لم يلبث البرلمان التركي أن انتهى من التصويت على مواد التعديلات الدستورية البالغة 18، حتى قام الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بالتوقيع عليها في 10 من فبراير المنصرم، لعرضها على الاستفتاء الشعبي المُزمع إجراؤه في 16 من أبريل المُقبل.
عارضت بعض الأحزاب التركية التعديلات الدستورية وحاولت إجهاض خروجها من البرلمان للاستفتاء الشعبي، إلا أنها لم تُفلح في تحقيق ذلك، وحصلت التعديلات الدستورية على 339 صوتًا برلمانيًا بعدما كانت بحاجة لـ330 صوتًا يمكنها من الانتقال إلى الاستفتاء الشعبي.
وتعود رغبة الحزب التركي الحاكم “حزب العدالة والتنمية” في تغيير الدستور إلى تاريخ 1 من نوفمبر 2015، حيث الانتخابات البرلمانية التي أفرزت له 49.48% من المجموع العام لمقاعد البرلمان، إلا أن “الخلاف” الذي برز بين زعيم حزب العدالة والتنمية أحمد داوود أوغلو ورجب طيب أردوغان، والذي أفصحت عنه ثلة كبيرة من الخبراء والمقربين لعملية اتخاذ القرار، والذي تمحور حول تصوّر داوود أوغلو أن هبوط أصوات حزب العدالة والتنمية في انتخابات 7 من يونيو 2015، يدل على عدم رغبة الشعب في تغيير شكل النظام، وإذا كان هناك حاجة ماسة لتغيير النظام فيجب أن يكون ذلك النظام مرتكزًا على شكل النظام الرئاسي المتوازن الذي يتقاسم الرئيس من خلال الصلاحيات مع البرلمان، وفُسر ذلك على أنه السبب الرئيس وراء اضطرار داوود أوغلو لتقديم استقالته في مايو 2016.
وفي ضوء التأهب لما يوصف “بالتحول التاريخي” الذي إن تحقق سيقلب نظام الحكم البرلماني الذي طُبق في تركيا لأكثر من 90 عامًا، تُبدي الأحزاب التركية الرئيسية مواقفها من التعديلات الدستورية من وجهات نظر مختلفة.
حزب العدالة والتنمية
حزب العدالة والتنمية هو صاحب فكرة التعديلات الدستورية وتغيير شكل نظام الحكم، ويرى الحزب أن تغيير نظام الحكم من نظامٍ برلماني إلى نظامٍ رئاسي ضرورةً حتميةً لتجنب أزمات اتخاذ القرارات، تلك الأزمات التي ظهرت، وفقًا لرؤيته، خلال التسعين عامًا من عمر الجمهورية التركية، فكثيرًا ما اختلفت المؤسستين البرلمانية والرئاسية في عملية اتخاذ القرار، وكثيرًا ما عجزت الأحزاب السياسية البرلمانية عن تشكيل حكومات توافقية قوية تخدم المصالح السياسية والاقتصادية لتركيا بشكلٍ إيجابي، بل أخفقت عن ذلك وهو ما تسبب باختناق تركيا بملامح التخلف السياسي والاقتصادي والاجتماعي.
حزب العدالة والتنمية هو صاحب فكرة التعديلات الدستورية وتغيير شكل نظام الحكم
وفي لقائه مع موقع قناة دويشته فيله باللغة التركية، صرح نائب حزب العدالة والتنمية عن مدينة أنقرة أحمد إيي مايا بأن النظام الرئاسي مهم للقضاء على الوصاية العسكرية بشكل كامل، مبينًا أن هذه الوصاية حرمت الشعب التركي من التعبير بشكل حقيقي عن آرائه السياسة، ونشرت الفوضى السياسية بالانقلابات المتتالية، وشكلت عنصر رعب لدى الحكومات المدنية المتتالية التي عجزت عن إجراء أي تغيير إيجابي حقيقي فيما يتعلق بالقضايا السياسية الاستراتيجية لتركيا.
وللقضاء بشكلٍ نهائي على الوصاية العسكرية، أوضح إيي مايا أن اختيار الشعب للرئيس الذي سيصبح رأس السلطة الأول في الدولة سيضمن لتركيا التخلص من محاولات التدخل أو الانقلاب العسكري، فالرئيس المنتخب سيكون هو القائد الأعلى والحقيقي للقوات العسكرية، مضيفًا أن النظام الرئاسي يكفل حل الأزمات بشكل سريع وهذا هو العامل الرئيس وراء اختيار حزب العدالة والتنمية للنظام الرئاسي.
