ترجمة وتحرير نون بوست
في الحقيقة، لا تفكر سوى القليل من النساء اللاتي وقعن ضحية لحادثة اغتصاب في الحديث عما ممرن به أو تقديم شكوى في الغرض. وفي هذا الإطار، سيتكفل متخصصان في علم النفس بتفسير الأسباب الكامنة وراء تحرج الضحايا وعدم تحدثهن حول ما عايشنه خلال تعرضهن للاغتصاب.
في الثامن من شباط/فبراير سنة 2017، نشر المرصد الوطني الفرنسي للجريمة إحصائية وصفت بالمحزنة، حيث أشارت إلى أن حوالي 13 بالمائة فقط من ضحايا الاغتصاب يقدمن شكاوى رسمية. وفي هذا الصدد، ستحاول كل من الطبيبة النفسية المتخصصة في قضايا ضحايا الاغتصاب، موريال سالمونا، وعالمة النفس في الاتحاد الوطني للتضامن مع المرأة، أني فيران، تفسير الآليات النفسية التي تمنع ضحايا الاغتصاب من الخروج عن صمتهن، أوالتقدم بشكاوى ضد المعتدي.
– هل هناك سياق محدد من شأنه أن يمنع الضحايا من سرد وقائع ما مررن به لحظة اغتصابهن؟
موريال سالمونا: هناك عدة عناصر تقف وراء ذلك، أولها؛ أن أغلب حالات الاغتصاب تحدث داخل محيط عائلي مقرب، حيث أن قرابة 90 بالمائة من حوادث الاغتصاب، يكون الجاني فيها إما أحد الأقارب أو من العائلة ذاتها، وفي الغالب تكون معظم الضحايا من القصّر. ومن هذا المنطلق، عادة ما يكون هناك رابط قوي بين المعتدي والمُعتدى عليه، وهو ما يسبب بدوره ضغوط نفسية على الضحية، إذ أنها تفكر مليا قبل أن تتقدم بشكوى ضد قريبها.
من جهة أخرى، ولحظة عملية الاغتصاب، يعمل دماغ الضحية على اجتثاث العواطف التي كانت تشعر بها سابقا تجاه المعتدي (أحد أقارب الضحية)، وتدميرها كليا، وذلك نتيجة للصدمة الحادة التي تكون تحت تأثيرها. وتؤثر هذه الآلية النفسية سلبا على قدرة الضحية في الدفاع عن نفسها، وتمنعها بعد ذلك من التقدم بشكوى رسمية ضد هذا المعتدي.
لا تفكر سوى القليل من النساء اللاتي وقعن ضحية لحادثة اغتصاب في الحديث عما ممرن به أو تقديم شكوى في الغرض
أني فيران: بالنسبة للحيثيات الدقيقة التي تمنع الضحية من التقدم بشكوى ضد المعتدي، فهي قبل كل شيء العنف الذي يستعمله المعتدي لإخضاع ضحيته، وهذا ما نطلق عليه في الاتحاد الوطني للتضامن مع المرأة، “إستراتيجية المعتدي الجنسي الخامسة”. فكلما كان المعتدي مقربا من الضحية، كلما عرف عنها جوانب من حياتها الخاصة، فضلا عن أنه يتمتع بالوقت اللازم حتى يؤثر على الضحية، ويجبرها على عدم التقدم بشكوى.
علاوة على ذلك، يستغل المعتدي صلة القرابة كسلاح، ليسلط على الضحية جوا من الرعب وعدم الإحساس بالأمان. وفي الأثناء، يعمل الجاني على وضع الضحية في عزلة، ويبطل كل محاولاتها للإدلاء بشكوى أو حتى الخوض في حادثة اغتصابها مع أحد الأطراف الأخرى في العائلة. وبذلك، ينجح المعتدي في زرع مشاعر الضعف في نفس الضحية. وعلى ضوء كل هذه المعطيات، يمكن الجزم بأنه كلما كان المعتدي من الوسط العائلي، قلت نسبة التقدم بشكوى للسلطات المختصة.
