لم يكن خبر التصدي للهجوم المسلح على سد النهضة الإثيوبي الثلاثاء الماضي خبرًا عاديًا كما تناقلته بعض وسائل الإعلام، إذ إنه يحمل بين ثناياه قنابل موقوتة خاصة أنه لا يتعلق بأديس أبابا وحدها، حيث هناك ما يقرب من خمس دول تطل على حوض النيل، ذات صلة وثيقة بهذا الحادث، إما استفادة منه أو تهديده لمصالحها.
ومنذ الوهلة الأولى لإعلان هذا الحادث وجهت أصابع الاتهام صوب كل من مصر وأوغندا بصفتهما الدول الأكثر استفادة من انهيار السد، وهو ما دفع للتساؤل عن مدى احتمالية تورط القاهرة في هذه العملية استنادًا إلى بعض المؤشرات والدلالات ذات الصفة التاريخية والإعلامية، في مقابل البحث فيما يشار إليه بشأن محاولة أديس أبابا الزج بمصر في هذه الجريمة بهدف توريطها وممارسة الضغط عليها قبل أشهر قليلة من قمة حوض النيل القادمة والمقرر لها يونيو القادم.
اتهام المعارضة وتحذير إريتريا
يوم كامل مر على الحادث – المبهم – دون أن يخرج بيان رسمي عن الحكومة الإثيوبية لشرح تفاصيله، وهو ما دفع لزيادة بورصة التكهنات هنا وهناك، إلا أنه وفي اليوم التالي – الأربعاء – خرج وزير الدولة الإثيوبي في مكتب الاتصال الحكومي زادقي أبرهة، ببيان قال فيه: “الأجهزة الأمنية الإثيوبية تصدت لهجوم مجموعة مسلحة تتبع لحركة تحرير بني شنقول الإثيوبية المعارضة، وكانت تتكون المجموعة المهاجمة من 20 فردًا، انطلقوا من دولة إرتريا، كان هدفهم الاعتداء على سد النهضة، لكن القوات الأمنية تصدت لهم وقتلت 13 مهاجمًا وهرب 7 من المهاجمين إلى داخل الأراضي السودانية، ولكن الحكومة السودانية سلمت المهاجمين فورًا إلى الحكومة الإثيوبية، والتي تحقق معهم لمعرفة تفاصيل أخرى عن الحادث”.
البيان وإن لم يوجه الاتهام لدولة بعينها، إلا أنه تضمن تحذيرًا لدولة إريتريا من الاستمرار في دعم المجموعات “الإرهابية” التي تحاول زعزعة الاستقرار والتنمية في إثيوبيا، حيث قال الوزير الإثيوبي في بيانه إن سد النهضة خط أحمر، وبلاده تحتفظ بحقها في الرد على الجهات المتورطة في تدريب وتسليح المجموعات الإرهابية.
يذكر أن الحركة الشعبية لتحرير بني شنقول (حركة سياسية عسكرية مسلحة) تعود في نشأتها إلى ستينيات القرن الماضي، وهي حركة تنتمي لفصائل المعارضة الإثيوبية، كما أنها من أوائل الحركات الساعية لانفصال إقليم بني شنقول – قماز، ويتزعمها السفير الإثيوبي السابق يوسف حامد ناصر.
وزير الاتصالات الإثيوبي يقول إن سد النهضة “خط أحمر”، وإن بلاده تحتفظ بحقها في الرد على الجهات المتورطة في تدريب وتسليح المجموعات الإرهابية
للحركة دور سلبي رافض لبناء سد النهضة، ففي نوفمبر 2012، أعلنت رفضها رسميًا لمساعي الحكومة الإثيوبية لإقامة السد في مناطقها، ووصفت المشروع بأنه استنزاف لثروات الإقليم المختلفة، والتي لا يستفيد منها شعوب الإقليم، كما أنها حذرت من أن المشروع حال بناءه سيتسبب في تهجير ما يقرب من 50.000 من السكان المحليين في المنطقة المحيطة بالإنشاءات، كما هددت أكثر من مرة بتدمير السد حال إنشائه.
