صارت زيارة صندوق النقد الدولي إلى مصر أشبه بكابوس على المصريين، فمع كل زيارة هناك تقييم للأوضاع الاقتصادية المتردية والمزيد من الإملاءات التي يتحمل عبئها الفقراء بدرجة كبيرة مقابل الإفراج على الشرائح الأخرى من القرض، وما يصعّب الموقف أكثر أن الحكومة المصرية توافق على تلك الإملاءات غاضة النظر عن حجم الكارثة التي تلحقها بالفقراء وذوي الدخل المحدود.
مصر بانتظار بعثة الصندوق
تنتظر مصر بعثة صندوق النقد الدولي لتحديد مصير الشريحة الثانية البالغة 1.25 مليار دولار والمحدد صرفها في أبريل/ نيسان المقبل، من أصل المبلغ الإجمالي للقرض والبالغ 12 مليار دولار والذي سيصرف على مدار 3 سنوات.
وقد بدأ يساور الشارع المصري مخاوف كبيرة جراء هذه الزيارة وما قد يترتب عليه القرض الثاني لصندوق النقد، فالشريحة الأولى من القرض التي أفرج عنها في نوفمبر/ تشرين الثاني والبالغة 2.75 مليار دولار، لم تصرف عمليًا إلا مقابل تطبيق الحكومة حزمة من الإجراءات منها إقرار ضريبة القيمة المضافة بنسبة 13% وتعويم الجنيه والتي أدت لارتكاسات خطيرة تسببت بوصول سعر صرف الجنيه المصري أمام الدولار إلى متسويات مرتفعة لامست 19 جنيهًا مرتفعة من 8.88 جنيه أمام الدولار.
تنتظر مصر بعثة صندوق النقد الدولي لتحديد مصير الشريحة الثانية البالغة 1.25 مليار دولار والمحدد صرفها في أبريل/ نيسان المقبل
بالإضافة لانسحاب الحكومة عن دعم العديد من المنتجات والخدمات الأساسية كالكهرباء والمياه ومواد الطاقة، وارتفع معدل التضخم بشكل غير مسبوق ليصل إلى 30.86% على أساس سنوي في يناير/ كانون الثاني الماضي وفق بيانات البنك المركزي علمًا أن هذه النسبة الأعلى في 10 سنوات.
جملة تلك الإجراءات المتخذة مست بالدرجة الأولى الفقراء وذوي الدخل المحدود الذي وجد أن الجنيه الذي في جيبه انخفضت قيمته بحيث لم يعد قادرًا على شراء نفس كمية السلع والخدمات كما كان سابقًا، وأن السلعة والخدمة التي كان يحصل عليها بسعر معين ارتفع سعرها كنتيجة طبيعية للتعويم، كما أن رفع الدعم عن السلع والخدمات الأساسية كالكهرباء والماء والدواء وغيرها أثقل كاهل المواطن واستنزف المزيد من مدخولاته الشحيحة أصلاً.
كما اختفت أصناف من منتجات أساسية غذائية ودوائية من الأسواق بسبب حالة عدم الاستقرار في سوق الصرف، وفي الوقت الذي بقي مرتب/ أجرة الشخص الشهري كما هو دون زيادة، فقد وجد المواطن في نهاية الشهر أن راتبه بات مستنزفًا بفعل ما طيث ويطبق من إجراءات الحكومة الاقتصادية ولم يعد قادرًا على تحمل تكاليف المعيشة اليومية بالحد الأدنى.
لم تكشف الحكومة المصرية عن بنود الاتفاق مع صندوق النقد الدولي، إلا أن صندوق النقد مجبر على كشفها بعد مدة محددة من ذلك الاتفاق، وقد كشفت الوثائق عن شروط كثيرة على الحكومة الالتزام بها لقاء القرض، وتدور هذه الشروط حول اتباع سياسات تقشفية تقضي بتخفيف فاتورة الدعم بهدف خفض العجز المالي بالنهاية.
ارتفع معدل التضخم بشكل غير مسبوق ليصل إلى 30.86%
ويجمع خبراء أن استمرار تطبيق الحكومة لإملاءات الصندوق سيزيد من وطأة الأزمة ومن فقر الفقراء، وأن الشريحة الأخرى التي تنتظرها الحكومة من الصندوق ستسهم أكثر في زيادة حجم الأزمة مع هبوط أناس من الطبقة المتوسطة إلى الفقر بسبب طروف المعيشة التي تزداد صعوبة مع مرور الوقت.
