استقرَّ في الصحراء الكبرى قوميات مختلفة على مرّ الزمن، منهم العرب والأمازيغ والأفارقة، ورغم وحدة المكان إلا أن كل فئة اختلفت عاداتها وتقاليدها باختلاف النسب والدين والثقافة، كما اختلفت بكيفية الاستجابة لصعوبة وقسوة البيئة الجغرافية والمناخية في الصحراء، لذلك اختار البعض الترحال فيما بقيَ آخرون وعمّروا فيها مدنًا وقرى، ومع ذلك اتفقت على كونها مجتمعًا ريفيًّا متمسّكًا بنمط خاصّ من الحياة اليومية.
ضمن ملف “الصحراء الكبرى”، نحاول التعرّف إلى طبيعة هذه المنطقة ومجتمعاتها وتاريخها الحافل بالصراعات السياسية، ونحاول فهم دوافعها ومصادر القلق التي أخضعتها لصراعات شكّلت الجزء الكبير من ماضيها وحاضرها.
مجتمعات ريفية بدوية
استقر العرب المسلمون في المدن، وبنوا المساجد والمدارس، وأصبح لهم تأثير في أماكن مثل مصر والسودان والمغرب وليبيا والجزائر، ومن بعدهم أسّس الأمازيغ والأفارقة إمبراطوريات إسلامية قوية في المنطقة، على غرار إمبراطورية مالي وإمبراطورية السونغاي.
تشتهر قبائل الصحراء الكبرى بالترحال وممارسة الرعي والتنمية الحيوانية، كما يمتازون بالمروءة والجود والكرم، وأبرزهم الطوارق الذين عُرفوا بكونهم المجموعة الأمازيغية الأكثر توغّلًا في أفريقيا جنوب الصحراء، والأكثر انفصالًا عن السكان العرب بالشمال الأفريقي.
ولا يعرف سكان الصحراء الكبرى الحدود الجغرافية التي أقرّتها القوى الاستعمارية العظمى في العالم، حيث يطلق عليهم صفة “البدون”، فالكثير منهم لا يحملون أوراق ثبوتية، ويعيش جزء منهم داخل خيام تنسَج من الجلد وشعر الماعز، في حين يقطن الجزء الآخر منهم بيوتًا طينية توفّر لهم مأوى آمنًا، تقيهم حرارة الشمس وقسوة المناخ الصحراوي.
تحظى الإبل عند سكان الصحراء الكبرى بمكانة خاصة متوارثة عن الأسلاف، رغم دخول السيارات رباعية الدفع إلى حياة الصحراويين في العقود الأخيرة، إلا أن الإبل ظلت صديقة الصحراويين، إذ تعتبر رمزًا للمكانة الاجتماعية بين القبائل الصحراوية المختلفة، وتقام لأجلها المواسم وسط مضمار صحراوي لتتبارى فرق القبائل بين بعضها، وتستقدم كل قبيلة أسرع إبلها وأمهر فرسانها.
تكثر استخدامات سكان المنطقة للإبل، ابتداءً من كونها وسيلة نقل لنقل المؤن والترحال، وصولًا إلى شرب لبنها وأكل لحمها وصنع الأنسجة من وبرها الناعم، إضافة إلى استخراج مادة علاجية من عظامها لجلود البشر والإبل على السواء، كما يستفيدون من روثها سمادًا لنخيلهم.
ولكل ناقة من إبل الصحراويين اسم خاص، وكل وليد يأخذ اسم عائلته، فالإبل لها عائلات مثل البشر، ولكل ناقة سيمة، وهي علامة توسم بها على رقبتها، ويُعرف مالكها بها، بل إن سكان الصحراء يفرّقون بين الإبل حتى من ملامحها، ويعرفون صغيرها من كبيرها بالآثار التي تتركها أخفافها على الرمال.
