بعد مباحثات ووساطات مكثفة كان آخرها تدخل رئيس مجلس النواب اللبناني نبيه بري، توقف القتال في مخيم عين الحلوة، إنه الصراع المسلح الثاني خلال الصيف، وقد دامت الاشتباكات قرابة الأسبوع، سقط خلالها قتلى وجرحى وشلت معها الحياة في المدينة الجنوبية صيدا.
يتشرد أهل المخيم أكثر من مرة خلال السنة بسبب الاقتتال، فيملأون المساجد المجاورة ومبنى البلدية التابع للمدينة، كأن مصير التهجير متوارث عبر الأجيال، لكن القتال الأخير كان الأكثر وطأة وشدة، إذ استُعمل فيه السلاح الثقيل من قذائف وآر بي جي، ليتحول بذلك المخيم الفلسطيني إلى ساحة حرب، بعد أن ضم لاجئين هجروا قسرًا من بلادهم في قرى الشمال الفلسطيني وحلم العودة يراودهم كل يوم، فما قصة مخيم عين الحلوة؟ وكيف تحولت أزقة ضيقة إلى ساحات حرب واشتباكات ضارية؟
كيف تأسس المخيم؟ ومن هم سكانه؟
يطلق عليه لقب “عاصمة الشتات الفلسطيني“، مخيم مساحته لا تزيد على 2.9 كيلومتر مربع، صغير بمساحته، لكنه كبير بأحداثه وصداه الدولي، شغل الرأي العام اللبناني والإقليمي بسبب الإشكالات التي توالت عليه.
يقع مخيم عين الحلوة على بعد 3 كيلومترات جنوبي شرقي مدينة صيدا، فهو أكبر مخيمات لبنان من حيث السكان والمساحة، يبعد عن الحدود مع فلسطين 67 كيلومترًا، ما يعني أن أقل من 100 كيلومتر تفصل هؤلاء اللاجئين عن قراهم، لكن البعد الجغرافي لم يكن يومًا العائق أمامهم، بل هو احتلال ومخطط فرض نفسه وسيطرته بالقوة.
تأسس عين الحلوة على أرض كانت معسكرًا للجيش البريطاني في الحرب العالمية الثانية من الصليب الأحمر الدولي بين عامي 1948/1949، وقد بدأت وكالة الأونروا التابعة للأمم المتحدة عملياتها في المخيم عام 1952 حين استأجرت الأخيرة الأرض من الدولة اللبنانية لمدة 99 سنة.
تطور المخيم مع مرور السنين من الخيم التي كانت منصوبة إلى بيوت من الباطون والأسمنت والأسقف من حديد الزينكو.
يبلغ عدد الفلسطينيين في المخيم المسجلين في سجلات الأونروا نحو 47.500 ألف لاجئ وفق موقع الأونروا 2019، معظم سكانه اليوم هجروا قسرًا من بلادهم بعد المجازر التي ارتكبتها عصابات الهاغانا الصهيونية بحقهم.
أسس أهل المخيم أحياءهم وأسموها على اسم قراهم التي هجروا منها، وقسّمت أحياء المخيم بحسب تقسيم قراهم، فعلى سبيل المثال لو أن قرية حطين على مقربة من قرية الصفصاف في الشمال الفلسطيني، ستجد أن حي حطين في المخيم على مقربة من حي الصفصاف، وهكذا جميع الأحياء.
ومن أهم أحياء المخيم: حي الطيرة وحي الصحون وحي رأس الأحمر وحي المنشية وحي الصفصاف وحي طيطبا وحي العرب وحي عمقا وحي حطين وحي الطوارئ، وتضم جميعها 13 قرية فلسطينية تتوزع على أقضية عكا والجليل والحولة في الشمال الفلسطيني المحتل.
مخيم عين الحلوة قنبلة جاهزة للانفجار ويفتقر إلى أدنى مقومات العيش، لكنه في الوقت نفسه يحتل مكانةً مميزةً نسبةً للحضور الفلسطيني في لبنان
ومما زاد من كثافة المخيم أنه ضم عبر الزمن جموعًا من المهجرين من مخيم النبطية سنة 1974 ومن مخيمي البداوي ونهر البارد في طرابلس سنة 1983، ومن مخيمات بيروت سنة 1985، نتيجة الأحداث والقتال، ومع هذه الهجرات المتوالية أصبح عين الحلوة يتسم بالكثافة السكانية العالية، والبعض يؤكد أنه اليوم يزيد على 70 ألف نسمة.
لمخيم عين الحلوة أربعة مداخل رئيسية تخضع كلها لإجراءات أمنيّة مشددة من الجيش اللبناني من حيث الدخول والخروج، حيث تصل طوابير السيارات أحيانًا إلى مسافات طويلة نتيجة التدقيق في التفتيش، ما يزيد معاناة الناس.
