فجأة طالع السعوديون عبر قنوات التلفاز والصحف ووسائل الإعلام المختلفة، إعلانات متتالية خلال الأشهر الثلاث الأخيرة عن حفلات فنية بعضها في جدة وأخرى بالعاصمة الرياض وثالثة بعسير بالجنوب، للعديد من النجوم العرب والخليجيين والسعوديين، بالإضافة لتشكيل ما يسمى بـ”هيئة الترفيه”، وإعلان إنشاء مجمع ملكي للفنون ومدينة إعلامية، مما طرح سؤالاً مهمًا ببال الكثير من السعوديين مفاده، هل نجح المثابرون أو من يطلق عليهم “القلة المصرّة” من محبي الفن في فرض الأمر الواقع على القيادات بالمملكة، التي دائمًا ما تلعب لعبة التوازن بين التيارات الدينية والتيارات الليبرالية بالبلاد، وهل تنجح تلك الخطوة في الانطلاق من الصفر لحالة الفن السعودي، وما رد الفعل المتوقع من هيئة الأمر بالمعروف وشيوخ الوهابية أصحاب عقلية “كل شيء أو لا شيء”؟!
معارضة متوقعة
الرد جاء سريعًا على الجوانب الثقافية لرؤية ولي ولي العهد محمد بن سلمان، ضمن رؤية 2030 والتي تضمنت جانبًا يتعلق بتطوير الثقافة وتوسيع الخدمات الثقافية، لتحسين مستوى معيشة الفرد السعودي، وزيادة مساحة الرفاهية، بالإضافة لإعلان الرئيس التنفيذي للهيئة العامة للترفيه السعودية عمرو المدني، إمكانية فتح دور سينما وإقامة حفلات غنائية هذا العام، فخرج مفتي المملكة ورئيس هيئة كبار العلماء عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ، بتصريح صادم يقول فيه: “الحفلات الغنائية والسينما فساد للأخلاق، ومدمرة للقيم ومدعاة لاختلاط الجنسين”، و”الحفلات الغنائية لا خير فيها، فالترفيه بالأغاني ليل نهار، وفتح صالات السينما في كل الأوقات، هو مدعاة لاختلاط الجنسين، أولاً سيقال تخصيص أماكن للنساء، ثم يصبح الجميع رجالاً ونساءً في منطقة واحدة، فهذا كله مفسد للأخلاق ومدمر للقيم”.
الصدام بين ليبرالية محمد بن سلمان ورجعية شيوخ الوهابية مقبل لا محالة، لكن الأمير الشاب يعول على دعم الشباب وليبراليو المملكة لتوجهاته
جاء هذا التصريح المتوقع من أعلى سطة دينية في البلاد، مع الوضع في الاعتبار أن المملكة تقع في الترتيب السابع عالميًا من حيث الدخول على المواقع الإباحية، وفقًا للبحث الذي أجراه محرك بحث PornMD المتخصص في البحث عن الأفلام الإباحية، مستعينًا خلاله ببعض البيانات من محرك “جوجل” للبحث، مما يعني أن صراعًا محتدمًا يدور داخل أروقة المملكة بين مؤيدي ابن سلمان ومؤيدي المفتي في دوائر الحكم، بل في الأسرة المالكة نفسها بين دعاة الرجعية وتيار ابن سلمان الليبرالي، وسيظهر على السطح قريبًا جدًا.
خطوط الإصلاح الحمراء
وفقًا للمتابعين للشأن السعودي فإن خطوط الإصلاح التي حملتها رؤية 2030، وأعلنها نائب ولي العهد الشاب الأمير محمد بن سلمان، قدمت رؤية ليبرالية للقواعد المتعلقة بالترفيه، مستندة إلى رأي مفاده أنه إذا كان السعوديون ينفقون على السياحة الخارجية أموالاً طائلة بغية الترفيه، فلنوفره لهم بالمملكة، وبالتالي يتم دعم الخطة الاقتصادية للمملكة المعتمدة مستقبلاً على المدخولات غير النفطية.
معنى الخطوة السابقة للأمير الشاب أنه يركب موجة دعم الشباب، وقد يقوم بمخاطرة ويثير سخط المحافظين، لكنه وقتها سيحظى بدعم شباب البلد.
