يبدو أن الحكومة التركية أدركت مؤخرًا أن خطورة خطاب العنصرية والتحريض قد استفحلت، بعد أن دأبت حسابات بالعشرات عبر مواقع التواصل الاجتماعي على بثّ الكراهية والعداوة ضد اللاجئين ومعهم العرب والأجانب، عبر كمّ هائل من المعلومات المغلوطة والمضللة.
نتيجة لذلك، أعلن وزير الداخلية علي يرلي كايا، الأربعاء 20 سبتمبر/ أيلول، شنّ عملية أمنية بالتعاون مع جهاز الاستخبارات ووحدة الجرائم الإلكترونية ضد مروّجي خطاب الكراهية، وأسفرت عن اعتقال 27 شخصًا في 14 ولاية.
كان من الملاحظ أن الوزير لم يصرّح علنًا بأن الحملة سببها التحريض على كراهية اللاجئين أو العرب، بل اكتفى بالقول وفق منشور نشره عبر منصة “إكس”، أن الموقوفين متهمون بـ”استخدام خطاب الكراهية عبر مواقع التواصل، وتحريض الشعب على الكراهية والعداء، ونشر معلومات مضللة على العلن”.
كذلك لاحظنا أن الحملة ركزت على مديري حسابات ومنصات إلكترونية تعتمد خطاب الكراهية، وتستهدف شريحة معينة من الناس لا سيما السوريين المقيمين في البلاد تحت بند “الحماية المؤقتة”.
يُنظر إلى هذه الحملة على أنها جاءت عقب جملة من حوادث الاعتداء طالت السوريين وغيرهم من السياح العرب، مثل الاعتداء على طفل يمني وشقيقه في إسطنبول مطلع أغسطس/ آب الماضي، والاعتداء على سائح كويتي في مدينة طرابزون مؤخرًا.
ولاقت هذه الحوادث ردود فعل واسعة في العالم العربي عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وخلقت مخاوف بشأن وضع السياحة في تركيا، لا سيما بعد أن باتت وجهة رئيسية لكثيرين من السياح العرب والخليجيين على وجه الخصوص، وربما كان ذلك الدافع الأكبر وراء إدراك الحكومة التركية مدى خطورة الخطاب العنصري.
في هذا السياق، هناك توقعات بخسارة قطاعَي الاستثمار والسياحة في تركيا خلال الأشهر القليلة فقط ما بين مليارَي إلى 5 مليارات دولار، حيث قدّر المستشار السابق لرئيس حزب العدالة والتنمية، ياسين أقطاي، في مقال له على “يني شفق” الأسبوع الماضي، أن خسارة القطاع الصناعي وحده بسبب الخطاب العنصري تصل إلى 5 مليارات دولار.
بينما يرى الباحث التركي في العلاقات الدولية، إبراهيم كاراتاش، أن تكلفة الخطاب العنصري على الاقتصاد التركي خلال آخر شهرَين فقط وصل إلى مليار دولار، بحسب ما نقل موقع “خبر 7“.
خطوة مهمة لكن متأخرة
في حديثه لموقع “نون بوست”، يقول الصحفي والمحلل السياسي التركي، علي أسمر، أن الحملة الأمنية الأخيرة ضد المحرّضين على خطاب الكراهية والعداوة، “مهمة جدًّا لكن جاءت متأخرة”.
ويعلل ذلك بأن تركيا سنّت العام الماضي قانونًا بخصوص المواقع الإخبارية عبر الإنترنت ومواقع التواصل، يهدف إلى مكافحة الأخبار الكاذبة والإشاعات، “لكن للأسف لم نرَ تطبيقًا فعليًّا لهذا القانون إلا بعد أن استغلت فئة من المواطنين الأتراك هامش الحرية في تركيا، وحاولت زرع الفتنة بين الأتراك واللاجئين والعرب والأجانب”.
ويذكّر أسمر برفض الرئيس رجب طيب أردوغان “القاطع” للتصرفات العنصرية من قبل المجموعات التي تعتدي على الأجانب، وبدأت تمارس عنصريتها كذلك تجاه المواطنين الأتراك المحافظين، على حدّ وصفه.
ويرى أسمر أن موضوع الخطاب العنصري “أكبر من مجرد اعتقالات”، وأنه “فكر يجب مكافحته على جميع الأصعدة ثقافيًّا واجتماعيًّا وفكريًّا”، مشيرًا إلى أنه يجدر اعتقال مصادر هذا الخطاب “وليس أعوانه فقط” للحدّ منه.
وأردف: “كما نعلم توجد بعض الأحزاب السياسية كحزب النصر بقيادة أوميت أوزداغ (..) هذه الأحزاب لا يوجد لها أي برنامج سياسي ولا أي ثقل على الأرض، والدليل أنه لم يحظَ هذا الحزب بأي مقعد في البرلمان؛ وهذا دليل على أن الشعب التركي شعب غير عنصري”.
