“عايزين العيش.. عايزين العيش”، “ليه تخلوا الشعب جعان”، “ارحل ارحل يا وزير”، كشفت هذه الشعارات والهتافات التي صدحت بها حناجر المصريين، أمس الثلاثاء، في عدد من المحافظات، تنديدًا بقرار وزير التموين تخفيض الخبز المدعم، عن حالة الاحتقان التي يعاني منها المواطن المصري جراء ما وصلت إليه أحواله المعيشية التي باتت تسير بخطوات مسرعة من السيء إلى الأسوأ.
صرخات المواطنين أمام المخابز وفي الميادين العامة محذرين من الاقتراب من منطقة “الخبز” والتي باتت الملاذ الأخير لهم بعدما أصبح الاقتراب من السلع الأخرى دربًا من دروب الخيال في ظل القفزات الجنونية في أسعارها، يبدوا أنها لم تكن الأخيرة في ظل السياسة الجديدة الذي ينتهجها النظام الحالي تحت مسمى الإصلاح بغية كسب دعم وتأييد المؤسسات المالية العالمية وفي مقدمتها صندوق النقد الدولي لتمرير القروض والمنح كونها العصب الأساسي الذي يعتمد عليها الاقتصاد للخروج من كبوته في ظل غياب استراتيجيات التنمية الذاتية والنهوض الإنتاجي.
قرار مفاجئ واحتجاجات شعبية
استيقظ المصريون أمس على قرار وزاري مفاجئ يحمل رقم 5 لسنة 2017 صادر عن وزير التموين الجديد، الدكتور علي مصيلحي – المعين ضمن التعديل الوزاري الأخير منذ أقل من شهر – بتخفيض المخصصات التي تمكن أصحاب المخابز من صرف الخبز لمن لا يحملون بطاقة التموين الذكية من 3000 رغيف إلى 500 رغيف فقط، وهو ما أثار موجة من الاحتجاجات الواسعة في عدد من المحافظات.
ففي الإسكندرية، تجمع العشرات من المواطنين على شريط السكة الحديد أمام قطار أبو قير، شرقي المدينة، منددين بهذا القرار، فيما قطع آخرون خط ترام الرمل، فضلاً عن عدد من التظاهرات في منطقة المنشية حيث مقر المكتب الرئيسي للتموين.
وفي السياق نفسه خرجت عشرات النساء في تظاهرات تطالب بإقالة الوزير، كما قطعن الطريق الرئيسي للعجمي غرب الإسكندرية، كذلك طريق شارع المعهد الديني بالعصافرة، مطالبين بإلغاء القرار أو توفير كروت ذكية حتى يتمكنوا من صرف حصتهم من الخبز.
تجمع العشرات من المواطنين في الإسكندرية على شريط السكة الحديد أمام قطار أبو قير، شرقي المدينة، منددين بقرار تخفيض حصة الخبز، فيما قطع آخرون خط ترام الرمل
وفي كفر الشيخ تجمهر الأهالي أمام مجلس مدينة دسوق، رافعين بعض الشعارات التي تطالب بتوفير الخبز وإقالة وزير التموين وضرورة إلغاء القرار سالف الذكر، كما قطعوا الطريق الرئيسي بالأحجار وأشعلوا النيران لمنع مرور السيارات تعبيرًا عن رفضهم لتوجهات الحكومة التي تستهدف المواطن الفقير في المقام الأول.
وفي المنيا بصعيد مصر، تجمع عدد من المواطنين أمام ديوان عام المحافظة بشارع كورنيش النيل، مطالبين محافظ المنيا بالتدخل لحل هذه الأزمة التي تهدد الأسر المصرية الفقيرة، محذرين من خطورة مثل هذا القرار الذي يمس المواطن في قوت يومه، رافعين عدد من الشعارات التي تطالب بإسقاط الحكومة وفي مقدمتها وزير التموين.
التموين: سياسة لي الذراع مرفوضة
وفي أول رد فعل لوزارة التموين على احتجاجات المواطنين في عدد من المحافظات المختلفة، أشار مصيلحي أن تخفيض حصة الكارت الذهبي للمخابز من 3000 رغيف إلى 500، هو تصويب لوضع كان خاطئًا، معلنًا عدم تراجع الحكومة عن هذا القرار مهما كانت الضغوط.
مصيلحي في مؤتمره الصحفي الذي عقده مساء أمس قال: “لن يستطيع أحد لي ذراعنا، لن يتم الضغط على الحكومة، وما حدث هو عودة الحق لأصحابه”، مشيرًا إلى أن عدد البطاقات الورقية التي كان يتم بموجبها صرف الخبز عن طريق الكارت الذكي يصل إلى 290 ألف بطاقة فقط على مستوى الجمهورية، يتم العمل على تحويلها إلى ذكية خلال الشهر الحالي”.