فضلًا عن ذلك، يعقد الصحراويون صفقات تجارية لبيع وشراء الإبل في عدة مناطق من الصحراء، فتُجلب الإبل من تشاد والنيجر ويتمّ بيعها لدول شمال أفريقيا، ويمكن أن يتم البيع نقدًا أو بالدين أو مقايضة في بعض المرات، وغالبًا ما تجري عمليات الشراء والبيع في سوق أمحيريش بمدينة كلميم المغربية المعروفة بلقب “باب الصحراء”، ويعدّ هذا السوق مركزًا اقتصاديًّا هامًّا وفضاء تجاريًّا معروفًا منذ أكثر من 3 قرون، ويمتدّ على مساحة تقدَّر بأكثر من 3 هكتارات.
مكانة المرأة الصحراوية
جعل المجتمع الصحراوي المرأة محددًا أساسيًّا لكرامته، إذ وصف الرحالة ابن بطوطة المرأة عند الطوارق بأنها أعظم شأنًا من الرجل، عقب رحلته عبر الصحراء الكبرى التي استغرقت 15 يومًا، قائلًا: “هم قبيلة من البربر لا تسير القوافل إلا في خفارتهم، والمرأة عندهم في ذلك أعظم شأنًا من الرجل”.
يعرف المجتمع الصحراوي كواحد من المجتمعات الأمومية، إذ تختار النساء شركاء حياتهن بأنفسهن، وتخوّل لهنّ التقاليد والأعراف التملُّك وأيضًا طلب الطلاق والخروج من بيوتهن متى شئنَ، يضاف إلى ذلك أن الأطفال ينتسبون إلى أمهم عوضًا عن نسب أبيهم، كما يرث الأبناء مكانة أمهم وأخوالهم الاجتماعية.
تفتخر كذلك المرأة عند الطوارق بالطلاق، وتقيم الحفلات لذلك، ويطلق عليها كلمة “أحسيس” باللغة المحلية بمعنى “المتحررة” أو “الحرة”، أي التي تحررت من مسؤولياتها والتزاماتها تجاه الأسرة، وكلما تعدد زواج المرأة وإنجابها وطلاقها، كان ذلك مدعاة للفخر لها ولأهلها، على اعتبار أنها قادرة على إنجاب رجال محاربين أقوياء، قادرين على الدفاع عن القبيلة.
ونقيضًا للرجال، لا تغطي المرأة الطارقية وجهها، وتظهر حاسرة الرأس في معظم الأحيان، كما تبرز محاسنها بالحلي التقليدية ونقوش الحناء والوشم وضفائر الشعر.
الأمر ذاته عند التبو، حيث يتساوى الرجل مع المرأة، ففي غياب الرجل تأخذ المرأة مكانه وتقوم بمهامه المختلفة، حتى أنها تشارك في الحروب.
تقول المرأة في مجتمع التبو شعر الهامي، ﻟﻤﺪﺡ ﺍﻷﻗﺎﺭب ﻭﺍﻟﺘﻔﺎﺧﺮ ﺑﺎﻷﻧﺴﺎب ﻭﺍﻷﺻﻞ ﻭﺫﻛﺮ ﺑﻄﻮﻻﺗﻬﻢ ﻭذمّ ﺍﻟﺨﺼﻮم، ﻭﻳﻤﺎﺭَﺱ هذا الفن في مختلف ﺍﻟﻤﻨﺎﺳﺒﺎﺕ ﻛﺄﻋﺮﺍس ﺍﻟﺰﻭﺍج ﺃﻭ ﺍﻟﺨﺘﺎن ﺃﻭ ﻏﻴﺮﻫﺎ، ﺣﻴﺚ تتراصّ ﻧﺴﺎﺀ ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ﻫﺎﻣﻲ ﻋﻠﻰ ﺷﻜﻞ ﺩﺍﺋﺮة، تتولى ﻓﻴﻪ ﺇﺣﺪﺍﻫﻦ ﺍﻟﻐﻨﺎﺀ ﻭﺍﺿﻌﺔ ﻧﻔﺴﻬﺎ ﻣﻮﺿﻊ مايسترو ﺍﻹﻳﻘﺎﻉ.
