بعدما أنهى لي كوان يو تعليمه الجامعي بقسم القانون في المملكة المتحدة، قرر العودة إلى بلاده التي أنهكها الفقر المدقع والحكومات الفاسدة والبطالة، مفتقرة لأدني متطلبات العيش، فبلاده التي تحتوي على الكثير من الأعراق واللغات والتقاليد المعقّدة في تركيبتها السكانية، لا تمتلك أي موارد طبيعية كي تنهض وتبدأ مسيرتها وتشقّ طريقها، فكان الرهان على هكذا دولة هو راهن خاسر بكل المقاييس.
لكن كان لهذا الرجل رأي آخر، فبدلًا من الاستثمار في الموارد الصناعية التي كانت بلاده تفتقر إليها قرر الاستثمار في البشر منذ اللحظة التي صعد فيها على الكرسي وحكم البلاد، بعدما أنشأ مع بعض من زملائه خريجي المملكة المتحدة حزب العمل الوطني ليبدأ مسيرة جديدة يسلك معها مسارًا مغايرًا تمامًا ليصنع بعدها معجزة سنغافورة.
كانت أولى خطوات لي كوان يو للنهوض ببلاده هي مكافحة الفساد من أعلى الهرم إلى أدناه، وإجراء إصلاح سياسي واسع على مستوى جميع مؤسسات الدولة، وكانت بداية الإصلاح بالتعليم الذي بات منذ ذلك الحين يرضع النسبة الأعلى من ثدي الدولة بعد أن كان الأقل، وخلال مدة قصيرة أحدث هذا العظيم تحولًا هائلًا وغير متوقع لسنغافورة التي بدأت تاريخها الحديث منذ تلك اللحظة، فألقت بتاريخها الكئيب الذي أرهق جسدها النحيل خلفها!
الحال في الصومال أفضل بمراحل إذا ما قارناه ببدايات سنغافورة مع لي كوان يو
ما أحاول أن أشير إليه أن الحال في الصومال أفضل بمراحل إذا ما قارناه ببدايات سنغافورة مع لي كوان يو، فنحن إضافة إلى امتلاكنا الموارد الطبيعية التي كانت تفتقر لها سنغافورة والتي قد تقذف بنا بسهولة نحو الازدهار – إذا ما تم استغلالها بالشكل الجيد – عرقنا واحد وديننا واحد ولغتنا تقريبًا واحدة، إذًا لا سبب واضح للفرقة والاقتتال سوى اللهم الطموح الشخصي لبعض الساسة والنفوذ القبلي المحلي داخل الإطار الإقليمي.
فمن الممكن جدًا أن نستيقظ إذا تنبّهنا لهذه الإطارات الوهمية وتوحدّنا خلف قائد وطني يملك فقط ربع عزيمة لي كوان – إذا بالغنا في التفاؤل – لمكافحة الفساد المستشري في أجهزة الدولة وبدأنا من أعلى هرم الدولة ومنحنا استقلالية وسلطة كاملة للقضاء في اتخاذ ما يراه مناسبًا من أحكام تجاه الفاسدين من الساسة، بدءًا من رئيس الحكومة إلى أصغر موظف في الدولة، الأمر الذي لن يتم إلّا بعد المصادقة على دستور وطني واضح يتجاوز البعد الإقليمي القبلي إلى وطني يشمل الجميع، ينظم العلاقة ما بين الدولة الفيدرالية وأقاليمها، وبين مؤسساتها التنفيذية والتشريعية والقضائية، وبينها وبين مواطنيها.
حينها فقط قد ننهض وتسنح لنا فرصة أن نلمح بالتيلسكوب ركب التقدم والازدهار ونمني النفس اللحاق به بعد أن نمعن في دراسة السنوات الضوئية التي تحول بيننا وبينهم!
انتخب البرلمان الصومالي رئيسًا توافقيًا يحظى بدعم شعبي كبير جدًا وغير مسبوق
في الشهر الماضي انتخب البرلمان الصومالي رئيسًا توافقيًا يحظى بدعم شعبي كبير جدًا وغير مسبوق، الأهداف الرئيسة المطلوبة منه خلال فترته الرئاسية واضحة وضوح الشمس ليس دونها حجاب، أمامه الآن فرصة ذهبية ليسطر اسمه بماء الذهب في صفحات القادة التاريخيين الذي أحدثوا تحولًا استثنائيًا في بلدانهم من أمثال لي كوان وغيرهم، فتاريخنا القصير للأسف ملطخ بأسماء كتبت بالدماء ومحيت بالدماء!
وبدورنا نحن كمواطنين لا نملك سوى الالتفاف حول هذا الرجل والتعاون معه ومع حكومته للخروج من الأزمة التي استمرت لأكثر من عقدين، ومساعدتهم في تعزيز الأمن والسلم الأهلي للمحافظة على النظام العام ولنقف كرجل واحد أمام كل من يحاول زعزعة أمن البلد باسم أي شعارات دينية كانت أو قبلية.
وعين الرضـا عن كل عيــب كليــلةٌ .. ولكن عين السخط تبدي المساويا
الإمام الشافعي