عن المُشرّدين بين المنافي وشتات الأرض، الباحِثين عن وطنٍ آمنٍ في عالمٍ مجنونٍ، عن شباب الإخوان الذين فرّوا من جحيم مصر بعدما حُصِروا بين رصاصةٍ في الصدر وخنجرٍ في الظهر! بعدما صاروا بين شهيدٍ وأسيرٍ ومُطارَدٍ، صار هناك خَيارًا رابعًا: الهجرة.
شبابٌ في مُقتبل أعمارهم لم ينعموا بطيش شبابهم، وشيوخٌ لم يحلموا بغُربةٍ جديدةٍ في آخر العُمر، والأقسى، طُلابٌ فصلتهم جامعاتهم أو طاردتهم، فخيّرتهم بين السجن أو المنفى، سيقطعون الآن تلك الصحراء المُقفهِرّة إلى السوادن، فمنهم من يعلَق فيها ولا يستطيع الخروج، ومنهم من تكون محطة لرحلة أخرى أو رحلات أخرى لا تنتهي بحثًا عن الحياة!
أصبح المُستقبل بالنسبة للجميع أسودًا، لا ملامح له، انهارت أحلامهم؛ فتركوها أنقاضًا تحت مُجنزرات دبابات الجِنرال المعتوه، خرجوا ينزفون ألمًا من فقد حبيبٍ وصديقٍ، الهزيمةُ كانت مُرّة وسريعة، لم تصمد خيمتهم في وجه السيل، اقتلعتها الريح وأغرقها الموج، يتسللون عبر الحدود فارّين، يخرج أحدهم كموسى خائفًا يترقب، ولا أهل مدين يأونه! ينظر حوله فلا يرى غير أنقاض جماعته، يتشاجرون بما تبقى من حُطام سفينتهم التي خرقوها بأيديهم، يُظلَم بعد ظُلمٍ، ولكن ظُلم الحبيب أقسى وأنكى.
مئاتُ الطُلاب، بل آلافٌ يعانون من أزماتٍ ماليةٍ ليستكملوا دراستهم بعدما تأخروا سنين دراسية، بعضهم ضاعت سنوات جامعته الأربعة ولم يزل في الفرقة الأولى! يطلب مالًا من هذا وذاك
مئاتُ الطُلاب، بل آلافٌ يعانون من أزماتٍ ماليةٍ ليستكملوا دراستهم بعدما تأخروا سنين دراسية، بعضهم ضاعت سنوات جامعته الأربعة ولم يزل في الفرقة الأولى! يطلب مالًا من هذا وذاك، فيُصيب ما يربط معه حزامًا على بطنه علَّ حفنة الدولارات تلك تكفيه شهور دراسته.
السودان، تركيا، قبرص، ماليزيا، وجهاتٌ أربعة لراغبي استكمال دراستهم الجامعية، السودان بلدُ العالِقين الذين لم يستطيعوا الخروج منها لأسبابٍ مُختلفة، فلا أحد يرجو أن يعيش في بلدٍ فقيرٍ يُعاني من العقوبات كالسودان، تركيا الحلم الذي يداعب مُخيلة الجميع، بلدٌ جميلٌ، وعملٌ في قناةٍ إعلامية من “قنوات الشرعية”، وتوددٌ لبعض القيادات يُقيم به حياته، قبرص مجرد محطة لتركيا، وماليزيا بعيدة بعض الشيء.
لا يوجد رقمٌ دقيقٌ بعدد أولئك الطلاب المهاجرين، ولكن يُقدّرون بالآلاف، آلافٌ عالِقون بين نزيف ألمٍ خرجوا به من مصر لا يتوقف، ومشاكل اقتصادية طحنتهم وهم ما زالوا في مُقتبل حياتهم، وخذلان جماعتهم التي تنكّرت لمن خالف رأي قياداتها التاريخية المانحة والمانعة لحقّهم في كفالة الجماعة لهم بعدما ضحوا في سبيلها.
السؤال الذي يؤرق الجميع هنا: وماذا بعد؟ هل هذه هي النهاية؟ سنعيش هنا في شتات الأرض، لن نعود للديار، للأهل والصحب والرِفاق، لحلمنا الذي حلمناه في ثورتنا منذ 6 سنوات؟ لن نرى العدل في وطننا المظلوم، لن نُضحي في سبيله، هل كرهِناه حقًّا أم أنها مرارة الهزيمة والخُذلان؟
أسئلةٌ بلا جوابٍ أو صدى..
نصٌ على لسان مُهاجِر:
” مهزومون، مُشرّدون، مقتولون، ومخذولون، شتاتُنا كشتات بني إسرائيل، ندفع ضريبة تِيه جيلٍ أضلّ جيلًا لا ذنب له إلا أنه أذكى منه عقلًا وأزكى منه قلبًا، أُلقوا في آتون المحنة، فخرجوا منها رجالًا لم تزيدهم النارُ إلا نقاوةً ورُشدًا ونُضجًا، فلم يندموا على حربٍ أنضجتهم.