وحسب صندوق النقد فإنه من المتوقع أن توفر الإصلاحات الحكومية إيرادات بنسبة 2.2% من الناتج المحلي الإجمالي في نهاية العام المالي الحالي الذي ينتهي في يونيو/ حزيران المقبل، منها 1% سيكون مصدرها ضريبة القيمة المضافة، وتقليص دعم الكهرباء والوقود من نفقات الحكومة بما يعادل 1.2% من الناتج المحلي الإجمالي.
وعلى الرغم من الحسابات الدقيقة التي يجريها الصندوق على الاقتصاد وبياناته قبل القبول بإقراض أي دولة، فإن كريس جارفيس رئيس بعثة الصندوق إلى مصر أعلن أنه أخطأ في توقعاته بشأن مدى انخفاض سعر الجنيه عقب قرار التعويم وتوقع أن يسجل الجنيه أمام الدولار قيمة أعلى من أسعاره الحالية وفقًا للعوامل الأساسية التي تم بناءً عليها الموافقة على القرض.
ماذا يحمل جارفيس لمصر هذه المرة
ومع اقتراب عودة بعثة الصندوق إلى مصر من غير المستبعد برأي مراقبين أن يخرج جارفيس ويقول إنه أخطأ في تقدير بعض المؤشرات الاقتصادية بعد ضخ الأموال في جسم الاقتصاد المصري، فالأرقام الاقتصادية لا تشير إلى تحسن في النشاطات الاقتصادية والوضع لا يزداد إلا سوءًا في ظل زيادة حجم الديون وفوائدها للصندوق وغيره.
من الشروط المقرر للحكومة الالتزام بها اعتزام الحكومة المصرية خفض دعم الطاقة من 6.5% إلى 1.75% من الناتج المحلي الإجمالي ومن ثم خفضها إلى أقل من 0.5% فيما بعد، مما يعني أن هناك المزيد من رفع الأسعار على الطاقة وهو ما قد يعكس ارتفاعًا على سلع وخدمات كثيرة تعتمد في إنتاجها على الطاقة، وكذلك اتباع إجراءات تضمن خفض التضخم إلى أقل من 10% خلال سنتين.
وعلى الحكومة المصرية بحلول 31 من مارس/ آذار الحابي تبني استراتيجية إعادة هيكلة قطاع الطاقة بناء على تقرير يصدره استشاري خارجي، وتجهز الحكومة سجلًا برصيد الضمانات الحكومية القائمة بحلول آخر مارس/ آذار الحالي وهذا البند يتعلق بحجم الدين الحكومي الكبير وديون الهيئات العامة التي تضمنتها وزارة المالية، كما ستلتزم الحكومة بفرض ضريبة على نشاط البورصة إما على الأرباح الرأسمالية أو على شكل ضريبة مقطوعة بحلول آخر مايو/ أيار المقبل.
تعترم الحكومة المصرية خفض دعم الطاقة من 6.5% إلى 1.75% من الناتج المحلي الإجمالي
وهناك تساؤل يفرض نفسه فيما إذا كان سينجح برنامج الإصلاح الاقتصادي الذي تعهدت مصر بتطبيقه للوفاء بالديون قبل تحقيق أي تنمية يستفيد منها المواطنون، فوثائق صندوق النقد قدرت أن ديون مصر الخارجية ستصل إلى 102.4 مليار دولار بعد الانتهاء من ذلك البرنامج.
فتراكم الديون يحتاج إلى تحريك عجلة الاقتصاد المصري بشكل سريع في القطاعات الاستثمارية للوفاء بالتزامات الديون وفوائدها، وإلا فإن الحكومة وكما يرى مراقبون ستكون مضطرة لاقتراض قروض أخرى لسداد القروض القديمة واستحقاقات الفوائد عليها، وكان وزير المالية ذكر في تصريحات نهاية العام الماضي إلى ارتفاع الديون إلى أكثر من 100% من الناتج المحلي الإجمالي، وهو أمر يستدعي الانتباه والتحرك لعدم تراكم الديون والعجز عن سدادها لكي لا تصبح عبئًا على الأجيال المقبلة.
الاقتصاد المصري يعاني برأي العديد من المراقبين من انتكاسة إصابة الدواعم الأساسية للاقتصاد سواء الصناعة أو الزراعة أو السياحة، وذلك في ظل حالة التدهور وعدم الاستقرار التي يعيش فيها الاقتصاد، وإصرار الحكومة على معالجة هذه الأزمة من خلال الاقتراض يزيد من تفاقم الأزمة سوءًا.