لا يزال التوتر مخيمًا على أحياء المربع الأمني وسط مدينة الحسكة شمال شرقي سوريا، وتفرض قوات النظام السوري طوقًا أمنيًّا حول المنطقة، وفي محيط المقرات التي سيطرت عليها بعد معارك عنيفة مع المجموعات التابعة لميليشيا “الدفاع الوطني” بزعامة عبد القادر حمو، بينما توقفت حركة نزوح الأهالي من منطقة الاشتباك نحو الأحياء المستقرة الواقعة تحت سيطرة قوات سوريا الديمقراطية “قسد”.
دواعي الانقلاب
استقدمت قوات النظام المزيد من التعزيزات العسكرية من عتاد حربي وأعداد جديدة، تحسبًا لأي هجوم مضاد قد تشنّه ميليشيا “الدفاع الوطني”، وكان التوتر بين الطرفَين قد بدأ منذ منتصف سبتمبر/ أيلول الحالي، ليتطور في الـ 20 من الشهر ذاته إلى اشتباك مسلح ومعارك توسعت لتشمل كافة أحياء المربع الأمني وسط مدينة الحسكة، واستخدمت خلالها قوات النظام المدافع والدبابات والمدرعات، التي حققت غلبة في الميدان على الميليشيا التي لا تملك سوى رشاشات وسيارات رباعية الدفع ومدافع هاون من عيارات متوسطة.
ويرجع انقلاب حمو على النظام بسبب قرار الأخير عزل حمو من منصبه وتعيين قائد جديد للميليشيا، وخسارته عددًا من مقراته في مدينة القامشلي، وذلك على خلفية اعتدائه على شيخ قبيلة الجبور، عبد العزيز المسلط، في أغسطس/ آب الماضي، بعد خلاف حول مشكلة مرورية، ما أدّى إلى اندلاع اشتباكات بين أبناء العشائر وميليشيا “الدفاع الوطني”، أفضت أخيرًا إلى استجابة النظام لمطالب العشائر وعلى رأسها الجبور.
وفي منتصف أغسطس/ آب، أعلن مستشار مجلس قبيلة الجبور في الحسكة، أكرم محشوش، أن النظام السوري أقال قائد الدفاع الوطني عبد القادر حمو، وسيحوّله إلى العاصمة دمشق لمحاكمته بعد اعتدائه على شيخ القبيلة، وجاءت تصريحات محشوش لمواقع إعلامية موالية لـ”قسد”، لتنهي حالة التوتر في مناطق سيطرة النظام في مدينتَي الحسكة والقامشلي.
واستغرق تطبيق وعود النظام بإقالة حمو شهرًا تقريبًا، وهي المدة التي كان فيها حمو يفاوض رؤوس النظام، بينهم الأمين القطري المساعد لحزب البعث هلال الهلال، ومدير مكتب الأمن القومي علي مملوك، لإبقائه في منصبه مقابل مبلغ مالي، ويبدو أن الوساطة فشلت بعدما قُتل الضابط في قوات النظام علي ديب، وهو يتزعّم وحدة المهام الخاصة، بانفجار لغم زرعته عناصر “الدفاع الوطني” في محيط مقر الوحدة بالحسكة، ليعلن حمو لاحقًا تمرده.
بداية التمرد
أعلنت الميليشيا تمردها على قوات النظام، وزعمت أن الهجوم هو نتيجة خلافات بين ضباط في النظام وقائدها، مؤكدة أنها ستقاتل حتى النهاية دفاعًا عنه، ورفض حمو إخلاء مقاره وتسليم صلاحياته للمدعو يوسف حماد، الذي عيّنه النظام السوري بديلًا عن حمو في منصب قائد الميليشيا بالحسكة، لامتصاص غضب قبيلة الجبور وباقي القبائل والعشائر العربية التي ساندت شيخ الجبور.
قالت ميليشيا “الدفاع الوطني” في الحسكة والقامشلي على موقع فيس بوك: “أقدم مجموعة من المتسلقين الذين يستغلون مناصبهم في الجيش العربي السوري على إصدار تعليمات بمهاجمة قواتنا التي تحمي المواطنين في المربع الأمني بمدينة الحسكة، وذلك بعد أن قامت قواتنا مرارًا بفضح تصرفات أولئك الضباط الذين يعملون في تجارة المخدرات والسلاح”.
مكملة: “ما أثار امتعاضهم مستغلين رتبهم العسكرية في الجيش والسلك الأمني لتوجيه فوهات بنادق العناصر والجنود صوب نقاط تمركزنا، متناسين أن قوات الدفاع الوطني تأسّست بداية الأزمة في البلاد بعد ظهور الجماعات المسلحة التي حاولت النيل من هيبة الدولة، ووقفت قواتنا في خندق واحد مع الجيش السوري وحاربت تنظيم “داعش” وميليشيات “قسد” الانفصالية ودافعت بكل بسالة عن أرض الجزيرة العربية”.
