ألقت حرب جنرالات السودان بعواقب وخيمة على الاقتصاد الذي كان يعاني بالفعل من اختلالات هيكلية، حيث دُمّرت البنية التحتية وارتفعت نسب البطالة وانخفضت قيمة العملة الوطنية بنحو مريع، ورغم ذلك يعمل طرفا القتال على إطالة أمده دون أدنى اكتراث بحياة ملايين المتضررين.
تقول الأمم المتحدة إن تحليلًا لأدوات الاستشعار عن بُعد وانبعاثات ثاني أكسيد النيتروجين في التروتوسفير في الخرطوم، يظهر انخفاضًا في النشاط الاقتصادي يتراوح بين 33 و42% في الأسابيع الثلاث الأولى بعد بدء النزاع.
اقتصر هذا التحليل على أسابيع الثلاث الأولى من القتال الذي اندلع في 15 أبريل/ نيسان الماضي، ما يعني أن الاقتصاد السوداني يكاد يقترب من مرحلة الانهيار، إذا نظرنا إلى توقف إنتاج معظم المصانع، وعزوف المزارعين عن الزراعة التي يعتمد 80% من السكان عليها في معاشهم، وفقًا لوزير المالية جبريل إبراهيم.
كوارث حاضرة
لا يتعلق تدنّي الاقتصاد بتوقف نشاط المصانع وتقلص النشاط الاقتصادي، بل امتدّ إلى إنتاج الذهب الذي كان يعتمد عليه السودان في جلب العملة الصعبة، والتي يستخدمها في توفير احتياجاته التي يعتمد في معظمها على الخارج، بما في ذلك الوقود والقمح والأدوية.
الاقتصاد السوداني يشهد ارتفاعًا حادًّا في مستويات المخاطر عمومًا، مع ازدياد صعوبة المفاصلة بين السياسات الاقتصادية، إلى جانب تزايد احتمالات خروج التدفقات الرأسمالية.
بلغ إنتاج الذهب، طوال فترة الحرب، طنَّين بقيمة تبلغ 124 مليون دولار نصيب الحكومة منها 25.5 مليون دولار فقط، مقارنة بإنتاج العام الماضي الذي بلغ أكثر من 18 طنًّا، رغم أن بعض التقارير تشير إلى أن السودان ينتج 100 طن من المعدن الأصفر سنويًّا، لكنه يهرَّب بطرق غير رسمية.
يتزامن ذلك مع انخفاض قيمة العملة المحلية التي بلغت في السوق السوداء 800 جنيه مقابل الدولار الواحد، الذي كان يعادل قبل الحرب 560 جنيهًا، ويتوقع توالي تدنّي قيمة الجنيه في ظل اعتماد السودان الكلي على استيراد السلع الغذائية، خاصة من مصر وإثيوبيا وتركيا.
وتشهد الأسواق السودانية ركودًا حادًّا، نتيجة تآكُل القوة الشرائية للسكان الذين فقد معظمهم وظائفهم وأعمالهم، خاصة في العاصمة الخرطوم التي كان يدار فيها اقتصاد السودان مركزيًّا، وإضافة إلى الركود انتشر في الأسواق الباعة الجائلون الذين يعرضون بضائع وسلع رديئة بأسعار زهيدة، ورغم أنهم يجنون أرباحًا قليلة من هذه التجارة، إلا أن أعدادهم في تزايد بسبب عدم توفر فرص للعمل.
يقول الخبير الاقتصادي هيثم فتحي، إن الحرب، بخلاف تداعياتها الإنسانية المباشرة والفادحة، ستؤدي إلى إبطاء النمو الاقتصادي ورفع معدلات التضخم.
ويشير، خلاله حديثه لـ”نون بوست”، إلى أن الاقتصاد السوداني يشهد ارتفاعًا حادًّا في مستويات المخاطر عمومًا، مع ازدياد صعوبة المفاصلة بين السياسات الاقتصادية، إلى جانب تزايد احتمالات خروج التدفقات الرأسمالية.
يوضح أيضًا أن الاقتصاد السوداني يعاني منذ عام 2018 من تراجع قياسي، نتيجة لعدم الاستقرار السياسي وتسخير موارد الدولة في خدمة استقرار الأوضاع، لذا توقف الإنتاج الصناعي وتخبّطت السياسات التي أثّرت على مستويات الإنتاج الزراعي.
ويضيف: “أحدثت الحرب آثارًا مدمرة على السكان والاقتصاد ساهمت فيها عوامل الصراع، كانهيار الأنشطة الاقتصادية والإضرار بالأصول والممتلكات الاستراتيجية للدولة، والممتلكات الشخصية للمواطنين التي سُلبت ونُهبت بواسطة الدعم السريع، ما أدّى إلى انهيار المستوى المعيشي للأسرة بشكل طردي منذ بداية الحرب، وارتفاع مستوى الفقر المدقع”.
مؤشرات الأقتصاد السوداني
خاص ب @BaynonCenter pic.twitter.com/7C3sfmUCMa— مركز بينون للدراسات (@BaynonCenter) September 21, 2023
الجوع يرافق السودانيين
يؤكد فتحي أن انخفاض قيمة الجنيه وتفاقم أزمة الكهرباء وشحّ المياه، وتوقف مؤسسات الدولة وإغلاق المدارس والجامعات، وهجرة تجار القطاعَين الصناعي والحِرَفي من الخرطوم إلى مدن السودان الأخرى ومصر، أفضى إلى تعطُّل عملية الدوران الاقتصادي وتهالُك سوق الإنتاج.