– ماذا تقصدين بقولك “يعمل دماغ الضحية على تغيير نسق العواطف”، وما هي نتائج ذلك؟
موريال سالمونا: هذا ما أطلقُ عليه أيضا اسم “التفكك العاطفي”، فمن خلال غريزة البقاء، يؤسس الدماغ علاقة قطيعة مع العواطف، مما يجعله في حالة تخدير. وبالتالي، يؤثر ذلك على حالة الضحية، التي تواجه مغتصبها بردة فعل لا مبالية، وهذا ما يفسر أسباب ارتفاع حالات الاغتصاب وتراجع عدد المشتكيات.ونتيجة لردة فعل الضحية اللامبالية تجاه الجاني، يتولد نوع من “الذهول” في ذاتها، الذي يتسبب بدوره في ظهور اضطرابات نفسية حادة بالنسبة لها.
وفي هذا الصدد، تطرقت تقارير تابعة لحملات الوقاية ضد الاغتصاب، إلى حالة الذهول التي تصاب بها الضحايا لحظة الاغتصاب، ورفعت هذه الحملات شعار “جسدك ملك لكِ، بإمكانكِ قول لا”. والجدير بالذكر أن هذه الحملات تركز في عملياتها التوعوية على المجني عليه أكثر من الجاني. فضلا عن ذلك، تسعى هذه الحملات أيضا لإبراز التداعيات السلبية على نفسية الضحية.
في المقابل، هناك العديد من الأشخاص الذين يحثون الضحية على الامتناع عن تقديم شكوى ضد المعتدي مباشرة بعد الحادثة، بل وصل بهم الأمر إلى دعوة الضحية إلى عدم مقاومة المغتصب، في حين أن المقاومة هي ردة فعل طبيعية جدا في مثل هذه المواقف.
في الثامن من شباط/فبراير سنة 2017، نشر المرصد الوطني الفرنسي للجريمة إحصائية وصفت بالمحزنة، حيث أشارت إلى أن حوالي 13 بالمائة فقط من ضحايا الاغتصاب يقدمن شكاوى رسمية
أني فيران: للأسف الشديد هناك أطباء وأخصائيين في علم النفس يفكرون بهذه الطريقة السلبية. وللعلم، فإن العلاقة بين الطبيب النفسي ومريضه مبنية أساسا على الثقة المتبادلة. وبالتالي، يمكن أن يؤثر الطبيب النفسي على إحدى مريضاته المتعرضة للاغتصاب، ويقنعها بعدم تقديم شكوى ضد من اعتدى عليها.
أنا شخصيا، قد قابلت عدة حالات من هذا النوع، حيث زارني عدة مرضى مروا بحوادث اغتصاب، وأذكر من بينهم مريضة اغتصبت وهي في سن 13 في منزلها، لحظة غياب والديها، وقد تخفى الجاني في شخصية رجل شرطة. وبعد مرور عشر سنوات على الحادثة الأليمة، أكد لها طبيبها النفسي أنها قد فتحت الباب للمعتدي بدافع “الفضول الجنسي”. وعلى ضوء المثال الذي ذكر آنفا، نلاحظ أن بعض الأطباء النفسيين يصورون لمرضاهم، من ضحايا الاغتصاب، أنهن لم يتعرضن للعنف، بل غلبت عليهن الشهوة الجنسية.
– لقد أشرت في حديثك إلى من يتحمل تباعيات هذا الإثم، ولماذا تتحمل بعض الضحايا مسؤولية ما تعرضن له من الاغتصاب؟
موريال سالمونا: عموما، تقوم الذاكرة، التي غالبا ما تكون قد تعرضت لصدمة حادة خلال حادثة الاغتصاب، بإعادة إحياء شريط واقعة الاغتصاب في ذهن الضحية. وفي الأثناء، يسترجع ذهن الضحية جل أقوال وأفعال المغتصب في تلك اللحظة.
وبالإضافة إلى ذلك، تأخذ الضحية في تذكر ردة فعلها، كإحساسها بالاشمئزاز والانحطاط والإهانة، إلى غير ذلك. ومن هذا المنطلق، تتأثر نفسية الضحية وتضطرب بشكل كبير، لدرجة أنها تأخذ في إلقاء اللوم على نفسها، وتُحملها مسؤولية ما تعرضت له. والجدير بالذكر أن عدة ضحايا لا يقدرن على رفض ما يمليه عليهن المعتدي، حيث أنهن يشعرن بحالة من الضعف أمام سيطرة المعتدي اللغوية والجسدية.