أضاف بيان الميليشيا: “إننا في قوات الدفاع الوطني ندين بشدة قرارات اللجنة الأمنية إزاء قواتنا في مدينة الحسكة، ونطالب السيد الرئيس بشار الأسد بالتدخل ووضع حد لهذه المهزلة قبل أن تخرج الأمور عن السيطرة ويراق الدم العربي، ونؤكد أننا لن نسمح لأي جهة كانت بتوقيف قائد قواتنا عبد القادر حمو تحت أي ذريعة كانت ومهما كانت الأسباب، ونرفض جميع الاتهامات الموجهة له من قبل الجهات التي تسعى للنيل من سيرته النضالية”.
وتداول أنصار حمو تسجيلًا مصورًا أثناء تجواله برفقة ابنه وأحد مرافقيه، محاطًا بعدة سيارات دفع رباعية، يستقلها مسلحون مدجّجون بالأسلحة الرشاشة الثقيلة وسط مدينة الحسكة، وظهر حمو في تسجيل مصور آخر اتّهمَ من خلاله ضباطًا في قوات النظام وكذلك فرع الأمن العسكري في الحسكة، بتأجيج الصراع مع الميليشيا للسيطرة على مقار “الدفاع الوطني”.
وكشف حمو عن طلب كل من الأمين القطري المساعد لحزب البعث هلال الهلال، ومدير مكتب الأمن القومي علي مملوك، 3 ملايين دولار منه من أجل تسوية وضعه وإعادة الوضع في المربع الأمني إلى ما كان عليه سابقًا، ودعا مقاتليه إلى الدفاع عن مقرات الميليشيا واستعادة ما خسروه من مقارّ، كما طالبهم بالقتال ضد قوات النظام واعتبارها عدوًّا لهم، وصرح حمو بأنه دفع أكثر من 500 ألف دولار للهلال ومملوك، ويبدو أن المبلغ لم يكن كافيًا لإبقائه في منصبه.
حمو خسر المعركة
عمليًّا، يمكن القول إن زعيم ميليشيا “الدفاع الوطني” في الحسكة، عبد القادر حمو، خسر المعركة مع قوات النظام، والعدد الأكبر من عناصره ترك السلاح وبعضهم توجه نحو الضواحي القريبة بعدما خلع ملابسه العسكرية، بينما يتحصّن حمو برفقة مجموعة قليلة من مسلحيه في آخر موقع له بالمربع الأمني، والذي يضمّ أيضًا منزله ومنازل عدد من أقربائه وقادة الصف الأول في الميليشيا، وقد أمهلت قوات النظام حمو وقادة مجموعاته حتى مساء الخميس 21 سبتمبر/ أيلول كي يسلّموا أنفسهم.
وفي المقابل، يسود اعتقاد بأن “قسد” لن تسمح لحمو بالخروج من منطقة المربع الأمني نحو الضواحي القريبة أو باتجاه القامشلي، حيث يتمركز عدد كبير من أنصاره وأبناء عشيرته، ولن تسمح له أيضًا بأن يستجمع قواه ويهاجم النظام بعملية مضادة ليستعيد مواقعه ومقراته، فالمعلومات تتحدث عن أن عزله مطلب لـ”قسد” قبل أن يكون مطلبًا للعشائر.
نشرت ميليشيا “الدفاع الوطني” في الحسكة بيانًا اعترفت فيه ضمنيًّا بخسارتها معظم مواقعها لحساب قوات النظام، حيث قال البيان: “توضيح للرأي العام، شهد المربع الأمني في الحسكة والذي كنا نحميه على مدار 12 عامًا اشتباكات وطعنًا في الخاصرة من قبل عدة ضباط متورطين بأعمال تهريب وترويج للمخدرات هم على تواصل مع مسؤولين في دمشق، وأرادوا التخلص من القائد عبد القادر حمو بسبب اكتشافه دلائل وامتلاكه الكثير من الوثائق والأوراق وملفات فساد كبيرة، لها ارتباط بين ضباط متواجدين في المربع الأمني وشخصيات بارزة في دمشق مثل علي ملموك”.
وأكمل البيان: “لذلك فرضت تلك المجموعات التابعة لبعض من الضباط الطوق ضدنا وعلى منزل القائد عبد القادر حمو، وهم بريئون وبعيدون كل البُعد عن أخلاق الجيش السوري، وكل ما يذكر بأن الأزمة حصلت بعد المشكلة العرضية التي حصلت مع أبناء عمومتنا قبيلة الجبور عارية عن الصحة، حيث أن الخلاف حُلّ بالصلح بيننا، والدلائل سوف تكشف تباعًا مع ذكر الأسماء من داخل المربع الأمني وفي دمشق”.