التهديد المسلح للحركة لم يتوقف عند البيانات والإدانات وفقط، ففي 9 من مايو 2014 شنت هجومًا مسلحًا أسفر عن مقتل تسعة جنود إثيوبيين، وقد أعلنت الجبهة مسؤوليتها عن الهجوم، وقالت إنها تقاوم ما وصفته بالاحتلال الإثيوبي للإقليم.
حركة تحرير بني شنقول المعارضة أول من عارضت بناء سد النهضة
أصابع الاتهام صوب القاهرة.. لماذا؟
على الرغم من توجيه إثيوبيا لإنذار شديد اللهجة للحكومة الإريترية بشأن هذا الحادث، فإنه وبحسب رأي بعض الخبراء فإن الدولة الإرترية أضعف من أن تدير مثل هذا الهجوم، خصوصًا ضد إثيوبيا، شقيقتها الكبرى سابقًا، مرجحين تحالف النظام الإرتري مع أجهزة مخابرات أخرى للقيام بهذا العمل المعقد.
العديد من الدلالات والشواهد والأحداث المتلاحقة منذ بداية أزمة بناء السد وحتى الآن دفعت بعض المحللين والخبراء إلى توجيه أصابع الاتهام صوب القاهرة، على اعتبار أنها من أوائل الدول المتضررة من السد والحريصة على عدم اكتمال بنائه لما يحمله من مخاطر تهدد الأمن المائي المصري، ونستعرض هنا أبرز تلك الشواهد.
- التحالف مع الأعداء
الشاهد الأول الذي دفع البعض لتوجيه الاتهام إلى القاهرة، تمثل في الجهود الدبلوماسية التي تبذلها السلطات المصرية لتقريب وجهات النظر وتفعيل سبل التعاون مع الأنظمة والحكومات المعادية لكل من إثيوبيا والحكومة السودانية، كان أبرزها اللقاء الذي جمع بين رئيس حكومة جنوب السودان سلفاكير ميارديت والرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في القاهرة في التاسع من يناير الماضي، إثر دعوة وجهها الرئيس المصري لنظيره الجنوب سوداني.
الملفت للنظر أن زيارة سلفاكير للقاهرة جاءت بعد شهر واحد فقط من زيارة السيسي للعاصمة الأوغندية كمبالا، والتي تلاها مباشرة زيارة الرئيس الأوغندي يوري موسيفيني لجنوب السودان، وهو ما أثار الشك والريبة لدى أديس أبابا حسبما جاء على لسان بعض المصادر هناك.
بعض وسائل الإعلام السودانية نقلت عن مصادر أمنية وعسكرية اتفاق (سلفاكير والسيسي وموسيفيني) على إنشاء معسكرات تدريب على حدود أوغندا – جنوب السودان، وذلك بهدف تأهيل عناصر المعارضة السودانية المسلحة عسكريًا من أجل إسقاط حكومة البشير، عقابًا لها على دعمها حكومة أديس أبابا في بناء سد النهضة.
المصادر أشارت أيضًا إلى أن الاجتماع الثلاثي أسفر عن إرساله عدد من الجنود الأوغنديين لجنوب السودان من أجل مطاردة الفصائل المعارضة لحكومة سلفاكير، والمدعومة من الحكومة السودانية، كذلك تقديم الدعم للمعارضة المسلحة السودانية والإثيوبية والتي تشمل التدريب وتقديم الأسلحة إلى الحركة الشعبية – شمال والحركات الدارفورية المتمردة والمعدات العسكرية واللوجستية الكاملة بما في ذلك التمويل.