يمتعض أهل المخيم من الجدار الفاصل بينهم وبين مدينة صيدا، حتى إن البعض يصفه بجدار الفصل العنصري على شاكلة الآخر المبني في الضفة الغربية، لكن الدولة اللبنانية لها حجتها وتبريرها، فقد بني جدار فاصل طويل لدواع أمنية وبإشراف الجيش اللبناني الذي يعتبر المخيم بؤرة رخوة أمنيًا وتضم الكثير من المطلوبين، كذلك لمنْع تسلل مجموعات مسلحة من المخيم وتنفيذ أعمال إرهابية أو استهداف الأمن اللبناني وقطع الطريق الساحلي الجنوبي المجاور للمخيم الذي تعبره قوة “اليونيفيل” باستمرار.
كما يفرض الجيش اللبناني طوقًا أمنيًا قاسيًا حول المخيمات، ويفتش الداخلين والخارجين ويحصر الدخول والخروج بمناطق محددة، ويقيم سواتر ودشم وحواجز في محيط المخيم ويمنع الإعمار، وهناك قيود كذلك على عمل وتحرك وكالة الأونروا الدولية.
الجدار بدوره وبحسب الأحداث الحاصلة لم يخفف من وطأة الصراع الدامي والاشتباكات، لكنه زاد من معاناة الناس واللاجئين القاطنين في المخيم، حيث يعانون من أزمات اقتصادية وإنسانية واجتماعية، فالدولة اللبنانية تمنعهم من العمل والتملك، والتعليم ضعيف، والرعاية الصحية سيئة، والبنية التحتية (ماء وكهرباء وصرف صحي) مهترئة، ولا تتوافر في السكن أي مواصفات صحية أو بيئية، حيث يقل عدد الشوارع ولا توجد ساحات عامة أو أماكن ترفيه أو ممارسة هوايات، وتنتشر الأزقة وتتراجع فرص التعليم والانضمام للجامعات، كما ترتفع معدلات الفقر والبطالة.
يمكن القول إن مخيم عين الحلوة قنبلة جاهزة للانفجار، ويفتقر إلى أدنى مقومات العيش، لكنه في الوقت نفسه يحتل مكانةً مميزةً نسبةً للحضور الفلسطيني في لبنان، فهو في تماس مباشر مع الجوار اللبناني ومع صيدا بشكل خاص اللذين تربطه بهما روابط مجتمعية وكفاحية متينة.
أبرز الحوادث التي جرت فيه
توالت على المخيم أحداث كثيرة، فله باع وتاريخ كبير في القتال والاغتيال واللجوء المتكرر، ناهيك بحصته المحفوظة في الأزمات اللبنانية التي تنعكس عليه بشكل سلبي ومضاعف.
ففي الماضي شهد المخيم أحداثًا كثيرةً أهمها الاجتياح الإسرائيلي للبنان سنة 1982 والمعارك بين الفلسطينيين وأحزاب لبنانية، ثم شهد صراعًا مسلحًا بين جماعة فتح عرفات والمجلس الثوري الذي أسسه أبو نضال.
وفي أعقاب اتفاق الطائف الذي أنهى الحرب في لبنان سنة 1989 تمّ تسليم الأسلحة الثقيلة من داخل المخيم إلى الجيش اللبناني، ويُتَّهم أفراد من المخيم بأعمال تفجير داخل مناطق لبنانية، وبقتل أربعة من القضاة في صيدا سنة 1999، وبإيواء عناصر إرهابية من خارج لبنان، كما شاركت عناصر فلسطينية من المخيم في المعارك بالعراق وسوريا.
وحين توقفت الحرب الأهلية في لبنان سنة 1990، هدأت الأحداث في مخيم عين الحلوة، وعاش مثل باقي المناطق اللبنانية فترة من الهدوء إلى سنة 1997، لكن ما لبثت أن عادت أعمال الاشتباكات والتفجير، فضرب الجيش اللبناني طوقًا على المخيم وظلت الأمور متوترة إلى وقتنا هذا.
في الآونة الأخيرة ازدادت الاشتباكات واتسعت حتى صارت تطال مدينة صيدا التي تنال حصتها من القذائف والقنابل الخارجة من المخيم، وهناك مجموعة من العوامل التي تلعب دورًا أساسيًا في وجود الأزمات والاشتباكات المسلحة، فعين الحلوة من أكبر المخيمات الفلسطينية في لبنان ودول اللجوء، وهذا له علاقة مباشرة بقضية عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى وطنهم وديارهم الأصلية، ومرتبط بمفاوضات التسوية السياسية للقضية الفلسطينية ومصير اللاجئين الفلسطينيين.