ويمكن رصد الأسباب التي تقف وراء مسعى حزب العدالة والتنمية لتغيير نظام الحكم، بالاطلاع على وسائل الإعلام التركية المقربة إليه، وربما تكون جريدة صباح هي الأقرب، حيث سردت الجريدة بواعث الحزب الحاكم في الاتجاه نحو تغيير شكل نظام الحكم في تقريرها “مواد تكشف أسباب ضرورة وجود النظام الرئاسي”، وحسب الجريدة التي نشرت التقرير في عددها الصادر بتاريخ 1 من فبراير 2016، فأسباب توجه حزب العدالة والتنمية للنظام الرئاسي هي:
ـ عامل تاريخي ثقافي يتجلى من خلال “العرف الأناضولي” الذي اعتاد على النظام الرئاسي منذ إقرار “القانون الأساسي” عام 1876 على يد السلطان عبد الحميد الثاني.
ـ ضعف آلية عمل النظام البرلماني، إذ يتصرف النواب وفقًا لإملاءات حزبهم الذي يسعى لرسم سياسته وفقًا لأجنداته “الحزبية” وليس وفقًا لرؤية النائب الآخذة بعين الاعتبار مصلحة المواطن، ولكن مع النظام الرئاسي سيصبح النائب أكثر حريةً، وسينصب تركيزه على المواد القانونية المناقشة لمصالح المواطن في المقام الأول.
ـ افتقار النظام البرلماني لوجود آلية مراقبة حقيقية لعمل الحكومة وأجهزة الدولة بشكل متناسق.
ـ تعزيز مبدأ فصل السلطات الذي يخدم المصلحة العامة، بحيث يصبح مهام البرلمان تشريعية وليست تشريعية وتنفيذية معًا، وذلك ما يعزز كفاءة عمل مؤسسات الدولة في حين تحقق ذلك المبدأ.
ـ منح الشعب فرصة حل الأزمات من خلال الاتجاه إليه في حين نشبت أزمة بين المؤسستين الرئاسية والبرلمانية، وعجز الطرفين عن حلها، لكن تبدو هذه النقطة ضعيفة، فالانتخابات ستجري في ذات اليوم، ويبدو من الصعب على الشعب تحكيم “عقله الجمعي” نحو اختيار حزب مخالف لرؤية الرئيس الذي يكون قائد لأحد الأحزب، لتحقيق نوع من التوازن، مما يعني أن الشعب سيصوت على الأرجح لشخص الرئيس وحزبه، الأمر الذي يضعف إمكانية تحول هذه النقطة إلى واقع.
ـ اختيار الوزراء من الخارج وليس من البرلمان، الأمر الذي يفسح فرص اختيار الأمثل والأكثر كفاءة.
حزب الحركة القومية
منذ طرح مشروع التعديلات وحزب الحركة القومية يكتسي ثوب الدعم له، فلولا دعمه للمشروع لما تمكن حزب العدالة والتنمية من تمرير التعديلات عبر البرلمان وتحويلها للاستفتاء الشعبي، فعدد نواب حزب العدالة والتنمية داخل البرلمان يبلغ 317، باستثناء صوت رئيس البرلمان يصبح العدد 316، ويمكن تعديل مواد الدستور أو تغييرها بشكل مباشر، دون الاستفتاء الشعبي، بالحصول على 367 صوتًا برلمانيًا، أو بشكل من غير مباشر، عبر تحويله إلى الإرادة الشعبية، ولتحويله للإرادة الشعبية يتوجب على التعديل كسب 330 صوتًا برلمانيًا طبقًا لما ينص عليه الدستور التركي، وانطلاقًا من ذلك الطرح، يمكن تأكيد أن دعم الحركة القومية مثل العنصر الأساسي لتمرير حزب العدالة والتنمية التعديلات الدستورية عبر البرلمان.
حزب الحركة القومية يكتسي ثوب الدعم له، فلولا دعمه للمشروع لما تمكن حزب العدالة والتنمية من تمرير التعديلات عبر البرلمان وتحويلها للاستفتاء الشعبي
ويبرر أمين السر العام للحزب عصمت بيوك أتامان دعمه للتعديلات الدستورية من خلال الإشارة إلى أن الأزمات السياسية والعسكرية والاقتصادية التي مرت بها تركيا خلال السنوات الطويلة، شددت على ضرورة تغيير النظام الموجود، وتأسيس نظام يحتوي على آليات مراقبة صارمة تنفصل فيها السلطات، وتحصل على صلاحيات أوسع لكبح تجاوز أي منها، متممًا أن محاولة الانقلاب الفاشلة التي حدثت في 15 من يوليو، جاءت نتيجة عدم وجود آلية رقابة مشددة على تحركات الجيش ومؤسسات الدولة، لكن بالتعديلات الدستورية الجديدة ستصبح مؤسسة الرئاسة التي ستضم مؤسسات عضوية ومترابطة، على متابعة أوسع وأشد لمؤسسات الدولة لا سيما المؤسسة العسكرية التي ستغدو متصلة بشكل مباشر بمؤسسة الرئاسة.
