وقّعت الولايات المتحدة الأمريكية على هامش قمة الـ 20 التي عقدت في نيودلهي في 9-10 أيلول/ سبتمبر 2023، مذكرة تفاهم لإنشاء ممر اقتصادي يربط الهند بالشرق الأوسط وأوروبا، وذلك مع كل من المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة والهند وفرنسا وألمانيا وإيطاليا والاتحاد الأوروبي، ويشمل هذا الممر بناء خطوط للسكك الحديدية وأنابيب لنقل الطاقة وكابلات لنقل البيانات.
كما يعدّ هذا المشروع، والذي وصفه الرئيس الأمريكي جو بايدن بالتاريخي، في نظر الكثير من المحللين بمنزلة ردّ أمريكي على مشروع “الحزام والطريق” الذي طرحته الصين عام 2013، والذي يُنظر إليه في الغرب على أنه مشروع جيوسياسي بغطاء اقتصادي-تنموي، يهدف إلى مدّ نفوذ الصين عبر آسيا وأفريقيا وأوروبا، ويهدف المشروع الأمريكي أيضًا إلى تثبيت منطقة الشرق الأوسط كمنطقة نفوذ أمريكية في مقابل محاولات الصين اختراقها، وكذلك دمج “إسرائيل” في المنطقة العربية.
نبحث في هذا التقرير، أبعاد صراع المشاريع العالمية، وأثره على المنافسة الأمريكية-الصينية في خضمّ ما يُطلق عليه “الحرب الباردة الجديدة” من ناحية، ومن ناحية أخرى انعكاس هذا الصراع على العالم العربي ومسألة التطبيع العربي-الإسرائيلي، التي تدفع لها وتحرص عليها الولايات المتحدة بقوة.
الحزام والطريق: وسيلة الصين للتحول إلى قوة عالمية
منذ أن أطلق الرئيس الصيني، شي جين بينغ، خلال زيارته إلى كازاخستان عام 2013 مبادرته “البناء المشترك للحزام الاقتصادي لطريق الحرير وطريق الحرير البحري للقرن الـ 21″، المعروفة اختصارًا باسم “الحزام والطريق”، باتت تشكّل المحرك الأساسي للسياسة الصينية داخليًّا والدبلوماسية الصينية خارجيًّا، وأُدرجت رسميًّا عام 2014 ضمن خطة أعمال الحكومة.
ويهدف طريق الحرير الجديد هذا إلى إحياء وتطوير طريق الحرير التاريخي من خلال مد أنابيب للغاز الطبيعي والنفط، وتشييد شبكات من الطرق وسكك الحديد، ومدّ خطوط للطاقة الكهربائية والإنترنت، ويتكون طريق الحرير الجديد من طريق بري وآخر بحري، فضلًا عن الطريق الرقمي وخطوط أنابيب النفط والغاز الطبيعي.
وترتكز المبادئ الحاكمة لتطبيق المبادرة على التنسيق السياسي بين الدول، وتعزيز التواصل والحوار والتجارة دون عوائق، لتهيئة الظروف اللازمة للتنمية الاقتصادية، وتتضمن المبادرة نحو 1000 مشروع ستنفَّذ تدريجيًّا، تسعى إلى ربط دول آسيا وأفريقيا وأوروبا عبر شبكة مواصلات معقّدة من الجسور والطرقات والسكك الحديدية والطائرات والبواخر، وكذلك بناء موانئ ومطارات وإنشاء مناطق تجارة حرة، إلى جانب أنابيب النفط والغاز وخطوط الطاقة الكهربائية وشبكات الإنترنت والبنية التحتية.
وقد لاقت المبادرة تجاوبًا ومشاركة نشطة من نحو 70 دولة مطلة على هذا الخط، بما فيها دول عربية وشرق أوسطية، ويغطي نطاق المبادرة نحو 70 دولة في القارات الثلاث آسيا وأفريقيا وأوروبا، وينقسم إلى 3 مستويات:
– المناطق المركزية: تضم كلًّا من الصين وروسيا ودول آسيا الوسطى الخمس.
– المناطق المحاذية: تشمل الدول الأعضاء الدائمة والمراقبة في منظمة تعاون شنغهاي والدول التسع للاتحاد الاقتصادي (الهند وباكستان وإيران وأفغانستان ومنغوليا وروسيا البيضاء وأرمينيا وأوكرانيا ومولدوفا).
– المناطق التشعُّبية: تشمل دول غرب آسيا (الدول العربية) ودول الاتحاد الأوروبي، وتمتد أيضًا إلى اليابان وكوريا الجنوبية وغيرهما من دول شرق آسيا.
كما تشمل المبادرة 6 ممرات اقتصادية أساسية، تشكّل أعصاب شبكة التجارة والنقل والتنمية الإقليمية والدولية القادمة، وهي:
- الجسر القاري الأوراسي الجديد.
