ما يقرب من سبعة عشر شهرًا مرت على قرار موسكو بتعليق رحلاتها لمصر في أعقاب حادثة سقوط الطائرة الروسية في سيناء والتي كانت متجهة من مطار شرم الشيخ إلى مطار سانت بطرس بورج وعلى متنها 224 راكبًا لقوا جميعًا حتفهم، دون أي تقدم يذكر في مساعي القاهرة لاستئناف هذه الرحلات مرة أخرى في ظل تعنت روسي غير مفهوم.
إلا أنه خلال اليومين الماضيين، وفي أثناء زيارة رئيسة مجلس الاتحاد الروسي، فالينتينا ماتفيينكو للقاهرة، حثت على تعجيل إجراء اللقاءات اللازمة بين وزير النقل المصري ونظيره الروسي للتوقيع على بروتوكول بشأن استئناف الرحلات الجوية، وهو تحول مفاجئ في الموقف الروسي منذ بداية الأزمة.
الملفت للنظر في تصريحات ماتفيينكو أنها أصرت على توقيع بروتوكول جديد يسبق مباحثات استئناف الرحلات مرة أخرى، وأنها اتفقت مع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي أن يتم هذا الاتفاق بصورة سرية، مما أثار العديد من التساؤلات التي يشوبها الشك، فلماذا تريد موسكو أن يكون اتفاق استئناف رحلاتها للقاهرة سريًا؟
تفعيل مجالات التعاون
جاءت زيارة رئيسة مجلس الاتحاد الروسي للقاهرة للتأكيد على عمق العلاقات بين الجانبين، إضافة إلى تفعيل سبل التعاون المشترك، وهو ما أشارت إليه ماتفيينكو خلال لقائها مع رئيس الحكومة المصرية شريف إسماعيل، حيث نوهت إلى عزم روسيا المضي قدمًا في بناء محطة الطاقة النووية في الضبعة الواقعة على ساحل البحر الأبيض المتوسط غرب مصر، والتي تم توقيعها بين حكومة البلدين في 19 من نوفمبر الماضي، والتي من المقرر أن تتكون من أربع وحدات بقوة 1200 ميجاواط لكل واحدة منها، وبمقتضى الاتفاقية تقدم روسيا قرضًا لمصر بقيمة 25 مليار دولار لتمويل عمليات إنشاء هذا المشروع الذي ينفذ على 7 سنوات.
وفي سياق متصل، أثنت رئيسة مجلس الاتحاد الروسي على مشروع إنشاء منطقة صناعية روسية في مصر، والذي نجحت وزارة الصناعة والتجارة الروسية في الفوز بعقد القيام به، مما سيوفر فرص عمل جديدة واستثمارات كبيرة، طالبة من رئيس الحكومة المصري أن يقوم بالإيعاز بالتعليمات المناسبة “حتى لا نضيع الوقت”، علمًا بأن الاستثمار في المنطقة الصناعية الروسية في مصر من الممكن أن يصل إلى 20 مليار دولار حسبما جاء على لسان إيغور اشينكو الرئيس التنفيذي لشركة “تكنوبوليس موسكو”.
وقد اختتمت ماتفيينكو لقائها مع الجانب المصري بقولها: “العلاقات الروسية المصرية ذات طابع غني ومتنوع، مصر تسعى لمواصلة تطوير العلاقات مع روسيا في مجالات مختلفة، وخصوصًا في مجال البرلمان، الذي يعتبر أحد أهم عناصر التقارب بين البلدين على مستوى الحكومة والشعب”.
أثنت رئيسة مجلس الاتحاد الروسي على مشروع إنشاء منطقة صناعية روسية في مصر، طالبة من رئيس الحكومة المصري أن يقوم بالإيعاز بالتعليمات المناسبة “حتى لا نضيع الوقت”
تغير الموقف الروسي
نقلة نوعية في الموقف الروسي عكستها زيارة رئيس مجلس الاتحاد الروسي للقاهرة، وما تخللها من لقاءات وتصريحات، لا سيما فيما يتعلق بمسألة استئناف الرحلات الجوية للقاهرة مرة أخرى بعد توقف دام قرابة العام والنصف.
فالبداية كانت صبيحة 31 من أكتوبر 2015، حين سقطت الطائرة الروسية في سيناء، وبعد أقل من ساعات وقبل التيقن من سبب الحادث أصدرت موسكو قرارًا بتعليق رحلاتها الجوية لمصر لأجل غير مسمى، علمًا بأن توقيت تعليق روسيا لرحلاتها للقاهرة كانت العلاقات بين الجانبين في أوج قوتها ونضجها بعد زيارات عدة متبادلة بين الرئيس بوتين ونظيره المصري.