مواجهة محتومة
الأمير الشاب لم يخف استعداده للمواجهة مع شيوخ الوهابية، حينما صرح لمجلة فورين أفيرز الأمريكية بأنه وضع استراتيجية من ثلاثة محاور لتجنب أي رد فعل عنيف من أي محافظين دينيين معارضين لخطته الاقتصادية بشكل عام، ضمن رؤية 2030، ومن ضمنها فكرة هيئة الترفيه والسينما والفنون، وشملت بندًا يؤكد على ضرورة زيادة إنفاق الأسر على الثقافة والترفيه داخل المملكة من 2.9% إلى 6%، وبالتالي يصبح الترفيه أحد مصادر الدخل للدولة.
وأفادت المجلة أن الأمير “جهز” إجراءات عقابية سيتم وضعها في الاعتبار، إذا أقدم أي رجل دين على التحريض على العنف أو ممارسته كرد فعل على الخطة الإصلاحية.
وذكرت المجلة أن الأمير بن سلمان قال إنه يؤمن بأن نسبة قليلة فقط من رجال الدين في المملكة لديهم “جمود فكري”، في حين أن أكثر من نصف رجال الدين يمكن إقناعهم بدعم الإصلاحات التي يسعى لتنفيذها من خلال التواصل والحوار، أما الباقون فهم مترددون أو ليسوا في وضع يسمح لهم بالتسبب في مشكلات.
في منتصف فبراير الماضي استضافت السعودية للمرة الأولى مهرجان “كوميك كون” العالمي المتخصص في فنون الكوميكس والرسوم المتحركة والشخصيات الكرتونية
حوارات الغرف المغلقة
لكن ما يدور بالغرف الداخلية للمملكة الآن هو إمكانية الربط بين تنظيم عمل هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتحجيم دورها – كما يطالب السعوديون منذ فترة – ودور هيئة الترفيه.
هذه الفرضية تدعمها تصورات عدد من المحللين لدور هيئة الترفيه مستقبلاً، وهل سيتماهى هذا الدور مع تصريحات الأمير الشاب، خصوصًا أنه أكد مرارًا أنه من ضمن أولويات المرحلة القادمة تنمية هذه الجوانب (الترفيه والفنون)، إيمانًا من الدولة بأن المواطن لا يستطيع أن يعطي ولا يقدم ما ينتظر منه في المستقبل لمواكبة الرؤية الوطنية 2030 ما لم تهيأ له جميع الإمكانيات، موضحًا أن تلك الإمكانيات ليست بالضرورة أن تكون فقط التعليم والصحة وغيرها، ولكن أيضًا وسائل الترفية بما ينسجم مع مبادئ الدولة وأيضًا طبيعة المجتمع، وبالتالي – ووفق ما بين سطور هذا التصريح – فإن دور السينما باتت قريبة جدًا في السعودية، حيث إن وجودها من متطلبات وضروريات الترفيه.
ملامح التغيير
لكن ما ملامح التغيير بالمجتمع السعودي والتي تثبت فعلاً توجهه نحو اعتماد دور السينما والحفلات الفنية؟
الإجابة جاءت منذ أكثر من ستة أشهر حينما رشحت الجمعية العربية السعودية للثقافة والفنون، وهي منظمة غير حكومية تخضع لإشراف وزارة الثقافة والإعلام، فيلم “بركة يقابل بركة”، للمخرج الشاب محمود صبّاغ، إلى جائزة الأوسكار، ضمن ترشيحات فئة أفضل فيلم أجنبي، وهو ثاني عمل سينمائي يترشح عن المملكة إلى مسابقات الجائزة الأشهر عالميًا، بعد اقتحام المخرجة السعودية هيفاء منصور، ساحات هوليوود بأول فيلم سعودي يصُوّر داخل المملكة، وأول فيلم طويل لمخرجة سعودية، وأول فيلم سعودي يشارك في ترشيحات جوائز الأوسكار عن فئة أفضل فيلم طويل بلغة أجنبية في العام 2014، فيلمها “وجدة” الذي حصل على العديد من الجوائز العالمية.
تيمة التغيير
الفكرة ليست في ترشيح عمل فني سعودي آخر، خصوصًا أنه ليس الأول بالمملكة التي تمنع دور السينما والمسارح والحفلات الفنية، لكن ما يحويه الفيلم هو تيمة التغيير التي اعتمدها الأمير الشاب محمد بن سلمان خطوة خطوة، حيث يناقش الفيلم فكرة تمرد البطل الشاب على عادات مجتمعه البالية، في معالجة تضج بالسخرية وتحمل رفضًا لموروث من التقاليد كتلك الرافضة لأي علاقة بين الرجل والمرأة.
