مزيج متنوع من الألحان والثقافات واللغات أيضًا، إنها الأغنية التركية الفريدة من نوعها عبر التاريخ، التي لا يسمعها المرء إلا ويميز اللحن الخاص بها، هو اللحن المازج بين أنغام الناي وآلة الساز “Saz” أو كما يسميها الأتراك “باغلما”، وهي آلة من عائلة الوتريات ينتشر استخدامها في تركيا منذ عهد الدولة العثمانية إلى الآن، لتكون فيما بعد ما يسمى بالـ”Turku” أو التركيات، وهي الأغاني التركية الفلكلورية.
ستجد التاريخ التركي ملخصًا بالكامل في تلك “التركيات”، تفاصيل المجتمع في الدولة العثمانية، كيف كانت العلاقات الاجتماعية وانعكاسها بصورها المختلفة في الأغاني الفلكلورية، عندما تتخذ معالم إسطنبول أو “الأستانة” كيفما كان العثمانيون يسمونها، مكانًا في تشبيهات كلمات الأغاني المختلفة، مثل الأغنية الشهيرة بينما نحن في الطريق إلى أوسكودار تروى إحدى التقاليد الشعبية للشعب التركي بألحان شديدة التميز تتفرد بها الثقافة التركية وحدها.
تطورت الموسيقى التركية في ميادين مختلفة منذ عهد السلاجقة وحتى الآن، فكان منها الموسيقى الكلاسيكية، والفلكلورية “Turku” التي تروي العادات والتقاليد والتاريخ بنظرة فنية، وكان منها موسيقى “Kosma” وهي ما تبتعد عن منهاج الأغاني الفلكلورية ولكنها تتحدث عن العادات المجتمعية وكذلك عن الطبيعة، جاءت بعدها الألحان الصوفية مثل موسيقى “Sema”، كما ظهر أيضًا موسيقى الأرابيسك، وهو نوع من أنواع الموسيقة العربية التي تم تأليفها في الثقافة التركية من الستينيات وحتى التسعينيات من القرن الماضي، إلا أن الجمهورية التركية كانت نقطة محورية في تغيير كل ما سبق إلى ما آلت إليه الأمور الآن.
أغنية بينما كنا نمشي إلى أوسكودار
مع قيام الجمهورية التركية، تم منع الكثير من الأغاني ذات الطابع الإسلامي أو العربي أو الكردي، كما منعت أغلب الأغاني غير التركية من الإذاعة في الراديو المحلي، كما مُنع الكثير من مغنيي فن “الأرابيسك” من إقامة حفلات عامة أو الظهور على الراديو كذلك، فبناءً على توجيهات النظام “الكمالي” نسبة إلى كمال أتاتورك، اتجهت الموسيقى التركية لمزيد من تبني الطابع الغربي، ذلك للاستفادة من تقنياتها الفنية العالمية، في سبيل أن يكون ذلك كنقلة نوعية لها وباب لدخول العالمية.
يعد المغني “أحمد كايا” أبرز الفنانين الأكراد الذي امتلأ سجل حياته بالمناضلة من أجل الفن
يعد المغني أحمد كايا أبرز الفنانين الأكراد الذي امتلأ سجل حياته بالمناضلة من أجل الفن، وانتهى بالنفي خارج بلاده الأم، فكايا من أشهر المغنيين الأكراد في تركيا، وكانت لأغانيه صدى واسع في البلاد، كما قام بالغناء عالميًا، واشتهرت أغانية برفض المبدأ “الكمالي” وكتب قصائد تذم أتاتورك فكان مصيره ومصيرها السجن بسبب قضايا سياسية مختلفة اتهمته بها الحكومة آنذاك، ليكون كايا أبرز ناقلي أصوات مئات من المعتقلين السياسيين عبر أغانيه، قبل أن ينتقل إلى فرنسا كمنفى له بسبب حبه للغناء بالكردية ونشره للثقافة الكردية عبر الفن في الجمهورية التركية والعالم كذلك.
كان التقليل من آلات الموسيقى الخاصة بأصالة الموسيقى التركية والخاصة بالأرابيسك أحد أهداف الفكر الكمالي، والتطبع بالموسيقى الغربية بتبني آلاتها الموسيقية الحديثة، كموسيقى الجاز على سبيل المثال، فقام معهد أنقرة للموسيقى عام 1938، بتبني تعليم الموسيقى الغربية للملحنين الأتراك، فنشأ بعده أول جيل يتبنى فكر ذلك النوع من الموسيقى بعدما نشأ فكر “معاهد ومدارس الموسيقى” للأطفال لتعليم ذوي المواهب الفنية.