بعض وسائل الإعلام السودانية نقلت عن مصادر أمنية وعسكرية اتفاق (سلفاكير والسيسي وموسيفيني) على إنشاء معسكرات تدريب للمعارضة السودانية من أجل إسقاط حكومة البشير
الصحيفة نوهت إلى أن الحكومة المصرية أرسلت عددًا من كبار القادة العسكريين من مختلف الوحدات القتالية لجنوب السودان من أجل تدريب جيب جنوب السودان والمتمردين السودانيين والمعارضة الإثيوبية، وبحسب تصريحات مصدر أمني للصحيفة فإن هذه التحركات تأتي بهدف محاولة القاهرة إسقاط كل من حكومة السودان وإثيوبيا بسبب رفضها سد النهضة، بجانب أن الحكومة المصرية لديها خلاف مع حكومة الخرطوم بشأن منطقة حلايب المتنازع عليها بين البلدين.
السيسي خلال لقائه رئيس جنوب السودان في القاهرة
- التهديدات المباشرة
من الشواهد التي دفعت إلى اتهام القاهرة بضرب سد النهضة السوابق التاريخية التي كشفت تهديد بعض الأنظمة الحاكمة في مصر لإثيوبيا حال إقدامها على بناء سد على نهر النيل بما يخالف الاتفاقيات الدولية الموقعة، وهو ما كشفه اللقاء المسرب الذي عقده الرئيس المصري الأسبق محمد مرسي، مع عدد من ممثلي الشعب، عن آثار بناء سد النهضة على نهر النيل في إثيوبيا، والذي تضمن اقتراحات من جانب بعض الحاضرين بالتلويح باستخدام القوة، والتدخل في الشأن الإثيوبي، كما تضمن انتقادات حادة للموقف السوداني من القضية.
كذلك ما تردد على لسان بعض الخبراء بشأن ضرب الرئيس المصري الراحل محمد أنور السادات لأحد السدود التي قامت إثيوبيا ببنائها عام 1979، بعد تجاهلها للتحذيرات الصادرة عن القاهرة بشأن مخالفة هذه السدود للقوانين الدولية، وهو ما دفع المخابرات المصرية حينها بتوجيه 6 طائرات لضرب السد والعودة دون خسائر.
ما تردد على لسان البعض بشأن ضرب السادات لأحد السدود التي قامت إثيوبيا ببنائها عام 1979، أقلق أديس أبابا بشأن احتمالية تكرار العملية مرة أخرى
وعلى الرغم من نفي بعض قيادات جهاز المخابرات الحربية لهذه الرواية فإن سرعة وانتشار ترديدها إعلاميًا وعبر مواقع التواصل الاجتماعي عمق من الأزمة بين القاهرة وأديس أبابا، فضلاً عن تسببها في رفع منسوب احتمالية تكرار مثل هذه العملية مرة أخرى.
أضف إلى ذلك التهديدات التي وجهها بعض الإعلاميين والخبراء بشأن التلويح باستخدام القوة العسكرية ضد إثيوبيا حال إصرارها على إتمام بناء السد، وهو ما جاء على لسان الدكتور هاني رسلان الخبير في الشؤون الإفريقية، يناير الماضي، والذي أوضح أن بدء تشغيل السد سيبكون في يوليو المقبل، كما سينتهي بناؤه تمامًا عام 2018، في حين لم توقع إثيوبيا على أي التزام تجاه مصر بشأن هذا السد، وتسعى إلى إضاعة الوقت.
رسلان في تصريحات له أفاد بأن مصر قادرة على استخدام القوة العسكرية ضد سد النهضة، قائلًا: “واللي بيعمل حاجة مبيتكلمش”، معقبًا: “لكن هذا الأمر سيشبه غزو العراق للكويت”، وتابع أن استخدام القوة العسكرية ضد السد سيكون محفوفًا بالمخاطر، في ظل توقيع تركيا اتفاقية دفاع مشترك مع إثيوبيا.
اتفاق مصري إثيوبي سوداني لبناء سد النهضة
توريط القاهرة!
وفي المقابل هناك من يرى أن الاتهام المسبق للقاهرة يسعى في المقام الأول إلى توريطها في محاولة لدفعها إلى إعادة النظر في أي خطوة أو قرار من الممكن أن تعزم عليه مستقبلاً، من خلال وضعها في قفص اتهام تدافع عن نفسها، ومن ثم ستفكر السلطات المصرية ألف مرة قبل الإقدام على أي حركة من الممكن أن تهدد السد وبناءه.
