أربع سنوات مرت على معركة عبرا في بوابة الجنوب اللبناني صيدا، التي قضت على ظاهرة أربكت الساحة السياسية والميدانية والشعبية في لبنان منذ بروزها بشكل لافت منتصف عام 2012 وحتى نهايتها في مثل هذه الأيام من العام 2013، أي بعد قرابة عام واحدٍ فقط.
أحمد الأسير الحسيني شيخ سنّيٌ من توجهات سلفية، بدأ اسمه يتردد على مسامع اللبنانيين منذ إعلان دعمه للثورة السورية عام 2011، تحول شيئًا فشيئًا إلى اسم يتكرر في الأجواء بعد أن شلّ مدينة صيدا في يوليو 2012 باعتصام أطلق عليه “اعتصام الكرامة” للمطالبة بنزع سلاح حزب الله.
تمكن أحمد الأسير من تعظيم صيته في لبنان نتيجة عدة عوامل، أولها تعاطفه مع الثورة السورية ضد النظام السوري صاحب التاريخ الأسود في لبنان، ثانيها وأبرزها النبرة العالية والصوت المرتفع على المنابر والمطالب بنزع سلاح حزب الله الذي اعتبره سلاحًا غير شرعي ومناداته بهذا بكل قوة في مختلف الفعاليات التي نظمها والتي ظهر فيها بخطاباته القوية والجريئة والكاريزما التي منحته إياها لحيته الطويلة وعمامته البيضاء.
هجوم الأسير على حزب الله لم يكن الوحيد ضد التيارات السياسية في لبنان، بل فتح الأسير نيرانه صوب تيارات سنيّة جاء في مقدمتها تيار المستقبل الذي يحتل مساحة التأييد السنّي الأوسع
هجوم الأسير على حزب الله لم يكن الوحيد ضد التيارات السياسية في لبنان، بل فتح الأسير نيرانه صوب تيارات سنيّة جاء في مقدمتها تيار المستقبل الذي يحتل مساحة التأييد السنّي الأوسع، ولم تسلم من انتقاداته وهجومه أيضًا الجماعة الإسلامية المعروفة بـ”إخوان لبنان”، على الرغم من التحاقه بصفوفها إبان الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982 حين كان عمرها يراوح الـ15 سنة، قبل أن يتركها بعد 4 سنوات تقريبًا.
أما فضل شاكر الفنان والمطرب الشهير فقد منح الأسير شهرة إضافية حين شارك في الكثير من فعاليات الأسير خاصةً التضامنية منها مع الثورة السورية، وهو (أي فضل شاكر) الذي انعطف بشكلٍ حادٍ من عالم الغناء والشهرة وبذخهما إلى جو الالتزام الديني والروحانيات ثم المشاركة بحمل السلاح لاحقًا إلى جانب الأسير.
لقد أعطت ظاهرة أحمد الأسير أملاً للكثير من اللبنانيين الذين كانوا يحلمون بدولةٍ قوية بعيدًا عن الظواهر المسلحة والدويلات داخل الدولة، والتي كان أكبر الهواجس أمام وصولها لذلك هو حزب الله لما بات يشكله من قوة عسكريةٍ وأمنيةٍ واستراتيجية وسياسية داخل الدولة اللبنانية، إذ يسيطر بسلاحه على المشهد اللبناني بشكلٍ مباشرٍ أو غير مباشر، مما جعل الطائفة السنية ترزخ تحت نير الاعتداءات المتكررة من حزب الله أو الأطراف المنزوية تحت مظلته.
لا ينكر أحد أن الأسير حمل مطلبًا تجمع عليه شريحةٌ واسعة جدًا من اللبنانيين من غير المناصرين له، بالوصول إلى دولةٍ ذات سيادة على كامل ترابها لا يتحكم بها أنظمةٌ خارجية كما كان يفعل النظام السوري قبل خروجه منها عقب اغتيال رفيق الحريري، ولا قوى داخلية كحزب الله تعربد بسلاحها داخل الدولة، على الرغم من هيئته الخارجية المتمثلة باللحية الطويلة والعمامة، والتي نفّرت البعض منه بعدما صار هذا اللباس الديني مقترنًا بالتنظيمات الجهادية في العالم.
