هي رياضةٌ ليست ككلّ الرياضات، فممارستها لا تتطلّب أيّ مجهودٍ بدنيٍّ يُذكر، بل هي قائمةٌ على إعمال العقل البشريّ في رياضةٍ ذهنيّة خالصة، يكسب فيها من يفوق خصمه في حسن التدبير وابتكار الحيل، وهي من ناحيةٍ أخرى لعبةٌ استراتيجيّةٌ قوامها التخطيط ورسم التكتيكات، بهدف قيادة جيشك الافتراضي للنصر في حربه على الرقعة المربّعة، تلك الحرب الهادئة التي لا دماء فيها ولا ضحايا، والتي استهوت الملوك والأمراء، وألهمت القادة والمفكّرين والعباقرة، سنطّلع فيما يلي على نشأتها وقواعدها وأبطالها، ونتعرّف كيف تبوأت تلك المنزلة الرفيعة في بلاط الملوك والأمراء، ولا سيّما العرب منهم، قبل أن نعدّد الأسباب التي جعلت معظم الأطباء النفسيين وخبراء التنمية البشريّة ينصحون بممارستها لجميع الأعمار.
رسمٌ تخيّليٌّ لملكٍ هنديٍّ يلعب الشاترونجا
تعدّدت النظريّات في نشأة الشطرنج، فمنهم من قال بأنّها تعود إلى 1400 عام قبل الميلاد، حيث عرفها ومارسها الفراعنة، ومنهم من يعود بتاريخها إلى 3000 عام قبل الميلاد، وينسبها إلى حضارات بلاد ما بين النهرين، كما ينسبها الصينيّون والإغريق والفرس إليهم.
للشطرنج دورٌ كبيرٌ في حماية الذاكرة والحفاظ على مرونتها، من خلال تنشيط العمليات العقليّة في دماغ ممارسيها، ممّا يقيهم شرّ الإصابة بأمراض الخرف والزهايمر عند الكب
ولكنّ أصح المراجع ومعظمها تشير إلى أنّ مولدها الحقيقيّ كان في القرن الميلاديّ السادس، على يد أحد الفلاسفة الهنود ويُدعى “شانو نانا في”، حيث ابتكرها بغرض تسلية الملك وحاشيته، بناءً على توصية وزير الدولة آنذاك، وكانت تتضمّن رقعةً عليها مجموعة قطعٍ منحوتةٍ من الخشب، تمثّل 4 جيوشٍ يقود كلٌّ منها ملك، ومن هنا جاءت تسميتها “شاتورانجا” أي جيوش الملك “الراجا” ال4، وقد لاقت تلك الفكرة استحسانًا كبيرًا لدى الملك الهنديّ آنذاك، خاصّة وأنّ قوام جيوش اللعبة، يشبه إلى حدٍّ كبيرٍ قوام جيشه الحقيقيّ آنذاك، من ناحية وجود فرسانٍ وفيلةٍ وعرباتٍ وعددٍ كبيرٍ من الجنود المشاة، ولكنّ ما لم يعجبه في اللعبة آنذاك، كان وجود النرد الذي يعطي للحظّ دورًا كبيرًا فيها، فأمر بحظره نهائيًّا، لتصبح لعبة الشطرنج منذ ذلك الحين، قائمةً على ذكاء الفرد المحض دون أيٍّ دورٍ للحظّ فيها.
مجموعةٌ من أحجار الشطرنج الذي أهداه الخليفة هارون الرشيد لملك الفرنجة شارلمان معروضةٌ في متحفٍ بفرنسا
ومن الهند شقت لعبة الشطرنج طريقها نحو بلاد فارس، التي يحكمها الأكاسرة المولعون بالتكتيكات العسكريّة، والذين وجدوا في تلك اللعبة الاستراتيجيّة ضالتّهم، فعكفوا على ممارستها وتطويرها، لتصبح المباراة بين جيشين بدلًا من 4 بعدما تمّ دمج كلٍّ جيشين معًا، وعن الفرس أخذ العرب لعبة الشطرنج، حيث حظيت باهتمامٍ من قبل بعض خلفاء بني أميّة، كهشام بن عبد الملك، قبل أن يزداد الاهتمام بها إبّان الخلافة العبّاسيّة، فتحتلّ مكانةً رفيعةً لدى هارون الرشيد وابنه المأمون، الذي كان بلاطه يعجّ بكبار محترفي الشطرنج من علماء وأدباء، أشهرهم أبو بكر الصولي وأبو الحافظ الشطرنجي.