بين فيافي الأرض ومنافيها، قبورها وسجونها، صارت أقدارنا، لونُ الدماء صار الحقيقة الوحيدة التي لا زيف فيها، قد مللنا الشعارات التي يصبغ بها الشائخون خيبتهم، لقد صِرنا شيوخًا في مُبتدأ أعمارنا، بعدما اغتالنا الفقدُ، وتجرّعنا الخُذلان كؤوسَ عجزٍ ممزوجةً بألم، بعدما قاتلنا بسنا سيوفٍ من خشب!
الآن نحن هنا، على قارعة الطريق، على هامش النص، وحاشية المتن، في شتات الأرض نبحث عن وطن، غُرباء ضللنا سبيل الخروج، أُخرِجنا من ديارنا على غير رضى منّا بعدما انتهت الجولة
الآن نحن هنا، على قارعة الطريق، على هامش النص، وحاشية المتن، في شتات الأرض نبحث عن وطن، غُرباء ضللنا سبيل الخروج، أُخرِجنا من ديارنا على غير رضى منّا بعدما انتهت الجولة، فأدركنا أننا كُنّا نُقاتِل في الجانب الخطأ، وتحت الراية الخطأ، وفي الزمان الخطأ، قاتلوا في جيشٍ بلا قادة، وقادةٍ بلا فكرٍ، وفكرٍ بلا وحيٍّ، ووحيٍّ بلا عقلٍ، وعقلٍ بلا ميزان!
عزاؤنا أننا لم نكُن ممن كانوا على هامش المعركة، في محرابٍ الدراويش، أو قوقعة المُنظِّرين، بل صنعنا تجربة في البداية لتصنعنا هي في النهاية، تحمّلنا الأمانة يوم فرّ منها الفارون، وحملنا الراية في وجه العاصفة، تكفينا نيّاتُنا، ورأينا الذي اجتهدناه ولم نألوا، والآن وقد تعلّمنا الدرس، فلنعرف أين نحن من ذلك العالم الكبير، وكيف يسير؟ والأهم كيف نلِج مركزه بدلًا من الهامش الذي لا نبرح أن نكون فيه ردود أفعال ليس إلا”.
في سبيل الخروج من التِيه.. الخلاص الفرديّ
صارت قناعةٌ لدى كثيرين هنا بأنّ زمان التِيه الذي يعيشون فيه ليس للخروج منه سبيلٌ سِوى “الخلاص الفرديّ”، فهذا زمن الحلول الفردية والتروس الصغيرة، لا الآلة الكبيرة المُترهِلة، وإن كان هناك لا بُد من نظمٍ مُعينٍ للحركة، فسيكون نظامًا لا تنظيمًا، أيّ إطارٍ عامٍ يتفق عليه جيل الشتات للخروج من نفق التِيه، فهم بين منافي الأرض مُشرّدون، ولا مكان يجمعهم، ينطلِقون منه كتأسيس المدينة بعد الهجرة، ولا العالم اليوم هو ذلك العالم المُتنائي.
الحِراك الحالي يجب أن يكون حِراكًا فكريًّا يُعيد تعريف الذات، وموقعها من العالم
الحِراك الحالي يجب أن يكون حِراكًا فكريًّا يُعيد تعريف الذات، وموقعها من العالم، خارج ضِيق القوالب الأيدلوجية سابقة الصّب، يعرفون ما هو العالم الذي يحيون فيه، وكيف يسير، وكيف ينحِتون على جُدرانه آثار حضارتهم، فما كان شتاتهم إلا لجهلهم، ينبغي أن يكون الحِراك فكريًا لأن الزمن زمن اليأس والهزيمة، ولأن مرحلة الحِراك السياسي الذي بدأ بعد ثورات الربيع العربي، قد أوقفت سيله الثورات المضادة، وانقلبت على تجربته الانقلابات العسكرية والقوى الإقليمية والدولية، فلم يعُد هناك مُتسع أو أُفق لأي حِراكٍ سياسيٍّ.
ولا يقول عاقلٍ بأن الحالة الإسلامية الآن برُمتها، والإخوان المُسلمين بشكلٍ خاص لا تحتاج إلى مثل هذه الحركة التصحيحية، والعمل التنظيري العميق والطويل لإعادة تعريف نفسها، وتُعيد موضعة نفسها من جديد في قلب الحالة الإسلامية والعالم، لتحاول جاهدةً أن ترجع إلى مركز الفِعل الوطني والإقليمي والعالمي بعدما طُردت إلى هامشه، ولن يكون ذلك إلا بتمكين أولئك الشباب المُهاجِرين من الضرب في الأرض، والتعرُّف على العالم، أن يطلبوا العلم ولو في الصين، ولو في بلاد الكُفر العاتي! أن يخرجوا من ضيق التنظيم إلى رحابة الأمة، فلا ينبغي أن تحبسهم في دهاليز تنظيمها المترهل، وتُمارس سلطة أبوية ليس لها الحق في ممارستها، فتُعيد عليهم الاستبداد الذي منه فرّوا، وتُحطِم ما بقي عندهم من أملٍ في بداية رحلةٍ جديدةٍ من التعلُّم من دروس الماضي، ومن المعارك الكبيرة التي خسِروها لحداثة سنهم وعلمهم.