أني فيران: يعتبر الاغتصاب بمثابة عملية سطو جسدي ونفسي، حيث يعمل الجاني على امتلاك الضحية والتحكم فيها حتى يتمكن من فرض إرادته. علاوة على ذلك، لا يقدر المعتدي نفسه على السيطرة على أفكاره خلال اغتصابه لضحيته. بعد ذلك، أي بعد أن ينهي جريمته، يشرع المعتدي في إلقاء اللوم على الضحية فضلا عن أن يحملها مسؤولية ارتكابه لهذه الجريمة.
وبصفة أوضح، يتحول المعتدي من ذئب إلى شاة، أو من صياد إلى فريسة، ويحمل مسؤولية ما قام به من فعلة شنيعة للضحية، إذ يلومها على عدم دفاعها عن نفسها وعدم صراخها وانسياقها لرغباته الشهوانية، أو يتهمها بالإثارة الجنسية… وفي هذا الإطار، يمكننا القول بأن أول من يلوم الضحية هو المعتدي، ثم بعد ذلك النظام القضائي.
يترتب على عملية الاغتصاب حالة من الصدمة نتيجة للعنف الذي تعرضت له الضحية خلال ذلك، الذي يخلق بدوره إحساسا بالخزي في داخلها
موريال سالمونا: هنالك عدد لا بأس به من الضحايا اللواتي مررن بإجراءات وأحكام قضائية لم تكن في حسبانهن. في الحقيقة، وخلال المحاكمة، تتواجه الضحية مرة أخرى مباشرة مع الجاني، مما يشكل صدمة لها. كذلك، فإن محامي الدفاع عن الجاني عادة ما يلجأ لاستعمال كل الوسائل الممكنة بهدف التأثير على القضاء، مما ينعكس أيضا على قرار المحكمة. في الواقع، أذكر أن بعض مريضاتي قد انتحرن بسبب الإجراءات القضائية التي لم تنصفهن.
أني فيران: يعد موقف المجتمع من ضحايا الاغتصاب، موقفا ظالما على جميع الأصعدة. وفي هذا الصدد، أكدت لي عدة نساء أنهن تعرضن لمعاملة سيئة خلال تقدمهن بشكوى في مراكز الشرطة. في الحقيقة، أنا لا أثق كثيرا بفكرة أن رجال الشرطة قد يؤثرون سلبا على المجني عليها من خلال الاستهزاء والسخرية منها، مما يجبرها فيما بعد إما على سحب شكواها أو عدم التقدم بها.
حقيقة، أنا أؤمن أن حق التشكي والدفاع عن الذات لا يمكن لأحد أن يسلبه من النساء اللواتي تعرضن للاغتصاب. في المقابل، لا أنكر أن ضحايا الاغتصاب يتعرضن للعديد من الضغوط، حيث تعتبر ملاحقتهن للمعتدي أشبه إلى حد ما “بقتال سيزيف”، (فبحسب الميثولوجيا الإغريقية، حكم على سيزيف بحمل صخرة من أسفل الجبل إلى أعلاه، فإذا وصل القمة تدحرجت الصخرة إلى الوادي، فيعود بها إلى القمة من جديد).
ومن جانب آخر، في القانون الفرنسي، فإن قرينة البراءة في حالات الاعتداء الجنسي تتخذ بعدا هيكليا في أطوار القضية. فضلا عن أن أعباء إثبات الجرم تقع على عاتق الضحية. فعلى سبيل المثال، بإمكان النائب العام فقط الحصول على شهادة طبية كدليل ضد المعتدي، إلا أن ذلك قد يكون صعبا ومستحيلا في العديد من الحالات.
علاوة على ذلك، لا تعد نتائج الفحص النفسي للضحية دليلا ذو أهمية كبرى، وحتى وإن اتُّخذ هذا الفحص كدليل، فالهدف منه ليس إثبات تعرض الضحية للعنف لحظة اغتصابها، بل يهدف إلى التأكد من عدم تعرض الضحية لاضطرابات نفسية؛ لإضفاء شيء من المصداقية على شهادتها.
