في اجتماع الجمعية العمومية الـ56 للبنك المركزي الإيراني الذي عُقد في 27 من فبراير/ شباط، ألقى الرئيس الإيراني حسن روحاني كلمة تناول فيها عددًا من الملفات الاقتصادية المهمة المتعلقة بالسياسات النقدية وأبرزها ملف إصلاح القطاع المصرفي، تحدث روحاني عن الاقتراض المتزايد من البنك المركزي والاعتماد المالي المتزايد عليه من قبل مصارف البلاد، كما أنه أشار إلى عدد من المشكلات التي تعاني منها المصارف كعدم الشفافية في إصدار التقارير المالية وتحديد أسعار الفائدة كما أشار إلى مشكلة عدم استقرار العملة التي يجب معرفة أسبابها الفعلية ومعالجتها.
في المقابل ثمن الرئيس من تزايد قدرة إقراض بنوك القطاع الخاص خلال العام الماضي، ولكنه أكد على ضرورة تقليص أسعار الفائدة وإعطاء تقييمات للمصارف بناء على معدل إقراضها، كي لا تتساوى جميع المصارف ببعضها، ولكن عزا أيضًا الرئيس روحاني جزءًا من مشكلات إيران الاقتصادية إلى الولايات المتحدة الأمريكية التي قال إنها لم توف بجميع التزاماتها، وأشار إلى حالة الفوبيا التي تنتاب المصارف الدولية حيال إعادة علاقاتها مع نظيراتها الإيرانية بسبب سياسات واشنطن.
في نفس اليوم الذي التقي فيه روحاني بأعضاء الجمعية العامة للبنك، أصدرت بعثة صندوق النقد الدولي إلى إيران تقريرها السنوي لعام 2016 (يمكن قراءة ملخص التقرير هنا)، وتعود أهمية هذا التقرير على وجه الخصوص إلى عدد من الأسباب، السبب الأول هو الفاصل الزمني القصير بين وقت إصدار التقرير والانتخابات الرئاسية القادمة التي ستعقد في شهر مايو/ أيار المقبل.
والسبب الثاني في سياق السبب الأول، يعود إلى تأثير التقرير على مزاج المستثمرين الأجانب ورؤيتهم لمستقبل الاقتصاد الإيراني بعد الانتهاء من الانتخابات الرئاسية، والسبب الثالث هو تركيز التقرير بصورة كبيرة على مشكلات القطاع المصرفي الإيراني الذي باتت الأضواء مسلطة عليه بصورة متزايدة نظرًا لهيكلية مشاكله التي تجعل من حلها مسألة يطول أمدها على الرغم من حساسيتها، حيث تعتمد معظم النشاطات الاقتصادية في إيران على إقراض المصارف والمؤسسات الائتمانية مع وجود بورصات وسوق سندات لها دور تمويلي ضعيف نسبيًا نتيجة العزلة الدولية.
ومن أبرز الأشياء التي ميزت تقرير الصندوق الأخير عن الاقتصاد الإيراني على وجه الخصوص هي ورود كلمة “عاجلية” Urgency خمسة مرات تقريبًا مقارنة بتقرير الصندوق لعام 2015 الذي لم تُذكر فيه الكلمة سوى مرة واحدة، ولكن في المقابل، ثمن تقرير الصندوق الأخير ما أسماه الـ”التعافي المبهر” للاقتصاد الإيراني بعد رفع العقوبات الدولية.
على الصعيد الدولي (إعادة تشكل سياسات واشنطن حيال طهران وإقليم الشرق الأوسط) تلقي بشكوك على قدرة طهران بقيادة الرئيس روحاني، على حل مشكلات القطاع المصرفي الإيراني
لا شك أن حالة اللايقين السياسي داخل إيران (الانتخابات الرئاسية) وعلى الصعيد الدولي (إعادة تشكل سياسات واشنطن حيال طهران وإقليم الشرق الأوسط) تلقي بشكوك على قدرة طهران بقيادة الرئيس روحاني، على حل مشكلات القطاع المصرفي الإيراني مع تزايد عدم الثقة في الرئيس في الداخل الإيراني بصورة تحد من حصوله على دعم سياسي لتنفيذ إصلاحات.
إذ يتميز القطاع بدرجة عالية من التسييس، وذلك لأن قسمًا من المصارف الإيرانية يرتبط بمؤسسات ثورية بصور مباشرة وغير مباشرة وتعتمد في المقابل الشركات العملاقة التي تتبع بصورة مختلفة مؤسسات ثورية (الحرس الثوري والبنياد) تستحوذ على حصص كبيرة من الاقتصاد، على قروض من المصارف ومؤسسات الائتمان، مما يجعل من إصلاح القطاع هيكليًا مسألة تمس أطراف ذات قوى نافذة في صلب مؤسسات الدولة الإيرانية (على ارتباط بالمرشد الأعلى) وليس الإدارة السياسية المنتخبة فقط.
