هل يفلح التونسيون في الخروج من البورقيبية؟ هذه ليست أمنية حرضتها الثورة السلمية فقط بل أفق سياسي ممكن لكنه ليس بالسهولة التي يتمناه فيها أنصار التغيير السياسي السلمي في تونس، فالمنظومة القديمة وهي المنظومة البورقيبية نفسها التي قاوموها لمدة ستين سنة وإن غيرت أسماءها بعد الثورة لا تزال تدافع عن نفسها الآن وهنا بشراسة وقد تبين أنها من الاقتدار والحيلة بحيث تسرب الرمل من تحت أنصار التغيير وتلزمهم بقبولها بكل عاهاتها المكشوفة دافعة احتمالات التغيير إلى العنف والاحتراب الأهلي.
لقد تناولت في مقالات ثلاث سابقة أهم مرتكزات هذه المنظومة وعناصر الأسطورة التي أقامت عليها دولتها وهما تفوق المدرسة التونسية وخاصة على الصعيد العربي وأسطورة تحرير المرأة التونسية والوصول بها إلى مكانة متميزة عن نظيرتها العربية ونسبة ذلك إلى الزعيم بورقيبية أولاً وإلى عبقرية تلاميذه (ومن تلاميذه المخلوع)، وقد ركزت خصيصًا على المقارنة بين التونسي والعربي لأن مجال المبارزة الذي لم تفتأ أدوات الدعاية تردده منذ نشأة الدولة هو إثبات التميز التونسي على الحالة العربية المغرقة بعد في التخلف والجهل.
دستور 2014.. فاتحة نظام سياسي جديد
لدينا تحفظات كثيرة على طريقة التحالف السياسي الثلاثي الذي قاد مرحلة ما بعد انتخابات 2011 والمعروف باسم الترويكا وهو تحالف سياسي مؤلف أساسًا من حزب النهضة الإسلامي وحزب المؤتمر من أجل الجمهورية الذي أسسه وقاده الدكتور المنصف المرزوقي وحزب التكتل من أجل العمل والحريات الذي يقوده الدكتور مصطفي بن جعفر.
تحفظات ترفض خاصة الميوعة الكبيرة التي عالجت بها مطالب الثورة الأساسية والتي كانت سببًا في فقدانها لمواقعها القيادية لصالح المنظومة القديمة، ولدينا تحفظات أكبر على المعارضة التونسية التي قادت العمل السياسي ضد الترويكا وأسقطتها، فقد كانت تحالفًا غريبًا بين اليسار المتشدد الذي تقوده الجبهة الشعبية بواسطة النقابة وحزب النداء الذي كان عملية رسكلة (تجميع وإعادة استعمال مكونات حزب التجمع واليسار الثقافي الفرانكفوني).
كل هذه التحفظات لا تمنع من القول إن الترويكا أنقذت المرحلة بالوصول إلى دستور جديد يؤسس لنظام سياسي جديد يقوم أساسًا على كسر مركزية الحكم ويعمل على تفكيك آليات التحكم الفوقي التي بنى عليها بورقيبة دولته وسار على إثره نظام بن علي ويحاول الرئيس الحالي استعادته بلا أي قدرة حقيقة على استنساخ بورقيبة الشخص والفكر والأسلوب، مدار المعركة إذًا هو تفكيك المركزية، لذلك نعود في فقرة أخيرة إلى كشف دور الحكم المركزي ثم نعرض إلى بديله المحتمل وآفاق التغيير السياسي القادم للخروج الفعلي من البورقيبية بصفتها حالة سياسية مستنفدة.
المركزية أو البورقيبية المستنفذة
لم يكن ما عرضنا له سابقًا من أساطير وإيهامات إلا أدوات دعاية لنظام قائم على فكرة الشخص الواحد وأسلوبه ورغباته الفردية وقد وظف كل إمكانيات الدولة لصناعة زعامته (كاريزمته) وكان يستسهل الكذب عبر المبالغة في المنجز في التعليم والحرية الاجتماعية، ولكن أبعد من صناعة الذات المتفوقة أدى الأسلوب المشخصن إلى قتل كامل للمبادرة الشعبية وكبّل نظام العمل الإداري جاعلاً منه آلة في حالة انتظار للأوامر عاجزة عن التفكير والخلق والابتكار (هنا يمكن القياس فعلاً على كل الحالة العربية ففي هذه النقطة لا نجد أي اختلاف حقيقي بين كل الأنظمة العربية التي حكمت بعد الاستقلال السياسي عن الاستعمار المباشر).