أسس أحمد الأسير ما أسماه “كتائب المقاومة الحرة”، وجند في صفوفها عشرات الشبان، وكان يؤكد مرارًا وتكرارًا بأن سلاحه لن يوجه إلى الدولة اللبنانية
أسس أحمد الأسير ما أسماه “كتائب المقاومة الحرة”، وجند في صفوفها عشرات الشبان، وكان يؤكد مرارًا وتكرارًا بأن سلاحه لن يوجه إلى الدولة اللبنانية بل وظهر في رسائل لمناصريه ومريديه بالامتثال للجيش والأجهزة الأمنية وإبقاء النفس طويلًا في التعامل معهم منعًا لأي احتكاك يمكن استغلاله للإيقاع بينه وبين الدولة، لكن هذا ما حدث فعلًا!
رفع الأسير سلاحه أخيرًا أمام الأجهزة الأمنية والجيش اللبناني في معركة عبرا منتصف 2013، وكنت أتابع حينها مجريات الأمور وحين نقلت وسائل الإعلام اللبنانية أن 11 جنديًا من الجيش اللبناني قتلوا في المعركة أدركت حقيقةً بأن الأسير قد قضى على نفسه وصار مصيره الزوال أيًا كان شكله.
فإشكال الحاجز القريب من المسجد والذي اشتعلت منه المعركة كان واضحًا جدًا أن فخ أريد للأسير أن يقع فيه وقد وقع، حين قرر أن يكمل المعركة مع الجيش في تحدٍ واضح تاركًا ورائه جملةً من الاعتبارات التي أسهمت في رفع الغطاء عنه والحكم على مصيره بالزوال، ومنها حربه المفتوحة على كل التيارات السياسية في لبنان، وعدم الاعتداد بالحاضنة الشعبية التي ارتكز عليها ظنًا منه أنها ستشكل درعًا حاميًا له وهو ما لم يحصل، ناهيك عن ضعف بنيته العسكرية والأمنية وحتى الهيكلية.
فكيف فكر الأسير بمواجهة الدولة بعشرات أو لنقل مئات من الشبان الذين يتحصنون في بقعةٍ جغرافية ضيقةٍ جدًا وسلاح خفيف لا يمكن حتى لذخيرته أن تمنحه وقتًا كافيًا للقتال أو المناورة.
أمرٌ آخر أهمله الأسير وكان سببًا فيما وصل إليه من نهاية تراجيدية، وهو المكانة التي تحظى بها مؤسسة الجيش لدى القوى السياسية من ناحية والجمهور اللبناني من جهة أخرى، فرغم كل اللَوث السياسي الذي يشوبه من اختراق حزب الله لصفوف قياداته وعناصره، فإنه يشكل واحدةً من الثوابت التي يلتفت حولها اللبنانيون سياسيون ومواطنون، لكنه اختار قتال الجيش دون أي حسابٍ لكل هذه الاعتبارات، والتي أسقطته سقوطًا معنويًا قبل أن يكون ميدانيًا في ساحة المعركة.
ألقي القبض على الأسير في مطار بيروت عام 2015 في أثناء محاولته الهرب من لبنان، حينها لم تكن تلك اللحية الطويلة ولا العمامة البيضاء ترافقه في موقفٍ أهان فيه نفسه التي رفعت الصوت عاليًا جدًا في يومٍ من الأيام مدافعًا عن حقه المشروع فعلًا ومعلنًا استعداده تقديم روحه في سبيل ذلك
فرّ الأسير هاربًا بعدما وصلت شوكة الجيش إلى حلق مربعه الأمني، وبقي غائبًا حتى ألقي القبض عليه في مطار بيروت عام 2015 في أثناء محاولته الهرب من لبنان، حينها لم تكن تلك اللحية الطويلة ولا العمامة البيضاء ترافقه في موقفٍ أهان فيه نفسه التي رفعت الصوت عاليًا جدًا في يومٍ من الأيام مدافعًا عن حقه المشروع فعلًا ومعلنًا استعداده تقديم روحه في سبيل ذلك، لكن قبل أن يقبض عليه بذلك المظهر الذي حال بينه وبين دفاع مناصريه عنه.
أختم مقالي بجملة كتبتها الإعلامية اللبنانية كارول معلوف في تعليقها على خبر اعتقال الأسير “دولة بائسة عاجزة أفضل من لا دولة وفوضى ودوامة من العنف لامتناهية”.