبنية التحتية الإماراتي سهيل المزروعي، في اجتماع مع وزير الموارد المائية في حكومة النظام في المركز التجاري في دبي عام 2021، رغبة الإمارات بالعمل في قطاع المياه وتقديم الدعم في المشاريع الاستثمارية في سوريا، مؤكدًا “استعداد الإمارات للمساهمة في إعادة الإعمار”.
وضع هذا التنسيق والتعاون المبكر بين الطرفَين الإمارات تحت العقوبات الأمريكية في وقت مبكر، ففي عام 2014 أدرجت وزارة الخزانة الأمريكية شركة النفط الإماراتية بانغيتس العالمية ضمن القائمة السوداء للكيانات الخاضعة للعقوبات، بعد خرقها العقوبات المفروضة على النظام وتزويده بوقود الطائرات.
تبع ذلك فرض وزارة الخزانة الأمريكية عقوبات متكررة على أشخاص وكيانات تعمل في الإمارات، كالعقوبات التي فرضتها عام 2019 على شركتَي إنشاء خطوط الأنابيب الدولية وسونكس للاستثمارات، بتهمة تسهيل عمليات شحن النفط بهدف تمويل نظام الأسد.
هل تنجح محاولة التطبيع في ضخّ أموال إعادة الإعمار؟
انطلقت الدول العربية المطبّعة في مسار علاقتها مع نظام الأسد من دوافع ومصالح أمنية وسياسية خاصة، تأمل أن يقدمها النظام مقابل محفزات وخطوات متقدمة للانفتاح عليه، لا سيما فيما يتعلق بتهريب المخدرات والعلاقة مع إيران، دون البحث عن حل جذري شامل للملف السوري، ومعالجة الأسباب الرئيسية للأزمة السورية وطول أمدها، وما سبّبته من تحديات أمنية وإنسانية واقتصادية لدول الجوار السوري، فضلًا عن المحيط الإقليمي والدولي الأوسع.
تقدم بعض هذه الدول بما تملكه من أموال وفرص استثمارية، وعلى رأسها السعودية والإمارات، ورقة إعادة الإعمار لإغراء نظام الأسد اللاهث وراء استجلاب أموال تمكّنه من إنقاذ اقتصاده المتهالك، مقابل تقديمه تنازلات حقيقية يجفّف بها منابع مخاوف تلك القوى، وبما يضمن لها نفوذًا سياسيًّا واقتصاديًّا في سوريا والمنطقة.
لكن من الواضح أن طريق التطبيع العربي مع نظام الأسد يمرّ بعقبات وتحديات من شأنها أن تنسف المسار بأكمله، في ظل تعنُّت النظام وعدم تقديمه أي تنازلات سياسية حقيقية، فضلًا عن عدم جدّيته في أخذ مصالح تلك الدول وحساسيتها تجاه بعض القضايا على محمل الجد، لا سيما ملف المخدرات التي يستمر تدفقها إلى عدد من الدول العربية، رغم التقدم الملحوظ في مسار التطبيع.
إذ أحبطت السعودية شحنات من المخدرات تحمل ملايين الأقراص المخدرة، وكذلك الأردن الذي استنفر قواته لمحاربة عصابات تهريب المخدرات على الحدود مع سوريا، حيث أعلن الجيش الأردني قبل أشهر قليلة إسقاط مسيّرة اُستخدمت في محاولة تهريب مادة الكريستال المخدرة من الأراضي السورية الخاضعة لقوات النظام.
فكرة تدفق أموال إعادة الإعمار مستبعدة في ظل تشديد العقوبات الغربية الاقتصادية على نظام الأسد، لا سيما مع وجود قانون قيصر.
ويبدو أن النظام يسعى إلى مبارزة الدول المطبّعة وممارسة لعبته المفضلة معها، والمتمثلة بسياسة إغراق خصومه بالتفاصيل المرهقة، في محاولة لاستجلاب أموال إعادة الإعمار بالمجان، والتي من شأنها أن تكون أداة يستخدمها النظام لتثبيت أركان حكمه، ومكافأة رجالاته وأركان نظامه، واستثمارها في إعادة بناء جيشه، كما جرت عادته في استثمار هيمنته على ملف المساعدات الإنسانية في معاقبة معارضيه، وتمويل ميليشياته، ومراكمة الثروات بيد فئة قليلة من المقربين منه.
قد يكون الدليل الأبرز على تلك السياسة أنه عقب أشهر قليلة من عودته إلى الجامعة العربية وإعادة العلاقات معه، هاجم رأس النظام الدول العربية في مقابلته الأخيرة مع قناة “سكاي نيوز عربية”، حيث وصف العلاقات العربية بأنها شكلية تقتصر على البيانات والخطابات، وأن الجامعة العربية لم تتحوّل إلى مؤسسة بالمعنى الحقيقي، محمّلًا الدول العربية مسؤولية ما آلت إليه الأوضاع في سوريا.
يعني هذا عدم جدوى ضخّ أموال إعادة الإعمار، والبدء بمشاريع ضخمة في إرساء الاستقرار، وبلورة حل سياسي نهائي، بل من شأن هذه الخطوة تكريس حالة فقدان الدولة في سوريا مع ما يرافقها من فوضى أمنية، لا سيما في المناطق الخاضعة لسيطرة النظام، نتيجة الحالة الميليشياوية المنتشرة، إلى جانب ما نشهده من هشاشة سيطرته على المناطق التي يفترض أنها تقبع تحت نفوذه، مع تصاعد وتيرة الاحتجاجات المناهضة له في السويداء ودرعا.
وعليه، إن فكرة تدفق أموال إعادة الإعمار مستبعدة في ظل تشديد العقوبات الغربية الاقتصادية على نظام الأسد، لا سيما مع وجود قانون قيصر وإقرار الولايات المتحدة عقوبات جديدة، وأبرزها مشروع قانون لمكافحة التطبيع مع النظام وصعوبة الدول العربية الالتفاف عليه، مع تعنُّت النظام ورفضه تقديم تنازلات سياسية تخفّف من وطأة هذه العقوبات.
يعني ذلك بقاء مسار التطبيع العربي مع نظام الأسد ضمن دائرة التواصل الأمني، مع تقديم الدول المطبّعة أموالًا ومساعدات اقتصادية تحت سقف المساعدات الإنسانية والتعافي المبكر، دون الذهاب إلى التطبيع السياسي والاقتصادي الشامل، الذي من شأنه أن يغدق أموال إعادة الإعمار على النظام.