ولأن هذه الأساليب تقتضي الطاعة الكاملة والولاء المطلق فقد تحول كل مسؤول في موقعه إلى كائن طيع وغبي يخشى أن يفكر وأن يقترح ثم تسرب عبر الخوف والطمع كل نهاز فرص ليأخذ المكان المتقدم في الطاعة المنتجة للغنيمة، فالدولة كانت تدار على أساس الولاء لا على أساس الكفاءة، وكان هذا سببًا رئيسيًا في انهيارها أمام زحف الشباب المقصى من دائرة الفعل والفائدة، وكانت فرصة لاكتشاف زيف الأساطير التي روجها النظام البورقيبي بمرحلتيه عن نفسه وعن كفاءاته المنقطعة النظير.
كان نظام بورقيبة وخاصة في سنواته الأخيرة (الثمانينيات) ثم نظام بن علي الذي عاش ربع قرن نظامًا عاطلاً عن الخلق ويعيش على ردة الفعل
لقد كان نظام بورقيبة وخاصة في سنواته الأخيرة (الثمانينيات) ثم نظام بن علي الذي عاش ربع قرن نظامًا عاطلاً عن الخلق ويعيش على ردة الفعل، وكان لنظام الحزب الواحد الدور الأساسي وبنفس المفردات الدعائية في تكريس مركزية الحكم ومركزية الطاعة العمياء وتفشي سلوك الانتهازية السياسية فلم يكن الحزب إلا أداة مراقبة ومتابعة وتخويف وترهيب للناس الذين لم يرتقوا أبدًا إلى درجة مواطنين.
وكان من آثار ذلك أن العاصمة (المركز) هي مصدر كل الفعل الثقافي والسياسي، فالثقافة في العاصمة والإدارة في العاصمة والمعرفة والثقافة في العاصمة بينما تذوي بقية المناطق في صمت وانتظار ممل، وداخل هذا النظام كان لبعض الجهات حظوظ أوفر من غيرها، فالزعيم كرّس أفضلية جهته الساحل التونسي فمنها يختار مسؤوليه ومنها يوزع أعطياته وهو ما خلق ضغائن كثيرة بحق وبباطل بين المناطق وقد كتب كثير في هذا وكان التونسيون يرددون دومًا أن تونس كانت مقسمة بين منطقة إنتاج الوزراء ومناطق إنتاج العمالة الرخيصة وخادمات المنازل وكان الويل والثبور في انتظار كل نقد يوجه إلى نظام التحكم المركزي بخلفيته الجهوية.
في أثناء ذلك لم تطرح معارضة نظام بورقيبة بكل أطيافها (قبل الثورة خاصة) أية أفكار عبقرية لتجاوز المركزية وكان كل همها منصب على توفير شروط عمل سياسي ديمقراطي في الحد الأدنى تحت نظام مركزي وهو ما ربى عندها رغبة في استنساخ النظام وإعادة إنتاجه بأشخاص آخرين لم يكونوا في حقيقة الأمر إلا نسخ من بورقيبة فهو أمثولتهم المشتهاة أو طموحهم المشخصن، لكن الثورة قالت كلمتها ووضعت على الطاولة مطلب كسر المركزية وإعادة التأسيس على أسس اللامركزية، وهو ما تم حتى الآن بنص الدستور، غير أن المرور إلى الإنجاز والتنفيذ يعاني معاركه الأخيرة ضد المنظومة البورقيبية الشرسة.
الباب السابع من الدستور باب التجاوز والتأسيس
يغطي الباب السابع المتعلق بالحكم المحلي الفصول من 131 إلى 142 من الدستور ويؤسس لنظام إدارة جديد ومختلف يكرّس حكم المناطق (الأقاليم) لنفسها بنفسها دون تفكيك بنيان الدولة، وقد صدر القانون الانتخابي الجديد وقانون تكريس استقلالية الجهات بهذا المعنى منذ أيام قليلة، وستبدأ معركة شرسة لتنفيذ ذلك وستفتح معارك الجهويات والقبيلة لكن ستفتح أيضًا معركة إنهاء سيطرة العاصمة القاهرة والزعيم الأوحد والحزب الوحيد على الدولة وقد نشهد فعلاً نهاية البورقيبية في المدى المنظور لتكون للتونسيين دولة جديدة لا تحتاج إلى ترويج أكاذيب التميز والاختلاف وإنما تكرس فعلاً تميزًا في الإدارة يقتدى به عربيًا، فالسبق التونسي الحقيقي جاء به دستور 2014 وليس دستور 1959 ونظام بورقيبة المشخصن.
