هؤلاء الذين يأكلهم الموت بسبب مرضهم ولا يجدون طبيبًا يضمد جراحهم ليس فقرًا منهم في المال والأولاد ولكن فقرًا من غيرهم في الآدمية والإنسانية، فهم أجبروا أن يعيشوا في الجب ومن في الجب ليس له حقوق ولا أمل إلا في سيارة تأخذه أو أن تتلطف عليه جدران الجب السميكة بشيء من الحياة، هذا بالضبط ما نعيشه في السجن الآن!
إما أن يخرجنا الله بفضله ومنته وإما أن يمنحنا سجانونا – جدران الجب السميكة – رمق من الحياة! وكيف لجدران أن تمنح الحياة؟!
سأنقل لكم الآن شيئًا من الحقيقة وليست الحقيقة كاملة خشية عليكم
حالة إنسانية تصارع الموت في حلقاته الأخيرة، “مصطفى جمال عوض” طالب لم يتجاوز الـ24 عامًا من عمره بعد، أُلقي به في البئر منذ عامين هو والكثير من رفاقه منسوبًا إليهم بعض الاتهامات التي تنسب للكثير كتعطيل الدستور – المعطل – والتخريب في البلاد – الخربة -، واختراق القانون – المخترق -، مع بعض الإضافات التي قد تزيد من العقوبة في قانونهم المفصل.
أُحيلت قضيته ومن معه إلى المحاكمات العسكرية التي قد تكون أحكامها جاهزة قبل أن يتم التحقيق فيها، فقد سبق لي وحوكمت أمامها وأعرف عنها الكثير، بعد تسعة أشهر من حبسه بدأت حالته الصحية تتدهور، فشحب لونه وشعر بألم شديد في جسده، ثم بدأ الأمر يزداد سوءًا حتى وصل إلى نزيف حاد.
بدأ مصطفى كما يبدأ الكثير من هؤلاء المرضى المسجونين في مثل حالته – وهم كثر – بالذهاب إلى مستشفى السجن التي هي عبارة عن غرفة صغيرة يجلس بها رجل ضخم الجثة غليظ الملامح وله شارب عريض، يدعى التمرجي ولا يوجد طبيب يباشر الحالة.
يدخل عليه شاكيًا مرضه فيجد من البلاهة ما لا يوصف، ويعود المسجون إلى غرفته، وهذا ما فعله مصطفى فلم يكن بدعًا من إخوانه، عاد إلى غرفته لا يعلم سبب ألمه ولا السبب الذي يجعله ينزف الكثير من الدماء، تكرر الأمر ليلاً وقد أُغلقت الأبواب، فقمنا كما المعتاد نحاول إنقاذ هذا الغارق في دمائه، فأخذنا نطرق على الأبواب لننادي هؤلاء كي يأخذوه إلى المستشفى، ظللنا نطرق وننادي لمدة نصف ساعة متتالية، ننادي وهو ينزف حتى جاء ملاك الرحمة وأعطاه ترياق الحياة وهو عبارة عن حقنة سحرية يعطونها لجميع المرضى.
الآن وبعد سنة وثلاثة أشهر من نزيفه الأول لم يتغير الحال، فمن يوم لآخر ينزف مصطفى ويصرخ ليلاً، فننادي فيأتون ويعطونه نفس الحقنة والتي علمنا مؤخرًا أنها لوقف النزيف فقط، كي يقف نباح هؤلاء الذين يقلقونهم من نومهم.
وفي هذه الأيام قدم مصطفى التماسات إلى قاضيه العسكري، فأرسل إلى مأمور سجنه فأخذوه وأجروا له بعض الفحوصات والتحاليل، فكانت الفاجعة، اكتشفنا أن الشاب صاحب الأربعة والعشرين عامًا من عمره مصاب بـ
– تضخم في الكبد وفي مراحل متأخرة.
– تضخم في الطحال.
– ارتجاع على الكلية اليسرى.
– تضخم في جدار المثانة.
– نزيف في البول بنسبة كبيرة.
– سكر.
هذا ما أخبروه به واكتشفته التحاليل ومع ذلك لا يعطونه أدوية لمرضه ولا يسمحون بدخولها من الخارج – إلا القليل -.
وأنا الآن أخلي مسؤوليتي أمام الله وأتقيه على قدر استطاعتي وأقول كلمة الحق أمامكم رغم أنها قد تسبب لي الكثير والكثير من المتاعب، وأصرخ لكن من غيابت الجب، وأنادي بصوت يوسف بعد أن ألقوه في الجب.
الآن وبعد سنة وثلاثة أشهر من نزيفه الأول لم يتغير الحال
أنادي نداء الواجب لا نداء الاستجداء، أناديكم لأقيم عليكم الحجة أمام الله حتى لا تأتون بعد زمن وتقولون إنا كنا غافلين! لا نطلب منكم ما لا تطيقون، إنما نوصيكم أن تتقوا الله ما استطعتم وأن تنشروا مثل هذه الحالات وأن يتحرك كل في مكانه، ومن لم يستطع التحرك فالكلمة حق، انشروها واعلموا بها الناس، لعل كثرة النشر تكون وسيلة لإخراج هؤلاء لتلقي العلاج لا أكثر.
ختامًا أخاف ألا نكون مثل يوسف فهو له من صفات النبوة العفو وحب البشر، أخاف أن نقول لكم إن التثريب عليكم اليوم لا غفر الله لكم ترككم لهؤلاء يأكلهم الموت وأنتم تنظرون.