من جانبه، حمّل رئيس الشعبة العامة للمخابز باتحاد الغرب التجارية عبد الله غراب، وزارة التموين مسؤولية تفاقم الأزمة، وزيادة معاناة المواطنين، لافتًا إلى أن أصحاب المخابز لم يمتنعوا عن الصرف، لكن ما حدث هو تنفيذ توجيهات الوزير وفقط.
جدير بالذكر أن العديد من علامات استفهام فرضت نفسها عقب إعلان اسم الدكتور علي مصيلحي كوزير للتموين في التعديل الوزاري الجديد خلفًا للواء محمد علي مصيلحي، لا سيما أن الرجل كان من أبرز أسباب معاناة المواطن الفقير طيلة الفترة التي تولى فيها وزارة التضامن والتموين في عهد مبارك في الفترة من ديسمبر 2005 وحتى سقوط النظام في يناير 2011.
مصيلحي: لن يستطيع أحد لي ذراعنا، لن يتم الضغط على الحكومة، وما حدث هو عودة الحق لأصحابه
فقد شهدت فترة ولايته الوزارية اختفاء رغيف العيش، وبات الحصول عليه دربًا من دروب الخيال في ظل طوابير مزدحمة أسفرت عن سقوط ما يقرب من 56 قتيلًا طول فترة وجوده، بجانب غياب أسطوانات الغاز وتسريب الدقيق، خاصة في السنوات الأخيرة في عصر مبارك.
وبالعودة إلى الوراء قليلاً نجد أن علاقة مصيلحي برئيس الوزراء الأسبق أحمد نظيف كانت وراء تعيينه رئيسًا لمصلحة البريد ثم وزيرًا للتموين، ومع ذلك وعلى الرغم مما عاناه المواطن في عهده سابقًا، تم الاستعانة به كوزير للتموين مرة أخرى في حكومة شريف إسماعيل.
يذكر أيضًا أن مصيلحي حين عرض عليه الانضمام للتشكيل الحكومي الجديد طلب وزارة الاستثمار، لكنه فوجئ بتعيينه وزيرًا للتموين، ومع ذلك قبل الوزارة الجديدة في ضوء ما يمتلكه من إمكانيات وسيرة ذاتية في العمل التمويني.
رسالة إنذار
على الرغم من تقليل البعض لقيمة احتجاجات الأمس ضد قرار وزير التموين، فإنه وفي جولة سريعة على بعض المحطات التاريخية نجد أن انتفاضة الشعوب لأجل الخبز ساهمت بشكل كبير في تهديد كيانات أنظمة بأكملها، فضلاً عن كونها في بعض الدول كانت الشرارة الأولى لانطلاق الثورات فيها.
* تونس 1984
في مطلع عام 1984 شهدت تونس موجة من الاحتجاجات العنيفة عقب زيادة سعر الخبز ضمن حزمة من السلع الأساسية التي اتخذت الحكومة التونسية حينها قرارًا بزيادتها بشكل غير مدروس، وهو ما تسبب في خروج مئات التونسيين في مظاهرات حاشدة عرفت وقتها بـ”انتفاضة الخبز”.
انطلقت التظاهرات من مدينة دوز بالجنوب التونسي ثم امتدت لتشمل مدينة قبلي ومدينة سوق الأحد المجاورتين، وقد شهدت مواجهات عنيفة صدامية بين المتظاهرين وقوات الأمن أسفرت عن سقوط عدد من المصابين، مما دفع النظام حينها إلى إعادة النظر في تلك القرارات مرة أخرى.
* مصر 1977
صبيحة الثامن عشر من يناير عام 1977، استيقظ المصريون على احتجاجات وتظاهرات جابت شوارع القاهرة وميادينها، تنديدًا بخطاب نائب رئيس الوزراء للشؤون المالية والاقتصادية – آنذاك – عبد المنعم القيسوني، أمام مجلس الشعب،عندما قدم مشروع الميزانية الجديد عن العام المالي 1977، وأعلن إلغاء الدعم عن بعض السلع الأساسية وفي مقدمتها “الخبز” تحت شعار “ترشيد الأسعار”.
انطلقت التظاهرات من منطقة حلوان، حيث توقفت المصانع وأعلن العمال الإضراب، مطالبين الحكومة بالعودة عن هذا القرار الذي يهدد أمن الوطن واستقراره، لا سيما بعدما وصل الاحتجاج إلى طلاب جامعة عين شمس، وانضم إليهم عدد من العمال والموظفين، واتجهوا إلى مجلس الشعب، فيما عرفت بـ”انتفاضة الخبز”، مما دفع قوات الأمن للتصدي لهم بعد مواجهات بين الطرفين، أسفرت عن تراجع الحكومة عن قرارها.