يوضح هذا الشكل علاقة المؤسسات الإيرانية المنتخبة وغير المنتخبة ببعضها وبالمرشد الأعلى (المصدر: موقع ميدل إيست أورينت)
ينقسم تقرير صندوق النقد الدولي إلى ثلاثة أجزاء رئيسية، الجزء الأول يتناول التطورات الاقتصادية ومستقبليات الاقتصاد والمخاطر، ويتناول الجزء الثاني مناقشة السياسات، أما الجزء الثالث فيتناول تقييم الخبراء، يعالج كل جزء من هذه الأجزاء الاتجاهات العامة للاقتصاد من زوايا مختلفة ولكن بصورة تكاملية، وتمثل المعلومات التالية أبرز ما تضمنه تقرير الصندوق:
أولًا: التطورات الاقتصادية ومستقبليات الاقتصاد والمخاطر
النمو: مدعومًا بتنامي الإنتاج وارتفاع الصادارات النفطية، نما الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي في النص الأول من العام المالي 17/2016 بنسبة 7.4% ليحقق تعافيًا مقارنة بالعام المالي 16/2015، ولكن يظل نمو القطاعات غير النفطية ضعيفًا ليقف عند 0.9%، عاكسًا استمرار مشكلات الولوج إلى مصادر تمويل واستمرار تراجع الاستهلاك، كما أن نسبة البطالة ارتفعت في الربع الثاني من العام المالي إلى 12.7%.
ولكن فيما يخص النمو، يتوقع خبراء الصندوق أن يستقر نمو الاقتصاد الإيراني ويصل إلى 4.5%على المدى المتوسط، ومن المتوقع أن يكون النمو قد وصل إلى 6.6% خلال العام المالي 17/2016 وأن يتراجع إلى 3.5% خلال العام المالي القادم حيث إن إنتاج إيران من النفط سيكون في إطار الحدود التي وضعتها منظمة الأوبك.
التضخم: تراجع معدل التضخم السنوي إلى 6.8% في يونيو/ حزيران 2016 من 45% بعام 2013، منذ ذلك الحين تأرجح معدل التضخم عند حدود 9.5% بسبب ارتفاع أسعار الغذاء العالمية ونمو السيولة النقدية في إيران، وقد ارتفع المعروض النقدي السنوي بنهاية العام الماضي إلى 28.3% بسبب دعم البنك المركزي لمصارف البلاد واعتماد الحكومة على الإمكانات الائتمانية المتزايدة.
يتوقع خبراء الصندوق ارتفاع التضخم السنوي إلى 11.9 بنهاية العام المالي القادم بصورة مؤقتة بفعل نمو السيولة النقدية وتراجع قيمة الريال الإيراني
ويتوقع خبراء الصندوق ارتفاع التضخم السنوي إلى 11.9 بنهاية العام المالي القادم بصورة مؤقتة بفعل نمو السيولة النقدية وتراجع قيمة الريال الإيراني، ولكن من المتوقع أن ينخفض التضخم عن عتبة الـ10% مع تمتع السياسات النقدية والمالية بالعقلانية والحذر، وفيما يخص خلق الوظائف لا تزال قدرة الاقتصاد على خلق وظائف ضعيفة وتحتاج للتطور لاستيعاب الأعداد المتزايدة من الأشخاص العاطلين من العمل.
السياسات المالية: زاد العجز المالي غير النفطي للحكومة من نصيب الناتج المحلي غير النفطي من 8.2% في العام المالي 15/2014 إلى 9 في العام المالي التالي ومن المتوقع أن يزيد إلى 10.6% في العام المالي القادم، ويعزو خبراء الصندوق ذلك إلى عدم كفاية التحصيلات الضريبية للحكومة والارتفاع المتزايد للإنفاق الحكومي والتحويلات المالية التي تقوم بها الحكومة لمنظمة استهداف الدعم، وقد زاد العجز المالي للحكومة في السنوات الماضية إلا أن الموازنة العامة التي أعدتها الحكومة في نهاية العام الماضي تستهدف القضاء على العجز مع توقع عائدات نفطية أعلى خلال العام المالي المقبل.
السياسات النقدية: تراجعت أسعار الفائدة على الإيداع خلال العام الماضي من 18 إلى 15% وتراجعت أسعار الفائدة على الإقراض من 20 إلى 18%، ولكن تظل أسعار الفائدة مرتفعة بسبب حجم القروض المتعثرة التي راكمتها البنوك، وقد وُجهت البنوك إلى إقراض الشركات الصغيرة والمتوسطة 10% على الأقل من مجموع ما ستقرضه، وقد تم خفض الاحتياطي الإلزامي من 13 إلى 10% بصور انتقائية بناء على تقييمات قامت بها الحكومة لحجم الأصول التي تملكها وإدارة مخاطرها.