يظهر الإعلام اللبناني مخيم عين الحلوة أنه منطقة تعيش خارج القانون ويهاجم الإعلام المخيم ويطالب بتدخل الجيش وإنهائه
ومن الملاحظ أن الأحداث الأمنية في مخيم عين الحلوة انطلقت سنة 1997، بعد هدوء دام سنوات، وذلك بعد مؤتمر مدريد للسلام سنة 1991، واتفاق أوسلو سنة 1993، وتأسيس السلطة الفلسطينية سنة 1994، وبروز توجه دولي وإقليمي لتصفية القضية الفلسطينية وإسقاط حقّ العودة وفرض التوطين في لبنان.
فهناك رغبة دولية وإقليمية على ما يبدو بإشعال المخيم وتصفيته مهما كلف الثمن، ليصبح المخيم مساحة لتصفية الحسابات وصندوقًا لتبادل الرسائل ومكانًا تأوى إليه العناصر المطلوبة، فلا تمض أشهر على المخيم إلا وتقع فيه أحداث دامية من اغتيالات وقتل، ما جعل منه قاعدة ومنطقة يدخل فيها كل من هب ودب، فعاصمة الشتات اليوم مكان مفتوح لكل الأطراف المتحاربة إقليميًا ودوليًا وملهى للمطلوبين والإرهابيين والمتشددين.
تقول الحاجة الفلسطينية أم محمد الذي يعود أصلها إلى قرية حطين إنها فرّت من المخيم نتيجة الأحداث الأخيرة الدامية والاشتباكات، وتؤكد أن هناك وجوهًا جديدةً تراها في المخيم ليست من الفلسطينيين فقط، فهناك شباب من العراق وسوريا واليمن وحتى لبنانيين يقاتلون في المخيم، “ما جعلنا نشعر بعدم الأمان، لكن إلى أين نذهب؟”.
خرجت أغلب عائلتها، وعائلات أخرى تحاول الخروج خوفًا من معركة ضارية منتظرة يبحث فيها المتصارعون عن الحسم، وتشدد الحاجة الفلسطينية على أن الجميع يتقاضى أموالًا بالدولار الأمريكي في بلد يعاني من أزمة دولار، فمن أين لهم هذا؟
يظهر الإعلام اللبناني مخيم عين الحلوة أنه منطقة تعيش خارج القانون ويهاجم الإعلام المخيم ويطالب بتدخل الجيش وإنهائه لأنه أصبح يشكل بحسبهم خطرًا على الدولة اللبنانية وأمن جميع أراضيها.
كيف أصبح ساحة حرب (الفصائل التي تحكم المخيم)؟
هناك عدة أسباب أثرت على المخيم وحولته إلى ساحة حرب، لكن قبل الولوج في تفاصيلها علينا تحليل الموقع الجغرافي للمخيم وأهميته من الناحية المحلية والإقليمية.
بداية يقع المخيم على مقربة من بوابة مدينة صيدا الجنوبية، في محور بين مناطق لبنانية سنية وشيعية ومسيحية، على الشارع الرئيسي المؤدي إلى جنوب لبنان، ترتاده القوات الدولية المنتشرة في لبنان منذ سنة 1978، وعلى مقربة من الاكتشافات البترولية في البحر المتوسط، وبذلك هو محط أنظار ومراقبة عدة أحزاب وفرقاء لبنانيين وإقليميين والجميع يضعه في الحسبان في أي مخطط أو أزمة تمر على لبنان.
يشكل المخيم صورة مصغرة عن الفضاء السياسي الفلسطيني، حيث يضم جميع فصائل منظمة التحرير الفلسطينية والتحالف الوطني والقوى الإسلامية التي تتنافس بشكل دائم على النفوذ والسلطة، الأمر الذي يكلفه أحيانًا صدامات دامية ونزاعات لا متناهية.
توجد حاليًّا في المخيم عدة فصائل فلسطينية مسلحة وهي: التيار الإصلاحي بفتح وجبهة التحرير وحماس والقيادة العامة وعصبة أنصار الله والجبهة الشعبية وعصبة النور المنشقة عن عصبة الأنصار والجهاد الإسلامي وفتح.
بسبب كثرة الاقتتال والذعر المنتشر بين أهل المخيم، شُكلت قوة أمنية مشتركة لإدارة المخيم وعقدت اتفاقات، لكنها لم تمنع الاشتباك ناهيك بالخروقات الحاصلة، فعلى سبيل المثال أطلقت الفصائل الفلسطينية مبادرة موحدة في مارس/آذار 2014 لمنع العنف، وشكلت لجنة أمنية خاصة من 250 عنصرًا.
