تُعرف الجمهورية بأنها النظام السياسي الذي تكون فيه السيادة للشعب، وهي ترجمة لـ’République’ / ‘Republic’ المنحوتة من اللغة اللاتينية من كلمتيْ ‘Res’ (شيء، شأن) و’publica’ (عام).
وفي البدء تمثلت فكرة الجمهورية بتصور فلسفي عُبر عنه في “جمهورية أفلاطون” أو “المدينة الفاضلة”، وفي عصر النهضة الأوروبية نمت النزعة باتجاه الجمهورية نتيجة التطورات الفكرية والسياسية والعلمية، وأن أهميتها تكمن في بعث الروح الوطنية، ووضع الصالح العام فوق المصالح الخاصة وتجنب التفرقة والاستعداد للدفاع عن الوطن.
وفي منتصف القرن السابع عشر برزت الجمهورية في بريطانيا مع أوليفر كرومويل عام 1649، التي سميت جمهورية “الصالح العام”، حكمها مؤقتًا مجلس دولة رأسه كرومويل.
وأسهمت الأفكار السياسية المنادية بالسيادة الشعبية والعقد الاجتماعي لدى الكثير من المفكرين أمثال جون لوك وجون ستيوارت ومونتسيكيو وجان جاك روسو، في إعطاء تفسيرات جديدة للعلاقة بين الدولة والشعب وإعطاء مضمون جديد للسلطة، ورأت أن الدولة والسلطة قد قامتا على أساس التعاقد الذي يتم بين الأفراد والحكام، وأن السلطة تستمد شرعيتها من الشعب وبالتالي فهي تحكم باسمه ولمصالحه.
قامت الجمهورية كنظام سياسي مع الثورتين الفرنسية والأمريكية اللتين وضعتا مجموع الشعب في مواجهة القلة المسيطرة والحاكمة
وعمليًا قامت الجمهورية كنظام سياسي مع الثورتين الفرنسية والأمريكية اللتين وضعتا مجموع الشعب في مواجهة القلة المسيطرة والحاكمة، وتميز باستجابته لمجمل التطورات على امتداد القرنين التاسع عشر والعشرين، وذلك لمرونة وتنوع أشكال وأنواع الجمهوريات، فكانت الجمهوريات البرلمانية دون صلاحيات لرئيس الدولة، وجمهوريات برلمانية بصلاحيات لرئيس الدولة مرتبطة بالبرلمان والجمهوريات الرئاسية.
كانت الجمهورية الطرابلسية أول جمهورية في التاريخ العربي الحديث، وتم الاتفاق على إعلانها بمدينة مسلاتة في 16 نوفمبر سنة 1918، لكنها لم تدم لأكثر من سبعة أشهر، وتم اختيار أعضاء مجلس الرئاسة واختيار مجلس شورى الجمهورية، روعي فيه تمثيل جميع القبائل، وتم تعيين مجلس شرعي من أربعة علماء، وبعثَ مجلس الجمهورية ببلاغات يطلب الاعتراف بها إلى السلطات الإيطالية ورؤساء الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا.
وخلال قرابة قرن من الزمن ظهرت 15 جمهورية عربية، إما نتيجة لموجة الاستقلالات المتتابعة التي أملتها نتائج الحربين العالميتين الأولى والثانية، فضلًا عن نضالات وثورات معادية للاستعمار البريطاني والفرنسي والإيطالي، أو نتيجة للانتقال القسري من نظام حكم ملكي إلى نظام حكم جمهوري أملته بواعث ونزعات أيديولوجية تصنف النظم السياسية إلى “رجعية” و”تقدمية”، ونفذه جنرالات أرسوا أسس جمهوريات العسكر التي رفعت شعارات وأهدافًا تقدمية.
لكنها في الممارسة العملية كرست حالات من الشعبوية واستبداد سلطات متغولة ومتسلطة على الدولة والمجتمع، لم تنتج مواطنين يتمتعون بحقوق المواطنة بل “رعايا” ينتمون إلى جماعات “زبائنية” تدين بالولاء لرأس السلطة و معبود الجماهير، وتنعم بفضائل ما سمي بـ”الديمقراطية الشعبية” الناجمة عن تعويم الجهات الوصائية على الشعب وليس حكم النخبة.
وتعمقت أزمات الجمهوريات العربية البنيوية والوظيفية نتيجة للنمو المتسارع لظاهرة التحول نحو تبني نموذج “الجمهورية الملكية” أو “الجمهورية الوراثية” التي ليست شكلاً من أشكال الملكية الدستورية الذي استخدم لوصف حكومات ممالك منها بريطانيا وهولندا والنرويج، ويجوز تسميتها “ملكيات جمهورية”.