يرى خبراء الصندوق أن القطاع المالي الإيراني يظل ضعيفًا، وتصل نسبة القروض المتعثرة إلى 12% من مجموع القروض ولكن كان من الممكن أن تكون أعلى من ذلك لو لم تقم الحكومة بوضع أطر منظمة جديدة ولم تسر في طريق إعادة هيكلة الديون، كما كشف تطبيق السلطات الإيرانية للمعايير الدولية لإعداد التقارير المالية عن تراجع نسبة كفاية رأس المال في المصارف من 8.4 في 2012 إلى 5.8% بمارس/ آذار عام 2015 ويظل جذب الإيداعات هو مصدر الربح الرئيسي الذي تركز عليه المصارف إذ تتجه الأخيرة إلى مخالفة أسعار الفائدة التي يعلنها البنك المركزي للتنافس على جذب المودعين.
أي تحديات ستحول دون تطبيق إيران توصيات مجموعة العمل المالي ((FATF، التي تستهدف مكافحة غسيل الأموال وتمويل الإرهاب، ستحول دون استئناف علاقات المصارف الإيرانية مع البنوك العالمية
يرى خبراء الصندوق أن أي تحديات ستحول دون تطبيق إيران توصيات مجموعة العمل المالي FATF، التي تستهدف مكافحة غسيل الأموال وتمويل الإرهاب، ستحول دون استئناف علاقات المصارف الإيرانية مع البنوك العالمية، ولكن تظل حالة عدم اليقين التي تخيم على مستقبل الاتفاق النووي ومستقبل العلاقات مع الولايات المتحدة تردع المستثمرين الأجانب من دخول السوق الإيرانية ويضرب التعافي السريع المتوقع، كما أن إلغاء الاتفاق النووي قد يؤدي باقتصاد البلاد إلى العودة لحالة الركود التي كانت تعاني منها.
ثانيًا: مناقشة السياسات
يرى خبراء صندوق النقد الدولي احتياج البنوك الإيرانية المملوكة إلى الدولة إلى إعادة هيكلة رأس مالها من أجل ضمان ربحيتها طويلة المدى وضمان ثبات توجهاتها، ولكن في النهاية سيتوجب على الحكومة تقليص جميع أشكال الدعم المعتمد على الموازنة العامة، ويرى الخبراء ضرورة توحيد أسعار صرف الريال الإيراني بشكل مبكر.
يوصي خبراء الصندوق بدعم القوى الرقابية للبنك المركزي في القطاع المصرفي، إذ تعطي مشاريع قوانين تعديل صلاحيات البنك المركزي رقابة أكبر للبنك المركزي في الإشراف على المؤسسات المالية التي تتلقى ودائع وفي التمتع بصلاحيات أعلى في إعادة هيكلة المؤسسات المالية رأسماليًا، وكذلك سيتمكن البنك المركزي من ضمان شفافية ممارسات المصارف وتطبيق معايير بازل، ولكن يرى الخبراء نقاط ضعف في هذا المشروع تتمثل في وجود ممثلين حكوميين في هيكل إدارة البنك المركزي، وهو ما لا يقلل التدخل الحكومي على الرغم من السلطات الرقابية الأكبر التي سيتمتع بها البنك.
يركز الخبراء في أكثر من جزء وخاصة في الجزء الخاص بمناقشة السياسات على ضرورة تطبيق خطة عمل مجموعة العمل المالي من أجل مكافحة تمويل الإرهاب وغسيل الأموال، على الرغم من ثناء الخبراء على مجهود السلطات الإيرانية في هذا المجال إلا أنهم أوصوا بضرورة التطبيق الكامل لخطة العمل.
ثالثًا: تقييم الخبراء
يرى خبراء الصندوق أن الاقتصاد الإيراني يتعافى بصورة مبهرة بعد رفع العقوبات الدولية في عام 2016، فقد تعافى الإنتاج النفطي أسرع من المتوقع ولكن لا يزال نمو القطاعات الاقتصادية غير النفطية ضئيلاً.
التحدي الأكبر هو كيفية جعل النمو الاقتصادي في إيران مستدام ومستقر
التحدي الأكبر هو كيفية جعل النمو الاقتصادي في إيران مستدام ومستقر، فاستمرار حالة اللايقين تؤكد أهمية تنفيذ إصلاحات من أجل تخفيف اعتماد إيران على عائدات النفط، تنمية القطاع الخاص، مراكمة احتياطات، يجب على السلطات تنفيذ خطة الإصلاح سريعًا من أجل الوصول إلى هذه الأهداف، ويجب إعطاء الأولوية لإعادة هيكلة المصارف الإيرانية.
إصلاح القطاع المصرفي في إيران أصبح ضرورة عاجلة من أجل جعل الاستقرار المالي مستدام وخفض معدلات الإقراض المرتفعة.
اتباع سياسة مالية عقلانية حصيفة وضبط السيولة النقدية مهمين من أجل إبقاء معدل التضخم تحت التحكم والتمهيد لتوحيد أسعار الصرف.