* فرنسا 1789
من الأسباب الرئيسية لاشتعال الثورة الفرنسية في 1789 كانت ارتفاع أسعار السلع الغذائية الرئيسية وفي مقدمتها الدقيق والخبز، مما أدى إلى زيادة معدلات الجوع والفقر في المجتمع الفرنسي، خاصة في ظل الأزمة التي تعرضت لها المحاصيل الزراعية الفرنسية في هذه الفترة بسبب الكوارث الطبيعية وسوء عمليات النقل والتخزين، وهو ما ساهم في تفاقم الأزمة.
وعلى الفور خرج الفرنسيون إلى الشوارع والميادين يبحثون عن الطعام والشراب، بعدما بات الحصول على القمح أمرًا مستحيلاً، وقد هاجمت الجموع الغفيرة المخازن وقامت بنهبها وسرقتها، ثم توجهت بقوة نحو سجن “الباستيل” الذي كان يراه الفرنسيون رمزًا للطغيان الملكي وظلمه المتفشي، فقاموا باقتحامه وتحطيمه بصورة شبه كاملة وإخراج المساجين المحتجزين بداخله.
انتفاضة الخبز 1977
25 مليون مصري تحت مستوى خط الفقر
البعض ذهب في تفسيره لاحتجاجات أمس أنها لا تخرج عن كونها رد فعل انفعالي حيال قرار وزير التموين، إلا أن الشواهد جميعها تشير إلى أنها تجسيد واضح لحالة الاحتقان التي يعاني منها المواطن المصري طيلة السنوات الماضية، لا سيما بعد القرارات الأخيرة التي اتخذتها الحكومة الحالية وفي مقدمتها تعويم الجنيه، ورفع الدعم عن الوقود وبعض السلع الأساسية.
سياسات الحكومة الرامية إلى كسب تأييد ودعم صندوق النقد الدولي للحصول على القرض المزمع، والذي حصلت القاهرة على الدفعة الأولى منه في يناير الماضي، ألقت بظلالها القاتمة على كاهل المواطن، حيث تسببت في ارتفاع أسعار السلع بقيمة تتراوح بين 50 % إلى 300% في بعض السلع، في ظل ثبات الأجور والمرتبات والدخول دون زيادة خلال السنوات الثلاثة الأخيرة.
فشل النظام في تحقيق المواءمة بين سياسات الإصلاح المزعومة وعدم المساس بالمواطن وحقوقه، كشفها الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، حين أعلن أن ما يقرب من 25 مليون مواطن مصري يعيشون تحت مستوى خط الفقر، وأن منحنى نسب الفقر في مصر يزيد بشكل مقلق من عام لآخر.
اللواء أبو بكر الجندي رئيس الجهاز، أشار في تصريحات سابقة له إلى أن 27.8% من السكان في مصر فقراء ولا يستطيعون الوفاء باحتياجاتهم الأساسية من الغذاء وغير الغذاء، وأن 57% من سكان ريف الوجه القبلي فقراء مقابل 19.7% من ريف الوجه البحري.
الجندي أوضح أن نسبة الفقراء في مصر تزيد في محافظات الصعيد، حيث وصلت في محافظتي سوهاج وأسيوط 66%، تليهما محافظة قنا بنسبة 58%، مضيفًا أن نسبة الفقراء عام 2015 هي الأعلى منذ عام 2000 بنسبة 27.8%، وأن النسبة زادت من 16.7% في عام 1999/ 2000 إلى 21.8% عام 2008/ 2009 ثم 25.2% عام 2011 ثم 26.3% عام 2012/2013 ثم 27.8% عام 2015.
مفارقات تعمق الأزمة
وبضدها تتضح الأشياء، هذه القاعدة التراثية القديمة تجسد الواقع المصري بصورة كبيرة، ففي الوقت الذي تعاني فيه الدولة من أزمات طاحنة، دفعتها إلى الاقتراض والمنح والمساعدات الخارجية ورفع الدعم عن معظم الخدمات والسلع والتوجه نحو ابتزاز المواطنين بحزمة من الضرائب ورفع الرسوم والمطالبة بالتبرع والمساعدة ليل نهار، إذ بنفس الدولة تطالب بزيادة رواتب وزرائها، وبرلمانها يطالب بزيادة بدلات أعضائه، ويشتري لرئيسه – وحده – ثلاث سيارات بمبلغ 18 مليون جنيه (1.2 مليون دولار)، وترفع رواتب الجيش والشرطة والقضاء، وتترك رجال الأعمال العاملين في بلاط الإعلام المؤيد والداعم للنظام دون تحصيل ضرائب وخلافه.