لم يقف انتشار الشطرنج عند حدود دولة الخلافة الإسلاميّة، بل تجاوزه ليصل إلى أوروبّا الغربيّة عبر الأندلس، وإلى أوروبّا الشرقيّة عبر احتكاك الجيوش الإسلاميّة بالحملات الصلبيّة، حيث طارت شهرة اللعبة التي كان القائد الإسلاميّ الشهير صلاح الدّين الأيوبيّ من كبار هواتها
كما تنافس عددٌ من كبار كتّاب وشعراء ذلك العصر في وصف لعبة الشطرنج وتحليلها، فألّف الأديب أحمد بن يحيى التلمسانيّ كتابًا بعنوان “منطق الطّير”، قام فيه باستعراض عددٍ من مسائلها وألغازها، كما ورد ذكرها ضمن مؤلّفات عددٍ من كبار الأدباء والمؤرّخين كالجاحظ والكندي والثعالبي واليعقوبي وأبي حيّان التوحيدي وغيرهم، ومارسها وكتب عنها عددٌ من كبار الشعراء، كأبي العلاء المعرّي الذي كان يلعب الشطرنج رغم أنّه ضرير، وصفيّ الدّين الحلي الذي أشار إليها ضمن رائعته الشهيرة “سل الرماح العوالي”، والشاعر العبّاسيّ عليّ بن الجهم الذي قال في إحدى قصائده يصف لعبة الشطرنج:
أرضٌ مربّعةٌ حمراء من أدمِ — ما بين إلفين معروفين بالكرمِ
تذاكرا الحرب فاحتالا لها فطنًا — من غير أن يأثما فيها بسفك دمِ
هذا يُغيرُ على هذا وذاك على — هذا وعين حليف الحزمِ لم تنمِ
فانظر إلى بُهُمٍ جاشت بمعركةٍ — في عسكرين بلا طبلٍ ولا علمِ
أسطورتا الشطرنج الروسيّان أناتولي كاربوف وغاري كاسباروف خلال مباراتهما ببطولة العالم عام 2001
ولم يقف انتشار الشطرنج عند حدود دولة الخلافة الإسلاميّة، بل تجاوزه ليصل إلى أوروبّا الغربيّة عبر الأندلس، وإلى أوروبّا الشرقيّة عبر احتكاك الجيوش الإسلاميّة بالحملات الصلبيّة، حيث طارت شهرة اللعبة التي كان القائد الإسلاميّ الشهير صلاح الدّين الأيوبيّ من كبار هواتها، كما كان كذلك عددٌ من ملوك الشرق والغرب، لتتابع اللعبة تطوّرها على مرّ العصور، فتُقام أوّل بطولةٍ عالميّةٍ لها في لندن عام 1834، قبل أن يشهد عام 1924، تأسيس الاتّحاد الدّولي للعبة الشطرنج “FIDE“، والذي يضمّ في عضويّته اليوم 185 اتّحادًا محليّا للعبة من جميع قارّات العالم، ويشرف على تنظيم بطولة العالم للشطرنج، والتي تقام بشكلٍ شبه سنويٍّ منذ عام 1886، وتعتبر الملتقى الأبرز لأساتذة الشطرنج حول العالم، إلى جانب الأولمبياد العالميّ للشطرنج، والذي يقام منذ عام 1927 بمعدّل مرةٍ كلّ عامين، ويعتبر أبرز منافسات اللعبة على صعيد المنتخبات الوطنيّة، والتي يتصدّر ترتيبها التاريخيّ أساتذة الاتّحاد السوفييتي، وعلى رأسهم الروسيّان أناتولي كاربوف وغاري كاسباروف، اللذان يعتبران أبرز ما أنجبت لعبة الشطرنج من أساطير على مرّ العصور.
أسماء أحجار الشطرنج وأشكالها
وإذا أردنا أن نُعرّف ماهية لعبة الشطرنج لمن لا يعرفها، فهي عبارةٌ عن رقعةٍ مربّعة الشكل، تتضمّن 64 مربّعًا متناوب الألوان بين الأبيض والأسود، وموزّعًا على 8 خطوطٍ ومثلها من الأعمدة، يتموضع عليها جيشان: أبيضٌ وأسود، يتكوّن كلٌّ منهما من 16 حجرًا، بواقع 8 بيادق وقلعتين وحصانين وفيلين ووزيرٌ وملك، حيث تختلف قدرات وحركات كلّ نوعٍ من الأحجار، فالبيادق “Pawns” تتحرّك فقط مربّعًا واحدًا نحو الأمام عموديًّا، والقلاع “Rooks” تتحرّك أفقيّاً أو عموديًّا لأيّ عددٍ من المربّعات، والأحصنة “Knights” تتحرّك بمقدار 3 مربّعات على شكل حرف L، وتتميّز بأنّها الوحيدة القادرة على القفز فوق الأحجار دونًا عن بقيّة أحجار الشطرنج، والفيَلة “Bishops” تتحرّك قطريًّا لأيّ عددٍ من المربّعات، أمّا الوزير “Queen” فهو القطعة الأقوى لأنه يتحرّك بجميع الاتّجاهات لأيّ عددٍ من المربّعات، بعكس الملك “King” الذي لا يتحرّك سوى بمقدار مربّعٍ واحدٍ على جميع الاتّجاهات.