بات على كثير من السودانيين الاكتفاء بوجبة واحدة في اليوم نظرًا إلى الارتفاع الكبير في أسعار السلع الغذائية، بينما يحاول البقية الهرب من البلاد.
ويشدد فتحي على أن تدمير البنية التحتية تجعل المواطن السوداني مدينًا حتى 5 سنوات على الأقل، لذا إن مهمة أي حكم قادم التخفيف من آثار هذه الكارثة، رغم أنه سيفاجأ بنقص الاحتياطي النقدي، وسيكون أمام اقتصاد شبه مشلول.
تقول الأمم المتحدة إن الأضرار التي لحقت بالبنية التحتية الحيوية والقطاع المالي، والممتلكات الخاصة، ومرافق تصنيع الأغذية والأسواق، ونهبها وتدميرها أيضًا، مع توقف الإنتاج والأنشطة الاقتصادية؛ أدى إلى بطالة جماعية، حيث يحتاج السودانيون إلى دعم مالي في الأجل القصير، وإلى فرص لكسب العيش في الأجل المتوسط.
وأجبر كثير من السودانيين على الاكتفاء بوجبة واحدة في اليوم نظرًا إلى الارتفاع الكبير في أسعار السلع الغذائية، بينما يحاول البقية الهرب من البلاد، وهذا يظهر بوضوح في طوابير الانتظار الطويلة أمام مقرات السجل المدني لاستخراج وثائق جواز السفر.
تتحدث تقارير أممية بهذا الصدد عن ارتفاع أعداد السودانيين الذين يعانون من انعدام الأمن الغذائي الشديد إلى أكثر من 20 مليون شخص -نحو 42% من السكان-، بينهم 6.3 ملايين فرد على حافة المجاعة جراء الحرب التي شرّدت 5.25 ملايين شخص من منازلهم.
إن استمرار الحرب لأشهر قليلة يعني شيئًا واحدًا، وهو أن السودانيين سيصبحون عالة على الآخرين، نتيجة للتدمير الواسع لمصادر دخلهم وتدهور قدرتهم الشرائية، وعدم وجود أي بارقة أمل لضخّ المستثمرين الأموال ولو في المناطق الآمنة.
تسود حالة من الإحباط الشديد وسط السودانيين، من تأثير النزاع الكارثي على أوضاعهم المعيشية والحياتية، بينما يصرّ قائد الجيش عبد الفتاح البرهان وغريمه قائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو “حميدتي”، على تحقيق نصر عسكري رغم استحالته، على الأقل خلال فترة وجيزة.
كما تزدحم مواقع التواصل الاجتماعي بنداءات لتوفير المواد الغذائية للأفراد والأسر، بينما تدير منظمات محلية مطابخ مركزية لطهي الطعام قبل توزيعه إلى السكان الأشد فقرًا، في وقت تجد المنظمات الإنسانية الدولية صعوبة بالغة في إيصال الإغاثة.
📍—🚚 إن رحلة إيصال المساعدات الإنسانية وسط نزاع واسع النطاق في #السودان شاقة وخطيرة وتشوبها البيروقراطية.
تعرّف كيف تعيق هذه التحديات عمليات الإغاثة وتمنع ملايين الأشخاص من الحصول على المساعدات التي هم في أمس الحاجة إليها👇 pic.twitter.com/5YSumaf6QJ
— UN OCHA Sudan (@UNOCHA_Sudan) September 21, 2023
توقعات قد تحدث قريبًا
يتوقع حدوث انكماش اقتصادي بنسبة قد تصل إلى 10%، نتيجة لتوقف الأنشطة الإنتاجية وزيادة الإنفاق على الجنود والعتاد العسكري، ما يعني وقف الصرف على المشاريع التنموية والرعاية الصحية والتعليم.
يصاحب ذلك تقلص الصادرات بعد تضرر سلاسل الإمداد والبنية التحتية وعدم توفر الأمن، وارتفاع أسعار التأمين على عمليات النقل، وبالتالي استمرار عجز الميزان التجاري الذي بلغ 6.7 مليارات دولار بنهاية عام 2022.
أدت كذلك عمليات نهب فروع البنوك إلى تآكل الثقة في النظام المصرفي، ومع توقف الأنشطة الاقتصادية وعدم قدرة المصارف على استرداد تمويلها السابق في الوقت الحالي، بات يصعب عليها تقديم أي تمويل جديد لمخاوف تتعلق بالقدرة على السداد، وهذا يفاقم الوضع أكثر ممّا هو عليه الآن.
ولا يؤدي انخفاض العملة إلى زيادة نسبة التضخم فقط، إنما إلى تآكل رأس مال المصارف والشركات، ما يضاعف مخاطر الاستثمار في السودان في ظل عدم وجود سياسات مشجّعة، ليقود كل ذلك إلى مزيد من انكماش الاقتصاد.
ولا يظهر أن السلطات الخاضعة للجيش قادرة على جباية الضرائب التي تعتمد عليها الموازنة بشكل كبير، بسبب الركود وانعدام الأمن وسيطرة الدعم السريع على مناطق واسعة في العاصمة الخرطوم وولايات دارفور وكردفان، لذا ستعتمد على الرسوم الحكومية لتغطية الصرف على الحرب.
إن استمرار الحرب لأشهر قليلة تعني شيئًا واحدًا، وهو أن السودانيين سيصبحون عالة على الآخرين، نتيجة للتدمير الواسع لمصادر دخلهم وتدهور قدرتهم الشرائية، وعدم وجود أي بارقة أمل لضخّ المستثمرين الأموال ولو في المناطق الآمنة.