بين مرتفعات جبل درسة وسلسلة جبال الريف وعلى ضفاف البحر الأبيض المتوسط وفي منطقة فلاحية في أقصى الشمال الغربي للمملكة، تقع مدينة “الحمامة البيضاء” تطوان المغربية ذات الطابع الأندلسي، شامخة بأسوارها العتيدة ومآثرها الخالدة الضاربة في التاريخ.
“بنت غرناطة” الحاضنة للحضارة الأندلسية
في معالمها التاريخية وفي عاداتها وتقاليدها السائدة منذ القدم، في ألقاب أسَرها، وفي مظاهر حضارتها، من موسيقى وطبخ ولباس وعمارة وحدائق وصناعات تقليدية، يظهر ارتباط “تطوان” بالحضارة الأندلسية واحتفاظها بالإرث الأندلسي، “فهي بنت غرناطة، وأختها الفاترة“، وملاذ الأندلسيين المطرودين من إسبانيا بعد سقوط غرناطة عام 1492.
فعلى مر التاريخ، تمكنت تطوان المغربية من الحفاظ على حضارتها الثقافية والعمرانية الأندلسية رغم انفتاحها على عدة روافد ثقافية طيلة القرون الماضية، وهو ما يظهر في أحيائها ومنازلها، مساجدها ومقابرها، أسوارها وحصونها، أقواسها وساحاتها، حماماتها وفنادقها القديمة، قصورها بما تتميز به من أفنية ونافورات وحدائق وأزقتها العتيقة.
أبواب المدينة العتيقة
بالجزء الشمالي الغربي للمدينة، يظهر المعمار الأندلسي جليًا، بدوره المسقفة بالقرميد ونوافذه الخارجية، حيث توجد قصبة سيدي المنظري، بقايا سور يبلغ طوله خمسة وستين مترًا ويرتفع على علو سبعة أمتار، تلتصق به ثلاثة أبراج، ترتبط فيما بينها عبر ممر حراسة يتم الدخول إليه عبر درج بجانب باب القصبة، التي بنيت خلال القرن الـ15 من طرف مؤسس المدينة الأول أبو الحسن علي المنظري وكانت مقرًا للحكم وقاعدة عسكرية لمراقبة كل التحركات الخارجية والممرات التجارية انطلاقًا من أحد أبراجها.
وفي وسط المدينة العتيقة التي بناها مهاجرو الأندلس في أواخر القرن التاسع الهجري على أنقاض تطوان القديمة، يرتفع “جامع القصبة” على شكل مربع يصل طول أضلاعه إلى 20 مترًا، مرتكزًا على أعمدة تعلوها أقواس مكسورة ومغطى بسقوف خشبية مائلة مغطاة بالقرميد، ويتميز هذا الجامع، إلى جانب خلوه من الزخارف، بعدم توفره على صحن.
إلى جانب الفن المعماري، ما زال سكان تطوان يحتفظون باللهجة الشعبية والموسيقى الأندلسية
وتتميز الدور التطوانية العتيقة بالفناء الأوسط الذي تتمحور حوله مختلف الغرف والمرافق المختلفة للبيت، ومنه يتم التواصل بالخارج عبر مدخل غير مباشر نحو الباب الرئيسي، ومع انعدام النوافذ المطلة على الخارج أو قلتها، تتحول الدور إلى عوالم صغيرة مغلقة بتباين صارخ بين الروعة الجمالية داخل الدور والبساطة خارجها.
إلى جانب الفن المعماري، ما زال سكان تطوان يحتفظون باللهجة الشعبية والموسيقى الأندلسية، وبالطرْز وبالصناعة التقليدية والقيم الثقافية الأندلسية التي تخص جميع الميادين، انطلاقًا من تنظيم المنزل وتأثيثه، إلى التغذية واللباس والاحتفالات والأعياد والزواج وعادات التنزه وغيرها.
“الحمامة البيضاء”.. تقاليد وعادات ضاربة في التاريخ
رغم تأثره بالمطبخ العثماني، فإن تأثير المطبخ الأندلسي بأصنافه وطرقه وأسمائه كان أشد على المطبخ التطواني، ويتضح ذلك من خلال انتشار أكلات البريد، المغاسْ، المالوزة، البسكوشو، الطرطيا، الفنيد الذي يقدم للأطفال بمناسبة الختان، وبعض الفطائر والمجبنات والحلويات اليابسة ككعب غزال والغريبة.
حلويات “كعب غزال”
وفي الملابس، يتميز لباس النساء التطوانيات بحمولته الثقافية الأندلسية، فكثير منهن لا زلن يلبسن لباسًا يشبه لباس النساء المدجنات ونساء غرناطة، فهن تتزين بالمنديل المورسكي المخطط غالبًا بالأحمر والأبيض، يسمى “أتازير”، ويعتمرن “الشاشية” وفوطة بيضاء توضع على الكتف، وحزام يربطن به المنديل يسمى الكرزية، في حين ظل لباس الرجال مشابهًا للباس المغاربة المحلي، والمتمثل بصفة خاصة في البرنس والحايك.
ومن بين القلائد المألوفة في تطوان، هناك قلادة لا زالت تستعمل في زينة العروس، وهي تتكون من عدة سموط من اللؤلؤ تتخللها كريات من الذهب، وتشبه هذه القلادة إلى حد كبير بعض الحلي النصرية التي لا زالت محفوظة.
تمثال الحمامة البيضاء
تعرف مدينة تطوان البالغ عدد سكان أهلها أكثر من 300 ألف نسمة، بمدينة “الحمامة البيضاء”، حيث يوجد تمثال حمامة بيضاء باسطة جناحيها على ما يحيط بها من تلال وجبال، بناه نحات إسباني في ثمانينيات القرن الماضي، تمثال أضحى رمزًا لها لطيب أهلها وحسن استقبالهم للناس على مر التاريخ، وعلى عكس مدن “الداخل”، تعتبر اللغة الإسبانية اللغة الثانية لدى سكان تطوان، عوضًا عن اللغة الفرنسية السائدة في باقي المُدن لتأثرها الكبير بالأندلسيين.
ويشتهر التطواني الأصيل باعتداده بنفسه واستعلائه على باقي سكان المغرب، ويطلق التطوانيون على المغاربة الآخرين “سكان الداخل”، وقد وصف المؤرخ محمد داود – ابن المدينة – روح التطواني فقال في ختام كتابه تاريخ تطوان: “عرفت المدينة كيف تعيش عزيزة الجانب، موفورة الكرامة، حسنة السمعة، فكان القليل فيها مقنعًا، والضعيف لطيفًا ظريفًا، والصغير نقيًا نظيفًا، والغني مقتصدًا مدبرًا، والحياة وديعة يسيرة، والأعمال متقنة منظمة، لذلك كان سكانها آمنين مطمئنين، راضين مرضيين”.