قال الناشط محمد عطية من مدينة الحسكة لـ”نون بوست”، إن “وساطة الأمين القطري المساعد لحزب البعث، هلال الهلال، لإبقاء عبد القادر حمو في منصبه نجحت في تأخير قرار عزله لأكثر من شهر، وبالفعل دفع حمو مبالغ مالية كبيرة تزيد عن 500 ألف دولار لمسؤولي النظام والمحافظ، لكن إصرار قبيلة الجبور وباقي القبائل وبدفع من “قسد” على إزاحة حمو، دفع النظام الى الاستجابة خوفًا من خسارة مواقعه ومؤسساته داخل المربعات الأمنية التي لا تزال في قبضته بمدينتَي الحسكة والقامشلي”.
وأوضح عطية أن “احتمال شنّ ميليشيا “الدفاع الوطني” الموالية لزعيمها حمو هجومًا على مواقع قوات النظام وسط الحسكة احتمال ضعيف، لأن “قسد” لن تسمح بعودته مع مجموعاته مرة أخرى، وهناك معلومات تتحدث عن مشاركة قوات خاصة تابعة لـ”قسد” في المعارك مع قوات النظام ضد الميليشيا”.
مكملًا: “ويصبّ قرار عزل حمو من منصبه في مصلحة “قسد” التي كثيرًا ما اشتبكت مع قواته داخل أحياء سيطرة النظام، وفي الأحياء المجاورة التي توغّلت فيها ميليشيا “الدفاع الوطني” أكثر من مرة، حيث عزل حمو بمثابة تفكيك غير مباشر لميليشيا “الدفاع الوطني” بمدينة الحسكة، والتي زاد عددها في السنوات الأخيرة عن 800 عنصر، ومعظمهم من الشبيحة السابقين أو أصحاب السوابق الإجرامية”.
من هو عبد القادر حمو؟
تأسّست ميليشيا “الدفاع الوطني” في الحسكة عام 2013، وضمّت في صفوفها حينها بقايا “كتائب البعث” التي كانت تتبع لفرع حزب البعث في الحسكة آنذاك، لذا بقيت الميليشيا مرتبطة عضويًّا بالقيادة القطرية لحزب البعث، وكان زعيمها عبد القادر حمو يتمتع بعلاقات وثيقة بهلال الهلال.
وينحدر زعيم الميليشيا من عشيرة الشرابين العربية، وتصاعدت قوته بعدما ضمّ أعدادًا كبيرة من أقربائه إلى صفوف مجموعاته، ومنذ عام 2015 اتخذ حمو مقرًّا مركزيًّا بالقرب من فرع حزب البعث في الشارع الموازي لشارع القضاة، وانتشرت مقاره وحواجزه في كامل الأحياء الواقعة تحت سيطرة النظام السوري في الحسكة.
تمسُّك حمو بمنصبه واستعداده لدفع مبالغ مالية ضخمة مقابل إبقائه، يرجعان إلى السلطة التي يتمتع بها بمحافظة الحسكة عمومًا، والموارد المالية الكبيرة التي تدخل جيبه شهريًّا، وتأتي معظمها من مرافق ومنشآت خاصة (أفران وشركات تبريد ووسائل نقل عام ومراكز تسوق ومحال ألبسة ومشاريع زراعية في ضواحي الحسكة)، ومن الإتاوات على محال التجار وسط المدينة وفي سوق الهال.
كما يعمل الحمو بالشراكة مع الكثير من التجار المقربين منه في مجالات تجارية متنوعة (تجارة الحديد والإسمنت)، إلى جانب نشاطه في التهريب، والوساطة لدى الفروع الأمنية، وبيع بطاقات مهمة في “الدفاع الوطني” مدتها 6 أشهر للراغبين في تسهيل أمورهم أو الضرب بسيف الميليشيا، وتضاف إلى أنشطته تجارة المخدرات وتوزيعها بالتعاون مع ميليشيات إيران و”حزب الله” اللبناني.
ومثله كمثل زعماء الميليشيات (الدفاع الوطني) التي أسّسها النظام عام 2013، وعيّن على رأسها أكثر الشبيحة إجرامًا وقسوة، كان حمو قبل الثورة يعيش في حي النشوة الشرقية بالحسكة، ويعرَف عنه تعاطي وتوزيع المخدرات وفي سجلّه عشرات الجرائم الجنائية (قتل وابتزاز وسرقة)، ولاحقًا ومع انطلاقة الثورة السورية كان أحد أبرز الوجوه التي قمعت المظاهرات في الحسكة، عندما كان يقود مجموعة من الشبيحة من أقربائه وبدعم من فرع الحزب.