فيما يقمن البقية ﺑﺎﻟﺘﺼﻔﻴﻖ ﻭﺗﺮﺩﻳﺪ ﻣﻘﺎﻃﻊ ﺍﻟﻐﻨﺎﺀ، ﺍﻟﺬﻱ ﻳﺼﺎﺣﺒﻪ ﺗﺪﺭﻳﺠﻴًّﺎ ﺧﺮﻭﺝ ﻟﺒﻌﺾ ﻋﻨﺎﺻﺮ اﻟﻤﺠﻤﻮﻋﺔ ﻭﻓﻲ ﻓﺘﺮﺍﺕ ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ إلى ﺧﺎﺭﺝ ﺍﻟﺤﻠﻘﺔ، ﻭتقمن ﺑﺎﻟﻘﻔﺰ وﺍﻟﺪﻭﺭﺍﻥ ﺣﻮﻝ ﺃﻧﻔﺴﻬﻦ ﻣﻊ ﺇﺻﺪﺍﺭ ﺃﺻﻮﺍﺕ ﺭﻧّﺎﻧﺔ ﺗﺸﺒﻪ ﺍﻟﺰﻏﺎﺭﻳﺪ، تصاحبها ﺳﺮﻋﺔ ﻓﻲ ﻭﺗﻴﺮﺓ ﺍﻟﺘﺼﻔﻴﻖ ﻭﺍﻟﻐﻨﺎﺀ إلى ﺃﻥ يعدن إلى ﻣﻜﺎﻧﻬﻦ ﺍﻟﺴﺎﺑﻖ ﻓﻲ ﻧﺴﻖ ﺍﻟﻤﺠﻤﻮﻋﺔ.
في هذا السياق، اهتم المجتمع الصحراوي بالموسيقى بالعموم، فقد تعددت الفرق الموسيقية التي عرّفت العالم بهذه الشعوب، مثل فرقة كتيناروين وإمرهان وتاميكرست وبامبينو وغيرها، حافظت على ثقافتها بالغناء واللباس التقليدي الصحراوي في أي حفل تحييه في مختلف بقاع العالم.
رجال ملثمون
بينما تكشف المرأة عن وجهها، وفي أكثر الأحيان عن شعرها، يلتزم الرجال في الصحراء، خاصة الطوارق، بوضع اللثام الذي يغطي الرأس والوجه بالكامل، باستثناء العينَين، ويلف على الرأس ليشكّل عمامة كبيرة.
يبلغ طول لثام الطوارق عادة نحو 5 أمتار من القماش الرقيق، يكون من اللون الأزرق أو الأسود أو الأبيض، ويستخدَم كرمز على احترام التقاليد الاجتماعية التي تعتبر ارتداء اللثام دليلًا على الاحتشام والوقار وحبّ التميُّز أيضًا.
يرتدي الطوارق اللثام عند بلوغ أعمارهم سن الـ 15 إلى حيت الوفاة، ولا يرفعونه عن وجوههم، حتى أن البعض يطلق عليهم لقب “الملثمون”، وبموجبه يكتسب الفرد مكانته الاجتماعية بين أفراد قبيلته.
يرجع بعض المؤرّخين سبب ارتداء سكان الصحراء للثام وتمسكهم به، إلى الحياء الغالب على تلك الشعوب، فيعتبر الصحراويون وضع اللثام داخل وخارج البيت شيئًا مقدسًا ولا يتسامحون مع أي رجل أزاله، كما أن للثام ضرورة صحية، فهو يحمي الجسم من أشعّة شمس الصحراء الحارقة وعواصفها الرملية الهائجة بين الفينة والأخرى.
تشير طريقة ارتداء اللثام عند الطوارق إلى القبيلة التي ينتمي إليها الفرد، حيث يقول الطوارق “إنه إذا نزع الطوارقي لثامه فمن الصعب التعرّف إليه”، لأن اللثام يشكّل جزءًا من شخصيته وهويته، لذلك لا يمكن التنازل عنه والتساهل في نزعه.
تقدم هذه المعطيات إطلالة محدودة عن حياة الصحراء الكبرى، ولا يمكن إنصافها بما يكفي بالحديث عن الترحال والإبل واللثام فحسب، فقد احتضنت هذه المنطقة مجتمعات واسعة ومتنوعة الخلفيات والثقافات والهويات، شكّلت بتفاعلاتها جزءًا هامًّا من تاريخ المنطقة على الصعيدَين السياسي والاقتصادي، وهو ما سيكون محور التقارير القادمة من ملف “الصحراء الكبرى”.