الموقف الروسي المتعنت حينها رفض كل الجهود التي بذلتها الدبلوماسية المصرية لإثناء موسكو عن قرارها على الرغم من سماح القاهرة للجانب الروسي بالمشاركة في عملية التحقيق في الحادث، والتوصل إلى أنه عمل إرهابي في المقام الأول، كذا ما أبدته السلطات المصرية من استعداد تام لتقبل الضمانات الروسية التي من شأنها عودة الرحلات مرة أخرى، خاصة بعد الهزة الاقتصادية العنيفة التي تعرضت لها مصر جراء الموقف الروسي وما تبعه من مواقف أخرى داعمة له كما فعلت الخطوط الجوية البريطانية والتي علقت هي الأخرى رحلاتها لشرم الشيخ بسيناء.
نقلة نوعية في الموقف الروسي عكستها زيارة رئيس مجلس الاتحاد الروسي للقاهرة، وما تخللها من لقاءات وتصريحات، لا سيما فيما يتعلق بمسألة استئناف الرحلات الجوية للقاهرة مرة أخرى
وبعد ما يقرب من ثلاث زيارات لوفود روسية، أمنية وسياسية، لبحث المسائل المتعلقة بتأمين المطارات في ظل مرونة مصرية غير مسبوقة، عرقلت موسكو استئناف رحلاتها مرة أخرى، وظل الوضع على ما هو عليه طيلة 17 شهرًا تقريبًا، جهود دبلوماسية مصرية يقابلها رفض وتعنت روسي.
وفي تطور مفاجئ، وبعد أن دخلت مسألة عودة الرحلات الروسية ثلاجة المفاوضات العقيمة، جاءت زيارة ماتفيينكو لتضخ الأمل من جديد في احتمالية استئناف تلك الرحلات مرة أخرى، مما دفع البعض للتساؤل عن أسباب هذا التحول المفاجئ في الموقف الروسي.
السيسي وبوتين داخل برج القاهرة
لماذا الآن؟
تباين التوجهات والمواقف الدولية حيال القضايا المختلفة يتحدد وفق قبلة المصالح التي تفرضها المستجدات والأحداث المتلاحقة، ومن ثم لا يمكن تفسير تغير الموقف الروسي من القاهرة بمعزل عن التطورات الإقليمية والدولية، لا سيما فيما يتعلق بسير الأحدث في الأزمة السورية من جانب، وتوجهات الرئيس الأمريكي الجديد دونالد ترامب حيال منطقة الشرق الأوسط من جانب آخر.
أولاً: تطورات المشهد السوري
تعاني الأزمة السورية خلال الآونة الأخيرة من حالة من غياب التوازن وضبابية المشهد، فبعد أن كانت المواجهة بين نظام الأسد المدعوم روسيًا وإيرانيًا والمعارضة المدعومة تركيًا وخليجيًا، إذ بقواعد اللعبة تتغير بصورة ملحوظة خلال الشهرين الماضيين على وجه الخصوص، لا سيما منذ قدوم ترامب إلى البيت الأبيض.
محاولات ترامب الدخول مجددًا إلى الملعب السوري عبر مقترح المناطق الآمنة على الرغم من التحفظ الروسي والرفض الإيراني له، ساهم بشكل كبير في تغير قواعد اللعبة، خاصة بعد التأييد التركي السعودي للمقترح الأمريكي، مlا ساهم بشكل كبير في إحداث حالة من التوازن في كفتي الصراع داخل سوريا، مlا دفع موسكو إلى البحث عن حلفاء جدد ربما يساهموا بشكل أو بآخر في ترجيح كفة تحالفها في مواجهة التحالفات الأخرى، خاصة أن الأزمة تخطو نحو مراحلها الأخيرة، ومن هنا كان التفكير في مصر لما لها من ثقل إقليمي ودور مؤثر خليجيًا حتى وإن تراجع مؤخرًا.