لقطة من فيلم بركة
ويحكي الفيلم عن شاب ينتمي لطبقة متدنية، يصطدم بفتاة تعلوه بكثير في ترتيب الهرم الاجتماعي، ويتسلل الإعجاب بالفتاة إلى قلب الشاب، وسرعان ما يصارحها بذلك، ولكن عاطفته تصطدم بجدار صلب من العادات والتقاليد، يلقاها الشاب في أسرته، ويلقاها أيضًا في نظرة المجتمع إليهما إذا ما استقرا في مكان.
صفعة يوتيوب
ليس هذا فحسب، ففي أول ساعات العام الجديد 2017، اجتاح موقع يوتيوب النافذة الفنية الأولى للشباب بالسعودية، فيديو كليب عن حقوق المرأة السعودية، يدعم هذا الفيديو حق المرأة في المساواة، وتظهر فيه نساء ترتدين عباءات خلال لعب كرة السلة والرقص، لكن بالتأكيد لا يقدن السيارة، بما أن النساء في السعودية لا يُسمح لهن قيادة السيارة.
لقطة من برنامج اتجاهات
الفيديو الذي أخرجه شاب سعودي، يعارض نظام الولاية على المرأة في الدولة، وهي نفس الفكرة التي أثارها هذا الأسبوع برنامج اتجاهات للإعلامية ندين البدير على قناة روتانا خليجية السعودية، والذي ناقش دعوة عدد من الفتيات بإسقاط الولاية عبر هاشتاج حاز نسبة كبيرة من التفضيل وإعادة التغريد على موقع تويتر بالمملكة، بعنوان #سعوديات_يطالبن_بإسقاط_الولاية .
جدل الكوميك كون
وفي منتصف فبراير الماضي استضافت السعودية للمرة الأولى مهرجان “كوميك كون” العالمي المتخصص في فنون الكوميكس والرسوم المتحركة والشخصيات الكرتونية، وهو مهرجان يضم عددًا من الفعاليات الترفيهية، منها الأفلام والألعاب والخيال العلمي والقصص المصورة والرسوم المتحركة والقصص المصورة، ويحضره جمع من الفنانين وهواة الرسم للتعارف وتقديم أعمالهم.
حفلات غنائية
مؤخرًا تداولت العديد من صحف المملكة ومنصات التواصل الاجتماعي أنباء أن الفنانة الكويتية نوال ستحيي حفلاً غنائيًا بمركز الملك فهد الثقافي في الرياض، وبرفقتها الفنانة أصالة أو أحلام، وهو احتفال سيكون الأول في سلسلة حفلات نسائية مزمع إقامتها بالعاصمة، ستجري جدولتها بالتنسيق مع الهيئة العامة للترفيه، قبل أن تسارع الهيئة بنفي هذه الأنباء عبر حسابها الرسمي في موقع التواصل الاجتماعي “تويتر”.
خرج مفتي المملكة ورئيس هيئة كبار العلماء عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ، بتصريح صادم يقول فيه “الحفلات الغنائية والسينما فساد للأخلاق، ومدمرة للقيم ومدعاة لاختلاط الجنسين”
يأتي ذلك بعد أن أدت ضغوط المحافظين لإلغاء حفلتي المطرب “محمد عبده”، اللتين كان من المقرر إقامتهما على مسرح مركز الملك فهد الثقافي في الرياض والصالة الرياضية في مدينة جدة، نهاية العام الماضي 2016، وهي الخطوة التي دعته إلى مخاطبة جمهوره بعد حفلة أقامها في دبي، قائلًا: “إن شاء الله فننا لن يبقى في المنفى طويلًا”، وتحقق له ما أراد في نهاية يناير الماضي بحفل كبير في جده جمعه والفنانين رابح صقر وماجد المهندس، وسط تفاعل كبير من الشباب السعودي، بالصالة المغلقة بمدينة الملك عبد الله الرياضية بجدة.
الخلاصة
الصدام بين ليبرالية محمد بن سلمان ورجعية شيوخ الوهابية مقبل لا محالة، لكن الأمير الشاب يعول على دعم الشباب وليبراليو المملكة لتوجهاته، بالإضافة للمطامع الاقتصادية التي يقدمها للجميع ضمن رؤية 2030، وبرنامج التحول 2020، بعيدًا عن اقتصاد النفط المتداعي، فيما يعول العلماء على ما تبقى لهم من تبجيل وأهمية بين فئات عدة بالمجتمع، لمن إذا ستكون الغلبة في النهاية؟ الإجابة ستكون خلال الأسابيع والأشهر المتبقية من العام الحالي، فإما هوية جديدة للمملكة أو انغماس وانغلاق إلى الأبد.