ورغم عدم تحميل إثيوبيا للقاهرة أي مسؤولية بشأن هذه العملية، إلا أن عزف العديد من وسائل الإعلام على وتر المصالح المصرية الأوغندية الإريترية الكينية من وراء استهداف السد، كان كاشفًا وبصورة كبيرة عن نوايا غير معلنة بشأن الرغبة في الزج باسم مصر في هذه الحادثة.
الدكتور نائل الشافعي، مؤسس موسوعة المعرفة ومديرها، استبعد فكرة تورط القاهرة في هذه العملية، معلقًا عبر حسابه الشخصي على موقع التواصل الاجتماعي: أنا غير متأكد إن كان الحدث حقيقي، أم أن عصابة التقراي الحاكمة تختلق مخاطر لإقناع الشعب بأن نجاحاتها (التي لن تفيد الشعب الإثيوبي) مستهدفة من الأعداء، ليس من المنطقي أن من يريد أن يهاجم سد النهضة في غرب إثيوبيا، أن ينطلق من إرتريا ليصبح لزامًا عليه أن يعبر إقليم التقراي المعادي”، ثم تساءل: لماذا لم ينطلقوا من داخل السودان بمساعدة من جبهة تحرير شرق السودان؟ ولا يخلو البيان الرسمي الإثيوبي من التأكيد على التعاون الأمني المرذول بين نظامي الحكم في أديس والخرطوم، كما أن الخبر قد يدفع بشكل غير مباشر الناس لتخمين خاطئ مفاده أن الدولة المصرية تقوم بنشاط مضاد لسد النهضة، وهذا مخالف لطبيعة الأمور.
هناك من يرى أن الاتهام المسبق للقاهرة يسعى في المقام الأول إلى توريطها في محاولة لدفعها إلى إعادة النظر في أي خطوة أو قرار من الممكن أن تعزم عليه مستقبلًا
تعليق شافعي جاء في إطار تحذيره من المخطط الذي وصفه بـ”تعطيش مصر” والذي بات يتصاعد بصورة كبيرة، منوهًا إلى زيارة رئيس وزراء إثيوبيا لأوغندا ومطالبتها بإلغاء جميع الاتفاقيات القديمة، من أجل البدء في تفعيل اتفاقية عنتيبي الموقعة بين مصر وإثيوبيا والسودان في 2015.
التحركات الإثيوبية الأخيرة تجاه أوغندا بشأن تفعيل “عنتيبي” قبل مؤتمر قمة دول حوض النيل المقرر في يونيو 2017، أرجعها مدير مؤسسة المعرفة إلى سيناريوهين اثنين، الأول أن تكون نتيجة ضغوط من الرئيس السوداني عمر البشير والذي يسعى إلى الحصول على نفط جنوب السودان الذي تسيطر على نسبة كبيرة منه أوغندا، والثاني يتعلق بمساعي البنك الدولي، الذي يشعر بأن الوقت قد حان للخطوة التالية في إحكام السيطرة على نهر النيل بإلغاء كل المعاهدات السابقة، ملفتًا أن قوة هذا السيناريو هو أن البنك الدولي قادر على تحريك كل دول حوض النيل (بما فيهم مصر) لتفعيل اتفاقية عنتيبي الإطارية لمياه النيل.
بصرف النظر عن واقعية حادث الهجوم المسلح على سد النهضة، ومن المتورط فيه، إلا أنه وفي سياقه الزمني قبيل مؤتمر قمة دول حوض النيل يونيو المقبل ومحاولات إثيوبيا من جانب والبنك الدولي من جانب آخر إلغاء الاتفاقيات المبرمة سابقًا بهدف إرساء اتفاقية عنتيبي كونها الاتفاقية الوحيدة المحددة لمصير مياه النيل، فإن هناك العديد من التحديات أمام القاهرة للحفاظ على أمنها المائي، فهل تنجح في ذلك؟ هذا ما سيتم الكشف عنه عقب القمة القادمة.