لكن ذلك لم يَحلْ دون استمرار العنف، فشهد المخيم أعمال تفجير واغتيال وإطلاق نار، ما يعني أن كل الجهود ذهبت أدراج الرياح ولأسباب غير مفهومة، أما سيناريو الاشتباكات فهو واحد بين مجموعات من حركة فتح ومجموعات إسلامية، لم تحسم المعارك لصالح أحد ولم تصل إلى نتيجة مرضية لأي من الطرفين.
وتكثر الصراعات داخل المخيم لعدم وجود مرجعية سياسية وعسكرية فلسطينية واحدة قادرة على فرض الأمن، فهناك حالة من الصراع بين الفصائل الفلسطينية، خاصة بين حركة فتح والمجموعات الإسلامية، وهذا الصراع يعكس التناقض الفكري والسياسي والاجتماعي الحاصل بين الفصائل الذي يصل إلى حد الاشتباك المسلح.
في المقابل هناك إهمال من الجانب اللبناني للوضع الفلسطيني بشكل عام وأوضاع المخيم بشكل خاص مثل تحسين الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، فالدولة اللبنانية تخشى مشاريع التوطين، ولا تريد تحمل المسؤولية الاقتصادية والاجتماعية والإنسانية لجميع اللاجئين.
ناهيك بالمخاوف من صدام عسكري لبناني فلسطيني يعيد الحرب بين الطرفين، وهي فكرة مرفوضة، وتكاليفها البشرية عالية وغير مضمونة، وآثارها ليست بسيطة، حتى إن لبنان ليس مستعدًا لها في الوقت الراهن.
مصير هذا الشتات يتقرر داخل هذا المخيم الذي بات ساحة صراعات ومساحة لحروب الآخرين، ويبقى اللاجئ الفلسطيني الضحية الكبرى
لا توجد حاليًّا حلول جذرية تلوح في الأفق، فالهدوء يكون عادة مؤقت ليخرقه اغتيال فاشتباكات ودمار، والقدرة الفلسطينية على حسم الأوضاع داخليًا في عين الحلوة تكاد تكون معدومة، لأن القضية أعقد بكثير من مجرد خلاف سياسي أو فكري وهي مرتبطة بسيناريوهات إقليمية ودولية.
للأسف فإن بقاء الأزمة يعني استمرار المعاناة الإنسانية، فحيثما حلت المجموعات الفلسطينية، نشب اقتتال دموي في أغلب الحالات، وقد أساء هذا الاقتتال المتكرر للشعب الفلسطيني وللقضية الفلسطينية ووضع الفلسطيني ضد الفلسطيني وخرب الأواصر الاجتماعية واستهلك الوحدة الوطنية الفلسطينية التي يطالب بها الفلسطينيون اليوم في جميع البلدان والمخيمات.
ففي الآونة الأخيرة انصب اهتمام الفصائل على إثبات الوجود، وليس على مواجهة الاحتلال، ومما يزيد الطين بلة أن كل فصيل خاصة في لبنان، عمد إلى السيطرة على زاوية أو زقاق في كل مخيم، ليجعلها منطقة سيادية له.
اليوم العديد من المناطق في المخيمات معروفة تمامًا للفلسطينيين واللبنانيين بأسماء الفصائل التي تسيطر عليها، لهذا، نجد العديد من المخيمات مقسمة إلى مناطق نفوذ ومربعات جاهزة للاقتتال.
لكم أن تتخيلوا مخيمًا لا تصل مساحته إلى 3 كيلومترات مربعة قسم إلى 14 أو 13 قسمًا، كل قسم له فصيل يحكمه، أي أن بعض الفصائل تحكم فقط في بضعة أمتار وهو ما يدعو للسخرية، لكنه الواقع المضحك المبكي.
وتستمر الخلافات والتصفيات بين بعض الأطراف في المخيم، ونذكر هنا بعض الأحياء والفصيل المسيطر عليها، على سبيل المثال، منطقة البركسات تسيطر عليها حركة فتح، وفيها مقر لقيادة الأمن الوطني الفلسطيني، مركز لعصبة الأنصار في حي الصفصاف – الرأس الأحمر، منطقة حي الطوارئ التي يسيطر عليها جند الشام وعصبة الأنصار، وفيها عدد كبير جدًا من المطلوبين للقضاء اللبناني، واللافت أيضًا السيطرة الكبيرة لحركة فتح ولجند الشام، حيث توسع الخلاف بينهما في الآونة الأخيرة ووصل إلى حد الانفجار.
إن مصير هذا الشتات يتقرر داخل هذا المخيم الذي بات ساحة صراعات ومساحة لحروب الآخرين، ويبقى اللاجئ الفلسطيني الضحية الكبرى، حيث تتقاذفه الأحداث والصراعات ويرافقه النزوح واللجوء أينما حل وارتحل، ورغم هذا لسان حاله يقول متى نعود؟!