أعود إلى أرشيف الدكتور الفقيد محمود عبد الفضيل في جريدة الشروق المصرية، لأجد بين مقالاته: “وداعًا مصطفى نبيل”، “الدكتور محمود الإمام: وداعًا!”، “وداعًا دكتور نبيل علي”، “رضوى عاشور…وداعًا”… نعى كل أصدقائه وزملائه في مقالاته وكتب ما يليق بهم وبما قدموه. وفي يوم الأربعاء الماضي 1 مارس/آذار توفي الدكتور محمود عبد الفضيل (1941 – 2017)، ليكتب زملاؤه وقراءه ومحبيه هذه المرة: “الدكتور محمود عبد الفضيل وداعًا!”.
حياة عبد الفضيل
أحد الاقتصاديين البارزين ليس في مصر فحسب بل على مستوى الوطن العربي، حصل على دكتوراه في الاقتصاد من جامعة السوربون، ترأس قسم الاقتصاد في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية في جامعة القاهرة، وكان قد عين خبيرًا في قسم الاقتصاد التطبيقي بجامعة كامبردج خلال الفترة 1972 – 1975 ومن ثم خبيرًا للتخطيط في الكويت وخبيرًا في البنك الدولي، وترأس مجلس إدارة المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات بالدوحة في الفترة بين 2012 – 2014.
وعلى الرغم من مكانة الرجل العلمية إلا أنه لم يحظى باهتمام كبير على الصعيد العربي، وهو ما انتبه له المفكر العربي عزمي بشارة بأن الإنجازات المهمة والبارزة في البحوث الاقتصادية لم تأخذ حقها من الاهتمام والانتشار كما يليق بها.
رسالة الدكتوراه لمحمود عبد الفضيل كانت عملًا رائدًا في الفكر الاقتصادي كما يشير لذلك أحد رفاقه وهو سمير رضوان في مقال ينعيه به ويتكلم عن مآثره، ويقول أن عبد الفضيل اختار موضوعًا لرسالة الدكتوراه حول “دور الأسعار فى عملية التخطيط الاقتصادى”، وكان هذا غريبًا إذ إن الاعتقاد السائد حينئذ عن التناقض التام بين أسلوب التخطيط (الذى هيمن عليه الأسلوب السوفيتى) وبين الأسعار التى هى محرك السوق فى الاقتصاد الحر، وكانت النتيجة مبهرة مما سهل عليه الالتحاق بجامعة كامبريدج للقيام بأبحاث جديدة.
حافظ عبد الفضيل على دراسة الاقتصاد المصري وتشريحه وتوصيف الحلول له
عاصر عبد الفضيل الفترة الكينزية – إشارة للاقتصادي الإنجليزي المشهور جون ماينارد كينز- والتقى في جامعة كامبريدج بتلامذة كينز وتأثر بأفكاره، مع العلم أن فكره وتوجهاته كانت أقرب إلى الاشتراكية منها إلى الرأسمالية، وغوصه في بحر البحث والنظريات الاقتصادية حرص أن تبقى بوصلته على دراسة الاقتصاد المصري نظريًا وعمليًا.
نشر العديد من الكتب المهمة في المجال الاقتصادي ومن بينها “أساليب تخطيط الأثمان” باللغة الفرنسية في العام 1975 الصادر عن دار النشر الجامعي في باريس، وكتاب “التنمية وتوزيع الدخل والتغيير الاجتماعي في الريف المصري 1952 – 1970” الصادر باللغة الإنجليزية عن دار نشر جامعة كامبريدج.
وتناول أزمات الاقتصادات العربية في مقالات وكتب له، من بينها ” النفط والمشكلات المعاصرة للتنمية العربية الصادر عام 1979 في الكويت، وكتب في العام 2008 إبان الأزمة المالية العالمية التي اندلعت في الولايات المتحدة الأمريكية، “نواقيس الإنذار المبكر” الذين اعتبره مراقبون أنه تنبأ علميًا بثورة يناير في مصر حيث تعرض في كتابه على أزمة الحراك الاجتماعي والسياسي والخصخصة والاستثمار الأجنبي المباشر ومناخ الاستثمار والعمل والفساد السائدة في مصر آنذاك.
وجاء كتابه الآخر في العام 2011 باسم “رأسمالية المحاسيب: دراسة في الاقتصاد الاجتماعي” الذي تكلم فيه عن التفاوت الكبير في الدخول والإنفاق في مصر بين فئتين في المجتمع الأولى شديدة الثراء والأخرى تعاني من العوز الشديد.