محاولات ترامب الدخول مجددًا إلى الملعب السوري عبر مقترح المناطق الآمنة على الرغم من التحفظ الروسي والرفض الإيراني له، ساهم بشكل كبير في تغير قواعد اللعبة
ثانيًا: توجهات ترامب الإقليمية
تغير خطاب ترامب تجاه روسيا والذي تمثل في حزمة من التصريحات والمواقف المتعلقة بالتدخل الروسي في شرق أوروبا وأزمة أوكرانيا، فضلاً عن تجاهل النفوذ الروسي سوريًا، إضافة إلى التنسيق مع بعض دول الخليج على حساب حلفاء موسكو في المنطقة وفي مقدمتهم إيران، كان له أثر قوي في إعادة روسيا النظر في خارطة تحالفاتها في المنطقة.
حالة من القلق ساورت موسكو بعد محاولات ترامب إحياء الدور الأمريكي شرق أوسطيًا، عبر إعادة رسم خارطة التحالفات من جديد، فتارة يقترب من السعودية بعد هجومه السابق عليها، يليها تركيا، وتارة يسعى للاقتراب من القاهرة والحديث عن زيارة مرتقبة للرئيس المصري لواشنطن للتباحث بشأن الملفات الساخنة في المنطقة، كل هذا دفع موسكو إلى بذل المزيد من الجهود للحفاظ على حلفائها الإقليميين وتحسين العلاقات معهم مرة أخرى، وفي مقدمتهم مصر، لكن يبقى السؤال: لماذا تسعى موسكو أن يكون اتفاقها لاستئناف رحلاتها للقاهرة سريًا؟
التقارب السعودي الأمريكي بات مصدر قلق لموسكو
سرية الاتفاق.. ماذا تعني؟
كان طلب رئيسة مجلس الاتحاد الروسي بشأن سرية البروتوكول الموقع بين القاهرة وموسكو تمهيدًا لاستئناف الرحلات الروسية لمصر مثيرًا للانتباه والشك في آن واحد، فما الداعي أن يكون غير معلن؟ وما البنود التي من الممكن أن يتضمنها هذا البروتوكول وتستوجب السرية؟ كل هذه الأسئلة فرضت نفسها وبقوة في أذهان المصريين وتبحث عن إجابة خاصة وتعيد للأذهان الشروط المجحفة التي طالما عزفت عليها روسيا لإعادة الرحلات والتي قوبلت بحملة من النقد والرفض من قطاعات عدة من المصريين.
جدير بالذكر أن الشروط الروسية السابقة لاستئناف الرحلات تمحورت في بناء صالات خاصة للسياح الروس والطائرات الروسية في مطارات مصر المختلفة، وتخصيص عدد من المخارج الخاصة فقط بالسياح الروس في المطارات المصرية، فضلاً عن مطالب التشديد الأمني غير المسبوق، إضافة إلى اشتراك خبراء أمن روس في عملية تأمين المطارات، والكشف الدوري الروسي على وسائل وسبل التأمين المصري على المطارات.
طلب موسكو بشأن سرية البروتوكول الموقع مع القاهرة تمهيدًا لاستئناف الرحلات الروسية لمصر مثيرًا للانتباه والشك في آن واحد، فما الداعي أن يكون غير معلن؟
وقد استقبلت القاهرة أكثر من مرة خبراء روس قاموا بالتفتيش على مطارات القاهرة والغردقة وشرم الشيخ، وتابعوا الحالة الأمنية بصورة وصفها البعض بـ”المستفزة”، حيث قدمت لهم السلطات المصرية حزمة من التنازلات لم تقدمها لأي دولة في العالم، ومع ذلك رفضت موسكو حينها التراجع عن موقفها.
سرية الاتفاق تدعو للقلق خاصة فيما يتعلق بفرض المزيد من الشروط والمطالب من أجل تأمين السائحين الروس والتي قد تمس السيادة العامة للدولة وتنضح في استقلاليتها، وهو ما يمثل رضوخًا واضحًا لإملاءات موسكو مما قد يتسبب في غضب شعبي، فضلاً عما يمكن أن يثيره هذا الاتفاق من دفع العديد من الدول الأخرى التي قد تتعرض لنفس الحادث لطلب ذات الشروط بنفس المواصفات، كفرنسا وبريطانيا وأمريكا، مما قد يحول مصر ومنافذها الجوية إلى ساحة مستباحة للجميع بحجة الحفاظ على تأمين رعاياهم وسائحيهم، ومع ذلك ستجيب الأيام القادمة على السؤال الذي ما زال قائمًا: هل بالفعل هناك جدية من روسيا هذه المرة لاستئناف رحلاتها للقاهرة أم أنها مناورة جديدة؟