وتم استنساخ نموذج “جملوكي” آسيوي المتمثل في “جمهورية كوريا الديمقراطية الشعبية” التي توصف بأنها جمهورية اشتراكية تتبنى نظام الحزب الواحد، إلا أنها تعد ديكتاتورية ووصفت بأنها شمولية وستالينية، يسيطر عليها حزب العمال الكوري بزعامة الرئيس الحالي كيم جونغ أون، ابن الرئيس الراحل كيم جونغ إل وحفيد الرئيس الأسبق كيم إل سونغ الذي وصف بـ”الشخصية المبجلة” و”القائد العزيز” و”الرئيس الخالد” أو “القائد الرحيم” الذي يقدم للكوريين الشماليين ملابسهم وطعامهم وكل مختلف مناحي الحياة كـ”هبة”.
وتتخذ الحكومة الكورية الشمالية نظامًا يسمى الزوتشيه وهي إيديولوجيا تقول بالاعتماد على الذات وعدم الاعتماد على الآخر، قام بتطويرها الرئيس السابق كيم إل سونغ ودعمها بأيديولوجية “عبادة الشخصية”، وأصبحت الزوتشيه إيديولوجية الدولة الرسمية ابتداءً من اعتماد الدستور الجديد عام 1972، وهي سياسة لم تمنع ملايين الأطفال الكوريين الشماليين من المعاناة من سوء التغذية ونقص الوزن وفقر الدم والمجاعة، ومعاناة الاقتصاد من التضخم الناتج عن بعض الإصلاحات الاقتصادية التي طبقت تحت شعار “الجيش أولاً”.
مُصطلح الجملوكية بأنها كلمة هجينية، جديدة، مركبة من كلمتي جمهورية وملكية
وكانت الجمهوريات العربية المُرشحة للتحول إلى جملوكيات هي العراق وسوريا واليمن وليبيا ومصر، وقد عرف الدكتور سعد الدين إبراهيم في مقال بمجلة “المجلة” بعنوان “الجملوكية: إسهام العرب لعلم السياسة في القرن الحادي والعشرين” مُصطلح الجملوكية بأنها كلمة هجينية، جديدة، مركبة من كلمتي جمهورية وملكية، وهما كلمتان معروفتان لأنظمة حُكم، الوراثية منها تكون ملكية، أما المُنتخبة شعبيًا كل عدة سنوات فتكون جمهورية، أما الجملوكية فتتمثل في تحول النظام الجمهوري في الواقع وبالخديعة إلى حُكم ملكي وراثي.
وكان الباعث الرئيس لهذا التحول هول طول فترة بقاء الرئيس في الحكم تجعله يعتقد أنه أصبح مالكًا فعليًا للبلاد، وكأي ملكية خاصة يمكنه ومن حقه أن يورّثها لذريته، ففي كل من سوريا والعراق واليمن وليبيا، ظل رئيس البلاد في السُلطة لمدة طويلة، فكان صدّام حسين في السلطة منذ 1975، وحافظ الأسد منذ 1966، وعلي عبد الله صالح منذ 1977، ومعمر القذافي منذ 1969، ومحمد حسني مبارك منذ 1981.
وجسدت الجملوكيات مفهوم الدولة الوظيفية المعبرة عن مصالح جماعات وظيفية أو جماعة وظيفية معينة تتخذ شكل شبكة عائلية أو قَبَلية مُحكَمة تهيمن بالتدريج على مجموعة من الوظائف دون غيرها من الجماعات، كما أنها ترتبط ارتباطًا وثيقًا بأعضاء النخبة الحاكمة، بعلاقة نفعية.
وقد اندلعت الثورات والاحتجاجات على نحو خاص في الجملوكيات لا الممالك التي انتقل بعضها إلى ملكيات دستورية أو شبه دستورية، كما هو الحال في المغرب والأردن.
يتعرض كل من العراق وسورية واليمن وليبيا، لرزمة انهيارات وأخطار قد تعيد إلى الأذهان أو تستحضر نموذج دول الطوائف في نسخته الأندلسية القديمة أو نسخته اللبنانية الجديدة
ويتعرض كل من العراق وسورية واليمن وليبيا، بعد سنوات عجاف، سادها القتل والتدمير والنهب والتهجير وفقدان السيادة والاستقلالية، لرزمة انهيارات وأخطار قد تعيد إلى الأذهان أو تستحضر نموذج دول الطوائف في نسخته الأندلسية القديمة أو نسخته اللبنانية الجديدة.
ولعل نذر الخطر الكبير القادم تتمثل في تحديث نموذج دول المماليك، لكن المماليك الجدد لن يتمثلوا في المرتزقة والشركات الأمنية الخاصة المحلية والأجنبية فحسب، بل في الميليشيات العشائرية والمناطقية والإقليمية والدينية/ الطائفية العابرة للقوميات التي ستؤسس “جمليشيات” أو كانتونات ميليشياوية مسلحة متقاتلة فيما بينها أو متنافسة ومتعاونة في إطار فيدراليات أو كونفيدراليات مؤقتة، وليس في إطار دولة ديمقراطية يحكمها القانون والتداول السلمي للسلطة وتحتكر القوة لفرض القانون وحماية الوطن، ففي دولة من هذا الطراز تنتفي مبررات ظهور الميليشيات على اختلاف مسمياتها وشعاراتها.