- ممر الصين منغوليا روسيا.
- ممر الصين آسيا الوسطى غرب آسيا.
- ممر الصين شبه الجزيرة الهندية.
- ممر الصين باكستان.
- ممر بنغلاديش الصين الهند ميانمار.
ويمكن القول إجمالًا إن الهدف الرئيسي من هذا المشروع هو دعم وتقوية مكانة الصين العالمية، ومساعدتها على إنفاذ خطتها الاقتصادية التي تحمل شعار “صنع في الصين 2025″، والتي تهدف إلى تحويل الصين إلى اقتصاد متقدم ذي قيمة مضافة عالية، مع نقل الشركات ذات التصنيع منخفض التكلفة إلى الدول الأخرى في منطقة جنوب شرق آسيا، وهذا سيسهم على المدى طويل في جعل الاقتصاد الصيني ينمو بوتيرة أسرع من الاقتصاد العالمي، بحيث يصبح الاقتصاد الصيني محرك الاقتصاد العالمي.
مشروع بناء عالم أفضل “B3W” ومحاولة احتواء الصين
لم تفتأ الولايات المتحدة تنظر إلى مشروع “الحزام والطريق” منذ الإعلان عنه على أنه محاولة صينية لتحدي مكانة أمريكا العالمية، والدفع بالنظام الدولي للخروج من شرنقة الأحادية القطبية إلى التعددية والتنوع، وفي هذا الإطار أطلقت الولايات المتحدة، بالإضافة إلى مجموعة متنوعة من المبادرات الأمنية والعسكرية، مشروع “إعادة بناء عالم أفضل (B3W)”.
وأعلن قادة مجموعة الدول الصناعية السبع خلال قمتهم السنوية التي انعقدت فترة 11-13 يونيو/ حزيران 2021، عن إطلاق برنامج استثماري ضخم تحت اسم “إعادة بناء عالم أفضل”، هدفه تطوير البنى التحتية في الدول النامية عبر “بنك البنية التحتية” الذي سيعمل على دعم المشاريع الكبرى في الدول النامية، كبديل لمبادرة “الحزام والطريق” التي أطلقتها الصين.
وتهدف الخطة إلى تقديم بديل ديمقراطي لنفوذ الصين المتنامي على الصعيد الاقتصادي، كما تتضمن شقًّا بيئيًّا لتحفيز النمو الاقتصادي الصديق للبيئة عبر تحفيز الاستثمارات في موارد الطاقة المتجددة والتكنولوجيا النظيفة، وتهدف المبادرة أيضًا إلى تضييق الفجوة التمويلية لاحتياجات البنية التحتية في العالم النامي والمقدَّرة بما يزيد على 40 تريليون دولار، ومواجهة تحديات أخرى مثل ما يتعلق بتغير المناخ والنظم الصحية، وتطوير الحلول الرقمية، وتعزيز المساواة بين الجنسَين، والتعليم، وتقديم بديل للأموال الصينية واستثماراتها في الدول النامية.
ومن المعلوم أن واشنطن توظّف خطة “B3W” كأداة اقتصادية لمنافسة بكين في دعم الدول النامية ومشاريع البنية التحتية، واحتواء التوسع والنفوذ الاقتصادي الصيني، وتقديم بديل للمبادرة الصينية، للحيلولة دون نجاحها في استقطاب الدول النامية لدعم الصين في منافستها مع الولايات المتحدة، وكذلك تعمل واشنطن عبر تلك الخطة على جذب المزيد من الدول لمعسكرها “الديمقراطي”.
كما أنه من المهم فهم أن هذا المشروع الأمريكي يوظَّف ضمن استراتيجية الأمن القومي الأمريكية التي نُشرت في أكتوبر/ تشرين الأول 2022، والتي حددت أن تركيز الإدارة الأمريكية على المدى الطويل سينصبّ على منافسة الصين، والعمل على احتواء الصعود الصيني المتزايد.
ممر الهند-الشرق الأوسط-أوروبا: الحفاظ على الهيمنة الأمريكية
تقوم فكرة المشروع الرئيسية على ربط الهند بأوروبا عبر الشرق الأوسط، بما يخفض التكاليف اللوجستية للنقل بنحو 40%، ويعزز فرص التنمية في المنطقة التي يشملها، ويتكون المشروع من ممرَّين، هما الممر الشرقي ويربط الهند بدول الخليج العربي، والممر الشمالي الذي يربط دول الخليج بأوروبا عبر الأردن و”إسرائيل”.
وقد بشّر بايدن بقدرة المشروع “على رفع مستوى النمو في الجنوب العالمي”، عبر إنشاء خطوط جديدة للسكك الحديدية من الهند على طول الطريق إلى البحر الأبيض المتوسط، مع ممرات للشحن وخطوط أنابيب لنقل الكهرباء والهيدروجين لتحقيق النمو الاقتصادي، وسيشمل هذا المشروع أيضًا كابلًا بحريًّا جديدًا لنقل البيانات وربط موانئ المنطقة.