تطوّر رياضة الشطرنج لدى ممارسيها مهارات التخطيط السليم ورسم الاستراتيجيّات على المديين القريب والبعيد، ممّا يؤهّلهم للعمل بنجاحٍ ضمن مختلف المنظومات الإداريّة
طريقة صف أحجار الشطرنج على الرقعة
وتبدأ اللعبة بأن يقوم كلٌّ من اللاعبَين بصفّ أحجاره وفق الترتيب المبيّن في الصورة أعلاه، ثم يتناوب اللاعبان على أداء النقلات، على أن يبدأ صاحب الأحجار البيضاء باللعب أوّلًا، وتستطيع جميع أحجار الجيش الواحد أن تأكل من أحجار الجيش المقابل، بالحلول مكانها في المربّع وفق حركاتها الممكنة، ما عدا البيادق التي تأكل قطريًّا رغم أن حركتها عموديّة، وهناك حركةٌ تُدعى “التبييت”، يستطيع اللاعب من خلالها أداء حركتين في نقلةٍ واحدة، وذلك بالتبادل بين الملك وإحدى القلعتين وفق شروطٍ معيّنة، كما يستطيع أيّ بيدقٍ أن يرتقي إلى قطعةٍ إضافيّة “وزير غالبًا”، بمجرّد بلوغه الصفّ الثامن والأخير من الرقعة، وتنتهي اللعبة عندما يفقد أحد اللاعبين قطعة الملك، التي لا يجوز أكلها إلّا بعد تنبيه صاحبها بقول “كش ملك”.
تعدّدت النظريّات في نشأة الشطرنج، فمنهم من قال بأنّها تعود إلى 1400 عام قبل الميلاد، حيث عرفها ومارسها الفراعنة، ومنهم من يعود بتاريخها إلى 3000 عام قبل الميلاد
ويمكن أن تنتهي اللعبة باستسلام أحد الطرفين، كما يمكن أن تنتهي بالتعادل وفق قواعد معيّنة، وتُوضع عادةً في المنافسات الدّوليّة ساعة مؤقّتٍ زمنيٍّ بجانب كلّ رقعة بهدف ضبط الوقت، حيث لا يُسمح للاعب بتجاوز الزمن المحدّد لأداء النقلات، والذي يختلف بين بطولةٍ وأخرى.
الشطرنج تحسّن مهارات الأطفال
ونختتم حديثنا بسرد أبرز الأسباب التي دعت معظم الأطباء النفسيين وخبراء التنمية البشريّة، لنصح الأصحاء قبل المرضى والصغار قبل الكبار بتعلّم وممارسة لعبة الشطرنج:
♦ لها دورٌ كبيرٌ في حماية الذاكرة والحفاظ على مرونتها، من خلال تنشيط العمليات العقليّة في دماغ ممارسيها، ممّا يقيهم شرّ الإصابة بأمراض الخرف والزهايمر عند الكبر.
♦ تعزّز الثقة بالنفس والإيمان بالقدرات الذاتيّة، من خلال تطوير مهارات التحكّم بالأعصاب وابتكار الحلول والتعامل مع المشاكل والأحداث اليوميّة، ممّا يقي ممارسيها شرّ الإصابة بأمراض الاكتئاب والقلق النفسي.
♦ تساعد الأطفال على رفع مستوى استيعابهم ودقّة ملاحظتهم، وتزيد من قدرتهم على التركيز، وتحفّز عقولهم على الإبداع والابتكار، ممّا يعود بالإيجاب على تحصيلهم العلمي وحياتهم عامّةً.
♦ تطوّر لدى ممارسيها مهارات التخطيط السليم ورسم الاستراتيجيّات على المديين القريب والبعيد، ممّا يؤهّلهم للعمل بنجاحٍ ضمن مختلف المنظومات الإداريّة، وهذا ما نلمسه جليًّا لدى علمنا بأنّ كبار أساتذة الشطرنج، قد تحوّلوا بالفعل إلى مستشارين سياسيين واقتصاديين على أعلى المستويات.