من المؤكد أن مدينة تدمر عروس البادية السورية، لن تكون الأخيرة التي يفقدها تنظيم الدولة الإسلامية، بعد تضييق الخناق عليه داخل المناطق التي يسيطر عليها في العراق وسوريا، جراء الحملة الدولية التي تقودها الولايات المتحدة وروسيا للقضاء عليه.
“دولة الخلافة آيلة للسقوط والزوال”، هكذا يرى محللون وباحثون متخصصون في الجماعات الإسلامية، بينما يعتقد آخرون، أن تنظيم الدولة سيستعيد عافيته إذا ما نجح في كسر أكبر حملة عسكرية في تاريخ العراق الحديث، على الجانب الأيمن من مدينة الموصل، والصمود في تلعفر لأطول فترة ممكنة، خاصة مع تواصل الاستنزاف للقوات المهاجمة.
لكن السؤال المطروح اليوم، ماذا بعد سقوط “دولة الخلافة”، أمن أم خوف أم خطر قادم من الصحراء والسماء والحدود والبحار؟ هذه الأسئلة المطروحة ليست فلسفية أو ضربًا من الخيال، بل واقع تعكف مراكز دراسة الظاهرة الجهادية والخطر الإرهابي وأجهزة الاستخبارات العربية والغربية على دراستها وتحليلها ووضع السيناريوهات الأنسب للتصدي لها.
الحديث عن الظاهرة الجهادية اليوم لم يعد يقتصر على تحليل سير المعارك ومناطق النفوذ وخطوط الاشتباك، فتنظيم الدولة قلب كل المعطيات وأعاد خلط الأوراق ولخبطتها نتيجة تلاقي تجارب جهادية في أوقات وأماكن مختلفة في تجربة واحدة، حتى إن العالم بأسره أصبح في حالة استنفار قصوى خوفًا من وصول الذئاب المبرمجة والمدمجة إلى داخل عمق القارات الخمسة.
خطر جهاديي ما بعد الموصل والرقة يداهم الجميع دون استثناء، ويكاد مفعوله التدميري يتجاوز قنبلة هيروشيما النووية، خاصة مع وصول درجة الاحتقان إلى حد غير مسبوق في العالم بأسره
خطر جهاديي ما بعد الموصل والرقة يداهم الجميع دون استثناء، ويكاد مفعوله التدميري يتجاوز قنبلة هيروشيما النووية، خاصة مع وصول درجة الاحتقان إلى حد غير مسبوق في العالم بأسره، فما من دولة محصنة من اختراق الذئاب المبرمجة أو نظيرتها المنفردة، وما من دولة قادرة على الصمود اقتصاديًا أو سياسيًا بعد كل هجوم جديد يستهدفها، حتى إن العاصمة الفرنسية باريس التي اهتزت على وقع هجمات متزامنة ضربت أسطورة الأمن الفرنسي في مقتل، بعد سقوط 129 قتيلاً و352 جريحًا، شهدت تراجعًا في إيرادات قطاع السياحة بأكثر من 1.5 مليار يورو، نتيجة بضعة مهاجمين عادوا أدراجهم من سوريا.
فرنسا التي عززت أمنها وأخرجت جيشها من ثكناته لتأمين المنشآت الحيوية من الخطر الإرهابي القائم، ومددت حالة الطوارئ لأشهر طويلة، لم تسلم رغم كل هذه التحصينات من هجوم دموي ثان، استهدف مدينة نيس هذه المرة، بعد أن دهس التونسي محمد بوهلال جمعًا من المدنيين “استجابة لنداءات استهداف رعايا دول التحالف”.
بلجيكا هي الأخرى، لم تسلم من عمليات ذئاب “الدولة” المنفردة، ففي مارس الماضي، شهد مطار المدينة ومحطة القطارات تفجيرات متزامنة راح ضحيتها العشرات من المدنيين بين قتيل وجريح، ليتضح بعد التحقيقات أن أصابع الجهاديين العائدين من سوريا، تقف وراء التنفيذ.