السلطات المصرية استأجرت شركة علاقات عامة تدعى “ويبر شاندويك”، هدفها تعزيز شراكة مصر الاستراتيجية مع الولايات المتحدة، في مقابل 1.2 مليون دولار سنويًا
هذه المفارقة ألقت هي الأخرى بظلالها على المشهد العام برمته، فبات المواطن يعقد بينه وبين نفسه مقارنات ويتساءل: لماذا تمنح بعض الفئات رواتب خيالية ومكافآت شهرية بالملايين، في الوقت الذي رفضت فيه الحكومة زيادة رواتب الموظفين العاديين؟ لماذا لا يخصم من رواتب الإعلاميين التي تتجاوز الملايين سنويًا في الوقت الذي يعزفون فيه ليل نهار على ضرورة تبرع محدودي الدخل على شاكلة “صبح على مصر بجنيه”؟
18مليون جنيه (1.2 مليون دولار) قيمة 3 سيارات لرئيس البرلمان المصري
ومن الظواهر التي فرضت نفسها بشدة الأيام الأخيرة وتكشف عن استراتيجية تعامل النظام الحالي مع المواطنين، ما كشفته وكالة “أسوشيتد برس”، بشأن التعاقد مع شركة علاقات عامة أمريكية من أجل تحسين صورة النظام داخل الولايات المتحدة، منوهة أن قيمة التعاقد تبلغ 1.2 مليون دولار سنويًا.
البيان الذي نشرته الوكالة الأمريكية على موقع وزارة العدل، أشار إلى أن السلطات المصرية استأجرت شركة علاقات عامة تدعى “ويبر شاندويك”، هدفها تعزيز شراكة مصر الاستراتيجية مع الولايات المتحدة، من خلال تسليط الضوء على تطورها الاقتصادي والترويج للدور القيادي الذي تلعبه مصر في إدارة المخاطر الإقليمية، بهدف إحداث مزيد من التقارب بين القاهرة وواشنطن خاصة في ظل ولاية دونالد ترامب الجديدة.
مما دفع البعض إلى القول بأن هناك حالة من القلق تنتاب النظام الحالي، كما جاء على لسان الدكتور حسن نافعة، أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة، والذي قال: إن الأنظمة لا يتم تجميلها من خلال شركات، وإذا استطاعت سيكون الأمر مؤقتًا، والمسألة برمتها إهدار أموال لتحقيق مكاسب مؤقتة.
السؤال الذي يطرح نفسه الآن: إذا كان النظام الحالي حريص على تحسين صورته خارجيًا من خلال استئجار شركة علاقات عامة – بالملايين – للقيام بهذا الدور، فلماذا لا يسعى لتحسين صورته داخليًا أمام شعبه الغارق في مستنقع التردي المعيشي والانتهاك الحقوقي؟
السوشيال ميديا تشتعل
فرضت احتجاجات الأمس نفسها على مواقع التواصل الاجتماعي، حيث تم تدشين هاشتاج تحت عنوان #انتفاضه_التموين تناول بعض الآراء المتباينة حيال قرار وزير التموين وما تبعه من انتفاضة شعبية ضده.
فها هو المرشح الرئاسي الأسبق، المحامي خالد علي، يقول عبر تغريدة له على حسابه الشخصي على “تويتر”: إذا صدر بالفعل فهو قرار مجحف، يفتقد للكياسة والرشد ويجب التراجع عنه فورًا.
عن تخفيض حصة مستحقى التموين
اذا صدر بالفعل فهو قرار مجحف، يفتقد للكياسة والرشد ويجب التراجع عنه فوراً.#انتفاضة_الخبز pic.twitter.com/F9SL0Jo7IV
— Khaled Ali (@Khaledali251) March 7, 2017
بينما استهجن آخر المفارقة بين ما يتعرض له الشعب من إذلال وتجويع وما تتمتع به الدولة من موارد.
انتفاضة الخبز تنتقل من الاسكندرية الى القاهرة وعدة lمحافظات من أجل رغفين
و السيسي يشحن 300 كيلو ذهب من منجم السكري إلى كندا#انتفاضه_التموين
— ✯ ج̶ــوـد ↡ ⒿⓄⓊⒹ ✯ (@Survvive) March 7, 2017
أما الشاعر عبد الرحمن يوسف فغرد داعيًا للتحيز لصالح الفقراء في مواجهة من أسماهم القتلة واللصوص.