هنالك عدد لا بأس به من الضحايا اللواتي مررن بإجراءات وأحكام قضائية لم تكن في حسبانهن. في الحقيقة، وخلال المحاكمة، تتواجه الضحية مرة أخرى مباشرة مع الجاني، مما يشكل صدمة لها
– في خضم هذا الإحساس بتحمل المسؤولية، تشعر الضحايا أيضا بالخزي، فكيف تفسران ذلك؟
موريال سالمونا: يترتب على عملية الاغتصاب حالة من الصدمة نتيجة للعنف الذي تعرضت له الضحية خلال ذلك، الذي يخلق بدوره إحساسا بالخزي في داخلها. ويتولد هذا الشعور نتيجة لتعرض المجني عليها إلى المهانة، والدوس على كرامتها خلال الاعتداء. وللتوضيح أكثر، فإن إحساسهن بالخزي ناتج عن شعورهن بأن طابعهن الإنساني قد دنس، وأنهن تحولن إلى مجرد آلة.
أني فيران: هذا الإحساس (بالخزي) متواتر بين جميع ضحايا جرائم التعذيب، التي يصنف الاغتصاب من بينها. فالخزي مرتبط أساسا بنظرة المجتمع. في الحقيقة، يعتمد المغتصب في جريمته على تطبيق نظرية “الجلاد”، كما أشارت المختصة في علم النفس، فرانسواز سيروني، فالمغتصب يحول أفكاره المنحرفة إلى واقع، ويطبقها على ضحيته. وبالتالي، تتبنى الضحية فكرة أنها ذلك الشخص الذي رسمه مغتصبها في مخيلته، أي أنها مجرد أداة. وبالتالي، يتولد لديها شعور بالخزي لأنها ترفض أن تكون شيء اعتمده الجاني لبلوغ غايته المنحرفة.
– لقد توصلنا إلى أن كلا من النظام القضائي والمعتدي هم من يتحملون مسؤولية كبيرة في غرق المجني عليها داخل دهاليز الإحساس بالإثم والخزي. في المقابل، هل هذا هو السبب الوحيد في رفضها للتقدم بالشكوى؟
موريال سالمونا: ليس هناك سبب آخر، لأن ما ذكرناه سابقا كفيل بأن يحول الحادثة إلى أزمة نفسية لدى الضحية. ولكن، يجب أن لا ننسى دور المجتمع، فهو غالبا ما يشير بأصابع الاتهام نحو الضحية، وليس نحو المعتدي، وهذا ما أطلق عليه اسم “ثقافة الاغتصاب”. وللتوضيح بشكل أدق، يلقي المجتمع التهمة على المجني عليها، من خلال لفت الانتباه إلى ما ترتديه من ملابس، وما تقوم به من سلوكيات، مما يجلب أنظار الرجال ويحثهم على ارتكاب جريمتهم النكراء.
طرقت تقارير تابعة لحملات الوقاية ضد الاغتصاب، إلى حالة الذهول التي تصاب بها الضحايا لحظة الاغتصاب، ورفعت هذه الحملات شعار “جسدك ملك لكِ، بإمكانكِ قول لا”
وفي حالة تعرض إحداهن للاغتصاب، يردد البعض تلك الجملة الشهيرة “هي من بحثت عن ذلك”. بالإضافة إلى ذلك، لا يجب أن ننسى بأننا نعيش داخل مجتمع يغلب عليه الطابع “الإباحي” (المقصود المجتمع الفرنسي)، لذلك، إذا تقدمت امرأة بشكوى لتعرضها للاغتصاب، فسيرى البعض أنها تتخيل لا أكثر ولا أقل.
أني فيران: في الواقع، نلاحظ أن “ثقافة الاغتصاب والعنف” تتواتر وبكثرة في جميع برامج التسلية، التي من بينها السينما وألعاب الفيديو، وفي الإعلانات الترويجية والأعمال الفنية، التي قدمت المرأة في صورة المخلوق الضعيف، والرجل في محل القوة المطلقة. باختصار، تلعب المرأة دائما دور الفريسة أو دور الشريرة، بينما يلعب الرجل دور “سوبرمان”، الذي يأتي إما لإنقاذها أو قتلها.
المصدر: صحيفة لوفيغارو