الشاب العشريني نجيم العشرواي الذي شوهد قبيل استهداف مطار بروكسل وهو يرتدي سترة وقميصًا فاتح اللون ونظارات ويعتمر قبعة، يرافق الأخوين خالد وإبراهيم البكراوي بحسب الصورة التي التقطتها كاميرا المراقبة، كان قد سافر إلى سوريا في فبراير 2013، كما كان محل بحث منذ 4 من ديسمبر 2015.
عند التأمل في مختلف العمليات التي نفذها مسلحون مرسلون خصيصًا من قبل تنظيم الدولة أو ذئاب منفردة تأثرت بالدعاية الجهادية، سنجد أن الحرب في سوريا والعراق هي القاسم المشترك بينها، حيث أكد المنفذون لهجمات أورلاندو الأمريكية وباريس الفرنسية وبروكسيل البلجيكية وبرلين الألمانية أن هجماتهم “جاءت استجابة لنداءات استهداف رعايا دول التحالف”.
الدول الغربية اليوم بين خيارين أحلاهما علقم، فإما القضاء على الجهاديين داخل سوريا والعراق وهو ما لا يمكن أن يحدث بسبب صعوبة تحديد أماكن وجودهم وهوياتهم الحقيقية وقائمات محينة بمن بقي حيًا منهم، وإما السماح لهم بالعودة والزج بهم في السجون ومحاكمتهم بقانون الإرهاب، مما قد يساهم في فتح باب “الدعوة” والاستقطاب على مصراعيه، خاصة أن كثيرًا ممن التحق بـ”الدولة” اليوم، هم خريجو سجون كانوا قد تورطوا في قضايا مختلفة، وأعلنوا توبتهم داخل السجون.
الخطر الداهم على الغرب من مواطنيهم الذين يقاتلون في سوريا والعراق جعل الأمن الاجتماعي هشًا، حتى إن انفجار أسطوانة غاز على ربة بيت في دولة أوروبية قد يكون سببًا في خوف وهلع الآلاف بدعوى أنه هجوم إرهابي
إن الخطر الداهم على الغرب من مواطنيهم الذين يقاتلون في سوريا والعراق جعل الأمن الاجتماعي هشًا، حتى إن انفجار أسطوانة غاز على ربة بيت في دولة أوروبية قد يكون سببًا في خوف وهلع الآلاف بدعوى أنه هجوم إرهابي لم تتضح أسبابه والجهات الضالعة ورائه بعد، لذلك فإن ذئاب “الدولة” سيكونون بلا شك قنابل فتاكة في مجتمعات مرتبكة، خاصة إذا ما نجحوا في الرجوع متخفين إلى بلدانهم حيث ستكون الكارثة المحققة، وأما إذا ما فشلوا فسيكونون مشروع انتحاريين يرسلهم التنظيم لتفجير أنفسهم حيثما شاء داخل سوريا والعراق، لا سيما أن الغالبية منهم لا يملكون وثائق شخصية بعد أن أحرقوها أو سلموها كعربون طاعة لـ”دولة الخلافة”.
تنظيم الدولة الإسلامية كان قد توعد في أكثر من مناسبة دول التحالف الدولي بشن حرب لا هوادة فيها عليهم، وقد أنجز بعض ما وعد خلال العامين الأخيرين، لكن الأسوأ حسب اعتقادنا ما زال لم يحدث بعد، خاصة أننا مقبلون على تغيرات دراماتيكية في كل من سوريا والعراق، فالقوات العراقية المنتشية باسترجاع أغلب الموصل، تبدو عاجزة ومنهكة جراء السنين الطويلة من حرب الاستنزاف، وأما الأطراف المتصارعة في سوريا، فيبدو أنها تتجه إلى التصادم طال الزمان أو قصر، ولعل ما يحدث على أسوار منبج، إحدى إرهاصات حرب ساخنة جديدة، أبطالها قوى كبرى كانت تتحارب بالوكالة.