كان التقليل من آلات الموسيقى الخاصة بأصالة الموسيقى التركية و الخاصة بالأرابيسك أحد أهداف الفكر الكمالي
وصلنا الآن إلى مرحلة الستينيات حيث انتشرت موجة الروك آند رول، فتبنى الأتراك ذلك النوع من الموسيقي ولكن بطريقتهم الخاصة، فكان أشهرهم باريش مانشو وهو من أكثر الملحنين والمغنين شهرة في تلك الأوقات، بيعت أسطوانات أغانيه بالملايين، لتنتشر بعدها موجة الروك آند رول أو موجة وموسيقى “البوب” منها الفنانة سيزسن أكسو، أشهر مغنيي موسيقى البوب التركية الحديثة، والتي ما زال الأتراك يسمعون أغانيها إلى الآن.
https://www.youtube.com/watch?v=YpVHbe-nN2A
الأغنية التركية و”المحلية الجديدة”
مرت الأغنية التركية بما يعرف “المحلية الجديدة” أو “Neo-localism” أي دمج المواصفات العالمية مع التقنيات والمواصفات الأصلية، نرى المغني الشهير “تاركان” أبرز مثالًا لذلك، فكان “تاركان” أول من قام بالمحافظة على معايير الأغنية التركية ولكن بآداب غربية، ذلك في السنوات الأولى من الألفية الحديثة، لتمر الأغنية التركية بمراحل عدة يمكننا وصفها بتغليف القالب التركي الأصلي بكثير من الحداثة والتطور الغربي، فتطبع الفنانون أنفسهم بذلك الطابع، وتغيرت ملابسهم وطريقة آدائهم الفنية، واعتمدوا على الرقصات الغربية في تصوير أغانيهم، لتصبح الأغاني التركية الآن من الأكثر زيارة بين فيديوهات يوتيوب ليس فقط محليًا، بل عالميًا كذلك.
الوجه الآخر للأكثر زيارة
ربما تعد مصطلحات كالأكثر زيارة والأكثر مشاهدة هي أكثر المصطلحات المغرية تسويقيًا لدفع المشاهد بنقر الزر والمشاهدة، احتلت الأغاني التركية تلك المراتب على يوتيوب ومواقع الموسيقى العالمية، فكان لألحانها الصاخبة ولكماتها السريعة وقعًا يشبه وقع الأغاني الأجنبية العالمية كذلك، ليس لأنها تشبها قليلًا فحسب، بل لأنها نفس الألحان بالفعل في بعض الأحيان!
فالأغنية صاحبة أكثر من 146 مليون زيارة، لتنال المراتب الأولى في أكثر الأغاني استماعًا وأكثرها مبيعًا، حيث انتشرت في جميع أنحاء الجمهورية وكانت الصوت المألوف الصادر من أي مطعم أو محل للملابس، هي أغنية محببة للأتراك وللجمهور العالمي أيضًا، وذلك بلحنها الجديد على الأغنية التركية، وجودة تمثيل مقطع الفيديو الخاص بها وجودة تصويره، إلا أنها ليست أصلية كما كان متوقعًا، بل نسخة طبق الأصل من الأغنية الفرنسية “Dans Mon Quartier” للمغنية الإسرائيلية ريف كوهين.
الأغنية مترجمة للعربية
لا تعد الأغنية التركية الوحيدة التي تنسخ الألحان من غيرها، فتعد صناعة الأغنية الحديثة في المنطقة العربية هي أكثر الصناعات التي تعتمد على الإلهام التركي في الموسيقى، وخصوصًا المغني التركي الشهير إبراهيم تاتليسيس، الملهم الأكثر شهرة بين الفنانين العرب إلى الآن، فنجد ذلك في كثير من أغاني الفنان اللبناني وائل كفوري.
الوجه الآخر للأغنية التركية
يتنشر مؤخرًا في التلفزيون التركي نوعًا جديدًا على الأغنية التركية لم تشهده من قبل، ربما يشبه في طريقته الأغنية الشعبية العربية أو كما يسميها المصريون “المهرجانات الشعبية”، وهي نوع من الأغاني الشعبية لا يروق لكثير من النقاد الفنيين توصيفها كنوع من أنواع الفن، وذلك لرداءة نص الكلمات، وعدم احترامها الآداب العامة للموسيقى، وعدم دقة التشبيهات المستخدمة فيها.
إلا أننا ما زلنا إلى يومنا هذا نجدها مقبولة في أكثر البرامج التركية مشاهدة على التليفزيون، فنجد في هذا المقطع استضافة هذا النوع من الموسيقي في أكثر البرامج التركية مشاهدة في أيامنا الحالية، وهو برنامج “إذا تريد أن تتزوج، فتعال”، ونجد فيه قبولًا عامًا على الرغم من تشبيه المغني فيه للمرأة بعلامات تجارية بشكل مادي غير لائق!
يقول الناقد الموسيقي علي جوشار بأن مدينة إسطنبول هي الشيء الأصلي الوحيد الذي تبقى في الأغنية التركية الحديثة، ولكن عدا ذلك تمت تغلفة كل شيء حولها، الموسيقى والمغنيين، وهذا ليس في تركيا فحسب، بل في أغلب بلاد الشرق الأوسط أيضًا.