وخلال لقائه مع موقع قناة دويتشه فيله باللغة التركية، شدد بيوك أتامان على ضرورة قبول التعديلات الدستورية على أنها فرصة لتسريع حل الأزمات في تركيا، وليس جسرًا لمنح أردوغان المزيد من الصلاحيات التي تؤهله لتأسيس نظام الفرد أو الحزب الواحد حسب ما تدعي بعض أحزاب المعارضة ووسائل الإعلام الغربية.
حزب الشعب الجمهوري
أما حزب الشعب الجمهوري فيظهر على أنه الأكثر اعتراضًا على التعديلات الدستورية، ويركن في اعتراضه إلى أن التعديلات تقضي على مبدأ فصل السلطات، فيدعي أن تلك التعديلات ستجعل جميع أدوات السلطة في يد شخص أو حزب واحد.
حزب الشعب الجمهوري يظهر على أنه الأكثر اعتراضًا على التعديلات الدستورية
“السبب الرئيسي وراء اعتراضنا الشديد هو عدم احترام التعديلات لمبدأ فصل السلطات”؛ هكذا برر رئيس الكتلة البرلمانية لحزب الشعب الجمهوري إنجين ألتاي، في تصريحه الصحفي أمام وسائل الإعلام، مشيرًا إلى أن التعديلات تُنهي وجود وأهمية البرلمان الذي يجمع تحت سقفه جميع أبناء الشعب، فالبرلمان التركي يقوم بثلاث مهمات أساسية هي إصدار القوانين وإقرار الميزانية ومراقبة عمل مؤسسات الدولة، إلا أن التعديلات الدستورية ترفد رئيس الجمهورية بإصدار القرارات وإعلان حالة الطوارئ وتعيين الوزراء الذين سيكون بمثابة الحكومة، دون الرجوع إلى البرلمان.
وأردف مبينًا أن إلغاء وظائف البرلمان، ومنحه مهمة إصدار بعض القوانين فقط يعني إلغاء التمثيل الحقيقي للإرادة الشعبية التي تتجلى من خلال البرلمان، متممًا أن تحويل البرلمان إلى مؤسسة رمزية أمرًا يتنافى مع القيم الديمقراطية.
حزب الشعوب الديمقراطي
يعاني حزب الشعوب الديمقراطي اليوم من حالة تفكك شبه حقيقية، فأحد رؤسائه صلاح الدين دامير طاش حُكم عليه بالسجن لمدة 5 شهور بينما مضى على اعتقاله أكثر من 3 شهور، ورئيسه الآخر فيغان يوكسك داغ أُسقطت عضويتها، وإلى جانب الرئيسين الموازيين، هناك 8 نواب قيد الاعتقال والتحقيق بتهمة التعاون مع منظمات إرهابية.
ما زال حزب الشعوب الديمقراطي يتمسك بشعاره، ويدعو الشعب إلى عدم التصويت بـ”نعم” لصالح التعديلات الدستورية التي تهدف في المقام الأول تغيير شكل نظام الحكم
أسس حزب الشعوب الديمقراطي حملته الانتخابية في انتخابات 7 من يونيو 2015، تحت شعار “لن نجعلك رئيسًا”، وقد حقق له هذا الشعار نصيبًا جيدًا من عدد المقاعد، حيث فاز بـ 444 مقعد، ولكن انهيار عملية السلام في يوليو 2015، ومن ثم إجراء انتخابات مبكرة في نوفمبر من ذات العام، لعدم قدرة حزب العدالة والتنمية على تأسيس حكومة ائتلافية، أثرت سلبًا في أصواته التي انخفضت إلى نسبة ومكنته من الحصول على 555 مقعدًا فقط.
على الرغم من خسارته في الانتخابات البرلمانية الأخيرة، ما زال حزب الشعوب الديمقراطي يتمسك بشعاره، ويدعو الشعب إلى عدم التصويت بـ”نعم” لصالح التعديلات الدستورية التي تهدف في المقام الأول تغيير شكل نظام الحكم.
وصرحت ميرال دانيش بأن التعديلات الدستورية لم تتم من خلال طلب الشعب، موضحةً أن النظام الجديد ينفي أي دور تأثيري للأقليات، وعلى رأسها الأقلية الكردية، في تركيا، مما يعزز نفي الحقوق السياسية والاقتصادية والاجتماعية لها.
وفي ظل التضارب الإعلامي بين الأحزاب السياسية التركية، تبقى الكلمة الأخيرة للصندوق الذي سيتوجه إليه الشعب في 16 من أبريل 2017.