وقد بدأت الولايات المتحدة منذ يناير/ كانون الثاني 2023 بإجراء محادثات مع الهند والسعودية والإمارات و”إسرائيل”، حيث وضعت إدارة بايدن رؤية لتطوير ممرات اقتصادية، من خلال طرح استراتيجية للاستثمار عبر قطاعات متعددة في البلدان المشار إليها، للاستفادة من “التأثيرات الأوسع لتعزيز التنمية الاقتصادية وتأمين سلاسل التوريد العالمي وتعزيز التواصل الإقليمي”.
وهكذا جاء الإعلان عن المشروع في ذلك الوقت، خصوصًا مع اقتراب انعقاد المنتدى الثالث لمبادرة “الحزام والطريق”، واستمرار الجهود التي تبذلها واشنطن لتطبيع العلاقات بين “إسرائيل” والدول العربية خصوصًا السعودية، لتبرز مجموعة من الدلالات، أهمها:
- هذا المشروع هو جزء من المخطط الرئيسي “B3W”، والرامي إلى منافسة المشروع الصيني “الحزام والطريق” واستبداله.
- استكمال عملية التطبيع بين “إسرائيل” والدول العربية، فبعد توقيع “اتفاقية إبراهام” بين “إسرائيل” وكل من الإمارات والبحرين والمغرب والسودان، انصرف التركيز الأمريكي خلال عام 2023 إلى محاولة تطبيع العلاقات بين السعودية و”إسرائيل”. ويبدو أن هذه الخطوة قد آتت أكلها، إذ قال ولي العهد السعودي محمد بن سلمان في مقابلة مع شبكة “فوكس نيوز” الأمريكية، يوم 21 سبتمبر/ أيلول 2023، في السعودية: “نقترب كل يوم أكثر فأكثر” من تطبيع العلاقات مع “إسرائيل”.
- يعتبر هذا المشروع جزءًا من سلسلة مبادرات واتفاقيات أخرى في المنطقة العربية، هدفها الرئيسي هو دمج “إسرائيل” في المنطقة العربية والنظام الإقليمي العربي، ولعل أبرز هذه المبادرات هي مجموعة I2U2 التي ضمّت، إلى جانب الولايات المتحدة، الهند و”إسرائيل” والإمارات؛ و”اتفاقية إبراهام” التي أطلقت في سبتمبر/ أيلول 2020 عملية تطبيع العلاقات بين الإمارات والبحرين (ثم لحقهما المغرب والسودان) من جهة و”إسرائيل” من جهة أخرى.
- عزل إيران من خلال تعزيز العلاقات بين الهند ودول الخليج و”إسرائيل”، فمن خلال إنشاء تحالف اقتصادي بين هذه الأطراف، ترمي الولايات المتحدة إلى قطع الطريق على أي محاولات إيرانية للتقارب مع الهند، بما في ذلك إبعاد الأخيرة عن الاستثمار في ميناء تشابهار الإيراني على بحر العرب، والذي يمثل محورًا رئيسيًّا في مشروع إيران الطامح إلى إنشاء ممر جنوب-شمال بين الهند وأوروبا. والواقع أن ممر الهند-الشرق الأوسط-أوروبا يعني عمليًّا القضاء على فكرة المشروع الإيراني، الذي كانت تطمح من خلاله طهران إلى التحول لنقطة عبور رئيسية على خط التجارة العالمية بين آسيا وأوروبا.
ختامًا، يمكن القول إن هذه المشاريع الكبرى تعدّ مؤشرًا على تزايد الصراع على النفوذ بين الصين والولايات المتحدة، في مجال التكنولوجيا والتجارة والنفوذ الإقليمي والعالمي، وأنها توظَّف وتستخدَم إلى جانب أدوات أخرى عسكرية وسياسية، من قبيل الأحلاف والمبادرات الأمنية الأمريكية (أوكوس – كواد) أو مبادرة الأمن العالمي (GSI) الصينية، في خضمّ ما يطلق عليه الآن “الحرب الباردة الجديدة”.
ومن ناحية أخرى، يشير المشهد الحالي إلى نجاح أكبر للولايات المتحدة في دمج “إسرائيل” باستخدام هذا النوع من المشاريع في المنطقة العربية، وهو ما يتزامن مع تخلي الدول العربية -الذي أضحى معلنًا وواضحًا- عن القضية الفلسطينية، وإدارة ظهرها للشعب الفلسطيني ومعاناته مع جرائم الاحتلال المتصاعدة يومًا بعد يوم في الضفة الغربية والمدن الفلسطينية.