صنف عبد الفضيل في كتابه رأسمالية المحاسيب، الأثرياء إلى 4 طبقات ممن يتقاضون في المتوسط ما لا يقل عن 3 مليون جنيه
ويُقصد برأسمالية المحاسيب الذين يكتسبون من وراء فرص تتيحها لهم قرابة أو صداقة في دوائر الحكم، ويرى أن الرأسمالية الجديدة في مصر اعتمدت على الاقتراض من القطاع المصرفي وتسيطر على هياكلها القانونية والتنظيمية الشراكة العائلية وعلى نشاطها الاقتصادي درجة عالية من الاحتكار في السوق المحلية، مما ساعدها في تحقيق أرباح احتكارية خيالية.
وصنف عبد الفضيل في كتابه؛ الأثرياء إلى 4 طبقات ممن يتقاضون في المتوسط ما لا يقل عن 3 مليون جنيه وتعيش في أماكن خاصة وفي نمط معيشي مميز، وحسب ما جاء في الكتاب فإن عدد الأسر الثرية في مصر والتي تنتمي إلى الطبقة العليا يصل إلى 750 ألف أسرة أي نحو 4% من إجمالي الأسر المصرية التي يبلغ عددها 3.17 مليون أسرة. وتوزيع الدخل ما بين أعلى 10% من السكان الذين يحوزون 28% من الدخل القومي وأقل 10% من الذين يعيشون على 4% فقط من الدخل القومي.
رأي عبد الفضيل بالأزمة الاقتصادية في مصر
ويذهب عبد الفضيل كما العديد من الاقتصاديين حول أزمة الاقتصاد المصري، أنها تعود إلى مشكلة هيكلية في بنية الاقتصاد الحقيقي، حيث يرى أن السياسات الاقتصادية المتبعة منذ منتصف سبعينيات القرن الماضي أدت إلى تقليص الطاقة الإنتاجية للاقتصاد المصري في مجالات الصناعة والزراعة.
ويشير في العديد من مقالاته أن جوهر الأزمة الاقتصادية في مصر يعود إلى سوء توزيع الاستثمارات وتركزها في قطاعات ريعية كالعقارات والسياحة والتمويل، بالإضافة لسوء توزيع الدخول.
وفي صدد تعليقه على المشروعات الكبرى التي تم خصخصتها في مصر يشير إلى جملة من المعايير التي يجب الأخذ بها في مقال له “ماذا جرى للمشروعات التي تم خصخصتها؟ومن تلك المعايير: مدى الالتزام بشروط عقد البيع، ومدى التطور الذي حدث لتلك الشركات في مجالات الإنتاج والجودة والتطوير التكنولوجي، والأثر في مجال توظيف أو تسريح العمالة، والأثر الصافي على ميزان المدفوعات من حيث تطوير الصادارت أو الإحلال محل الواردات، ويقول في نهاية المقال عن هذه المعايير: أنه بدونها وبدون عملية جادة للمتابعة يمكن أن تصبح عمليات الخصخصة عبئًا على الاقتصاد والمجتمع وأبعد ما تكون عن تحقيق الصالح العام.
السياسات الاقتصادية المتبعة منذ منتصف سبعينيات القرن الماضي أدت إلى تقليص الطاقة الإنتاجية للاقتصاد المصري في مجالات الصناعة والزراعة
وحول أزمة النقد الأجنبي في البلاد كتب عبد الفضيل في مقال له “حول أزمة الدولار واتساق السياسات الاقتصادية” اتضح من أزمة النقد الأجنبى التى ضربت الاقتصاد المصرى فى الشهور الأخيرة، أن هناك اضطرابًا وعدم اتساق فى السياسات الاقتصادية المعمول بها. فمن الواضح أن كل وزير فى المجموعة الاقتصادية له عقيدته ورؤيته الاقتصادية الخاصة، نظرًا لعدم وجود رؤية موحدة متماسكة.
في النهاية، فقد رحل رجل من ألمع وأهم الاقتصاديين المصريين والعرب بعدما ترك إرثًا معرفيًا ستتذكره الأجيال المقبلة بدون أن تستثمر الحكومات العربية ذلك الرجل وذخره المعرفي في اقتصاداتها بالشكل الذي تخرج من أزماتها وتؤسس لنموذج اقتصادي مزدهر، خير من الاستعانة بالخبرات والكفاءات الأجنبية، أضف أنه لم يحظى الدكتور عبد الفضيل وغيره من الأسماء الاقتصادية البارزة بتغطية إعلامية تليق بمكانتهم العلمية، لذا حُق اليوم لقراءه ومحبيه أن يقولوا بغصة: وداعًا.