وتابع بالقول: “لكن توجد مجموعات تحاول أن تشعل الفتنة بين الأتراك والعرب، خاصة بعد أن قررت الحكومة التركية تحسين العلاقات مع الدول الخليجية (..) هذه المجموعات ترغب في إفشال الحكومة الجديدة بعد الخسارة الكبيرة لأحزاب المعارضة في الانتخابات الأخيرة، لذلك تحاول إعاقة السياحة وجلب الأموال الخليجية والعربية”.
ويختم أسمر حديثه بأن الحل “الجذري” لهذه الظاهرة هو إدارج الممارسات العنصرية تحت ما يهدد الأمن القومي التركي، وأنه “يجب على أجهزة الدولة أن تتعامل مع موضوع العنصرية كما تتعامل مع موضوع الإرهاب، فهدف العنصريين هو إشعال حرب أهلية في تركيا، وهذا خطر كبير يهدد الأمن القومي التركي”.
إجراء إيجابي و”بريق أمل”
بدوره، يرى الناشط السوري الحقوقي، طه الغازي، خلال حديثه مع “نون بوست”، أن إجراءات وزارة الداخلية تعتبر إيجابية يمكن أن تنعكس على المجتمع التركي، كما يمكن اعتبارها بمثابة “بريق أمل” بالنسبة إلى المجتمع السوري، “في ظل ما يعانيه من تنامي وتصاعد خطاب الكراهية والتمييز العنصري ضد هذا المجتمع اللاجئ”.
وأكد الغازي أن تحرك الداخلية جاء عقب “عدة مطالبات وفعاليات أقامها نشطاء في ميدان حقوق اللاجئين أو حقوق الإنسان في تركيا”، لافتًا إلى التجمع الذي نظمته جمعية “ÖZGÜR DER” التركية السبت الماضي، في حديقة سراج هانة بإسطنبول، حيث طالبت بوقف الكراهية والتمييز العنصري وحماية اللاجئين.
أضاف: “العديد من الجمعيات الأخرى والناشطين والأكاديميين والحقوقيين الأتراك، أكدوا أن هذا الخطاب لم يعد تأثيرًا مقتصرًا فقط على المجتمع اللاجئ السوري، بل بات ينتقل إلى السياح العرب وأيضًا مكونات المجتمع التركي”.
وشدد الغازي أن تحرك وزارة الداخلية سيكون “جيدًا” إذا استمرت الحكومة بالفعل في مساءلة ومحاسبة كل من يحرّض على هذا الخطاب، معبّرًا عن خشيته من إطلاق سراح هؤلاء المحرّضين بعد ساعات بكفالة مالية أو ما شابه، أو أن يستمر الساسة في استخدام خطاب الكراهية والتمييز العنصري.
وحول توقيت التحركات الرسمية، تساءل الغازي عن غيابها قبل سنتين أو ثلاثة حينما “كان الخطاب العنصري نفسه موجودًا، وحينما كان اللاجئ السوري يتعرض حتى للاعتداءات بدافع عنصري، والتي أدت إلى مقتل البعض منهم (اللاجئين السوريين)”.
وعليه، يرى الناشط الحقوقي السوري الغازي أن الحملة تزامنت مع دعوات أطلقها بعض المغردين (لم يحدد جنسيتهم) لعدم السفر إلى تركيا، وأضاف: “تزامنت كذلك مع اعتداءات على السياح العرب”.
وأردف: “لذلك أرى أن الحكومة أرادت بهذه الإجراءات إرسال رسالة لكتلة السياح العرب، بأن العنصرية وإن كانت موجودة في بعض تصرفات وسلوكيات الأفراد الأتراك، إلا أن هناك محاسبة ومساءلة”، لافتًا إلى أن الحفاظ على المكاسب الاقتصادية “غاية رئيسية” لهذه الإجراءات.
يُذكر أن أردوغان شدّد في تصريحات له، مساء الخميس 21 سبتمبر/ أيلول، على أن “مرتكبي الاعتداءات الدنيئة ضد السياح سينالون العقوبة اللازمة أمام القضاء”، وفق ما نقلت وكالة “الأناضول“.
وقال أردوغان: “تركيا دولة قانون ومرتكبو الاعتداءات الدنيئة ضد ضيوفنا سينالون العقوبات اللازمة أمام القانون”، مضيفًا: “الشيء الذي أصرّ عليه دائمًا هو أننا نحتاج إلى استخدام اللغة التي يفهمها السائحون في اللافتات والإشارات وبالأخص في المناطق السياحية، ولا نستطيع أن نسير بالطريق نفسه الذي تسير فيه المعارضة”.