يقوم الحكم اللامركزي كما أسس له الدستور التونسي الجديد على مبدأ انتخاب المسؤول المحلي ومنح الجماعات المحلية الاستقلالية المالية والتصرف في موازناتها المحلية دون انتظار الموازنة العامة، وهو ما سيتسع بالضرورة إلى جعل المؤسسات المحلية في مختلف المجالات تحت تصرف الأهالي حيث يتم انتخاب كل المسؤولين المحلين أو في أقل الاحتمالات ديمقراطية تعيينهم من أبناء المنطقة بحيث يوضع حد للتعيين الفوقي المركزي الذي كان يقوم على استزلام المسؤول المحلي وربط يديه بقرار فوقي لا يكون أمامه إلا تنفيذه دون نقاش.
إن جعل المسؤول المحلي تحت رقابة قاعدته الناخبة يكرس مبدأ المراقبة الشعبية اللصيقة ويجعل الاختيار مرتبطًا دومًا بالكفاءة لا بالولاء
إن جعل المسؤول المحلي تحت رقابة قاعدته الناخبة يكرس مبدأ المراقبة الشعبية اللصيقة ويجعل الاختيار مرتبطًا دومًا بالكفاءة لا بالولاء، طبعًا يوجد هنا صراع حزبي قوي جدًا قد يحرض القبلية القديمة لكنه سيكون بدوره عامل تنافس على خدمة الناس في مناطقهم على خدمة المسؤول المركزي الذي لن يكون له نفوذ على مسؤول منتخب محليًا.
غني عن القول هنا إن صلاحيات الدفاع والأمن العام والدبلوماسية ستظل مهام مركزية موكلة بنص الدستور للرئيس وهي مسائل لا يمكن التأثير فيها محليًا ولا يجب، لكن تدبير الأحوال اليومية في الاقتصاد المحلي والثقافة والبنية التحية ستكون بيد الأهالي، إنه مجتمع أهلي يولد بنص الدستور وسيكون إقراره بداية دولة جديدة تقوم على أنقاض البورقيبية.
لكن الميلاد بالنص يأتي لاحقًا لميلاد حقيقي تم في الواقع ويجري ترسيخه الآن برغم المقاومة التي تبديها المنظومة المنهارة، نميل إلى الاعتقاد أن الناس لن يحتاجوا في صراعاتهم الجديدة لتكريس أهليتهم للمواطنة إلى اختراع أكاذيب تفوق وأن إدارتهم لشؤونهم ستغنيهم أولاً عن الإنصات إلى كذب الإذاعة الرسمية التي لا هم لها إلا ترويج تفوق الزعيم والرئيس.
لقد بدأ الإعلام الجهوي حتى الآن في تكريس حقيقة مغايرة تقوم على خطاب واقعي (تونس ليست بخير ويجب أن تعتمد على نفسها) ويوجد هنا تنافس مثمر (انتهت الأخبار الوردية عن تقدم التنمية في الجهات الداخلية وفلاح الزعيم في خلق شعب من العدم) لقد تكرست حرية نقد الواقع وإحدى شعبه الآن هي مراجعة أكاذيب تأسست عليها الدولة التونسية، المدرسة التونسية فاشلة والمرأة التونسية ليست حرة.
يملك الناس الآن حقائق جديدة عن حجم البطالة وعن حجم الاستخدام المذل للمرأة وللأطفال في الزارعة وفي البناء وعن الانقطاع عن الدراسة وعن نسب الأمية والتخلف المعرفي ولن يكون ممكنًا أن يواصل سياسي مهما كانت مصادره إغراقهم في الخطاب الوردي
لم يعد الناس يقبلون صيغة واحدة للخبر عن أحوالهم وهم يتكلمون بما يفيدهم حيث هم لا بما يفيد الزعيم أو الرئيس حيث هو، يملك الناس الآن حقائق جديدة عن حجم البطالة وعن حجم الاستخدام المذل للمرأة وللأطفال في الزارعة وفي البناء وعن الانقطاع عن الدراسة وعن نسب الأمية والتخلف المعرفي ولن يكون ممكنًا أن يواصل سياسي مهما كانت مصادره إغراقهم في الخطاب الوردي عن التقدم والتفوق التونسي على العرب الجهلة.
هل هذا خطاب متفائل؟ نعم إنه كذلك وهو من ثمرات ثورة تعاني لتفرض بدائلها وكثير من بدائلها التفاؤل، وقد كان من أول ثمراتها إنهاء أسطورة الزعيم نصف الإله لقد سقط الزعيم ويجري الآن خلق بديله المسؤول المنتخب من ثورة تجعل الشعب بديلاً للزعيم والوقت لصالح الماسكين بتراب الأرض بديلاً عن أوهام التفوق الأخرق.