ترجمة وتحرير نون بوست
خلال الانتخابات الرئاسية الماضية، قدم دونالد ترامب عرضا سياسيا سخيّا ناشد من خلاله الصين “للتلاعب بعملتها”، متعهدا بأن الإدارة الأمريكية ستعمل على تصحيح الوضع وذلك بعد أن يتولى منصب رئاسة البلاد. أما الآن، وعلى الرغم من إمساك ترامب بزمام الأمور، إلا أنه لا يزال يتبع ممارسات تجارية غير عادلة مع بكين. في المقابل، تجدر الإشارة إلى أن الشروط التي وضعتها الصين لتأطير التبادل التجاري مع الغرب قد تآكلت أسسها خلال السنوات الأخيرة.
وفقا لتقارير “بلومبورغ” الإخبارية، أشار وزير الخزانة الأمريكي، ستيفن نوشين، إلى أن الصين ليست في حاجة إلى التلاعب بقيمة اليوان، مؤكدا على أنه يريد أن يستخدم بدلا من ذلك الاستعراض المنتظم لسوق صرف العملات بهدف إثبات أن أكبر شريك تجاري للولايات المتحدة بصدد “الاحتيال عليهم”.
في ظل دخول إدارة ترامب في شراكة مع بكين في عدة مجالات اقتصادية مثل التبادل التجاري، فإن واشنطن في حاجة لحسن تقدير الوضع الاقتصادي المتذبذب في الصين الذي ستكون له شتى التداعيات السياسية
في حين خفّضت الصين من قيمة اليوان في فترة التسعينات وفي أوائل القرن الواحد والعشرين، أضافت بكين العديد من التعديلات على سياستها المالية لسنة 2005. كما سمحت التغييرات التي طرأت مؤخرا على السياسة الاقتصادية الصينية للعملة باسترجاع قيمتها. ولعل هذا ما دفع المحللين الاقتصاديين إلى الاعتقاد بأن الصين في سعي دؤوب إلى الترفيع من قيمة العملة في الوقت الذي بدأ فيه رأس المال الخاص يغادر البلاد.
في هذا الإطار، أشار الخبير الاقتصادي، راندال فورسيث، في تقرير صدر في مجلة بارونز، في كانون الأول/ ديسمبر، إلى أن الحكومة الصينية تنفق احتياطي الدولة من العملة الأجنبية على “كبح سرعة انخفاض قيمة اليوان، وهو ما يتعارض مع ادعاءات خفض قيمة العملة”. في المقابل، يرى مساندو ترامب أن مبيعات الصين من سندات الخزانة الأمريكية، التي قُدرت قيمتها منذ سنة 2014 بحوالي تريليون دولار، جزءا من مؤامرة دنيئة لرفع أسعار الفائدة وإضعاف اقتصاد الولايات المتحدة.
في الواقع، لا تزال الصين أكبر حامل لسندات الخزانة الأمريكية في العالم، فضلا عن أن المواطنين الصينيين ينفقون الأموال التي يقدمها لهم البنك الصيني لشراء الأصول العقارية والعقارات الأخرى في الولايات المتحدة الأمريكية. وعلى ضوء هذه المعطيات، أورد فورسيث في بحث نشرته وكالة كرول بوند، المتخصصة في تقدير قيمة السندات، في كانون الأول/ ديسمبر قائلا:
“نأمل أن يعيد كبار رجال الأعمال وعمالقة المعاملات المالية المحيطين بالرئيس دونالد ترامب التركيز على السياسة الأمريكية المتبعة مع كبار المستثمرين في الاقتصاد العالمي، وخاصة فيما يخص مفهوم “إعادة تدوير” فائض الميزان التجاري من الدولار. كما ساعد تدفق رأس المال من الصين إلى ازدهار هذا القطاع، في مطلع القرن الحالي، لكنه انتهى بكارثة مالية سنة 2008. أما في الآونة الأخيرة، فقد أدت عودة تدفق رأس المال الصيني إلى تراجع أسعار الأصول العقارية، وهو ما يتطلب من الحكومة اتخاذ التدابير الاحتياطية اللازمة.”
في الكثير من النواحي، يعد قرار الأمين العام للحزب الشيوعي، شي جين بينغ، للسماح للمواطنين الصينيين بالنفاذ إلى الدولار والتبادل الحر لرؤوس الأموال، مسؤولا نوعا ما عن تعزيز الوضع الاقتصادي في الولايات المتحدة وذلك على مستوى أسعار الأصول العقارية. وعلى مر السنوات الخمس الماضية، غادر ما يقارب تريليون دولار الصين، وكان للولايات المتحدة النصيب الأوفر من هذه الأموال التي اتخذت شكل استثمارات مباشرة.
تعد تكلفة اليد العاملة الصينية أقل بأربعة بالمائة فقط من نظيرتها الأمريكية
عموما، إن ما يثير قلق ترامب هو اقتراب اليوم الذي سيغلق فيه شي جين بينغ أبواب تدفق العملة والاستثمار الصيني المباشر في وجه الولايات المتحدة. وبالتالي، فإن مثل هذا النوع من القرارات من شأنه أن يضعف عملية تبادل اليوان ويقطع عملية ضخ الدولارات عبر المستثمرين الصينيين إلى الولايات المتحدة. وبعيدا عن الاتهامات الموجهة للصين فيما يخص التلاعب بالعملة، يكمن السبب الرئيسي وراء قلق ترامب المتزايد في المفهوم الذي تتشاركه معظم الدول الآسيوية، الذي يتمثل في التخفيض من تكلفة اليد العاملة وتدني القيمة المضافة.
وفي كتاب بعنوان “الحروب الصينية القادمة” صدر سنة 2006، لمؤلفه بيتر نافارو، والذي اعتبره ترامب أفضل كتاب عن الصين، صور الكاتب هذه الدولة الآسيوية ككابوس حقيقي للولايات المتحدة. وبناء على هذه المقاربة، أشار الكاتب إلى أن الصين أشبه “بعسر هضم حاد يمزق أحشاء الولايات المتحدة” وذلك بسبب قلة كفاءة وافتقار المسؤولين في الحزب الشيوعي الصيني للنظرة الاستشرافية.
ومن خلال هذه الصورة، يمكن أن يستشف متتبعو هذا الشأن أن الصين لم تكن منافسا اقتصاديا سهلا للولايات المتحدة. ولعل استهانة الحكومة الأمريكية بحجم الصين قد أفضى بها إلى منزلقات لا تحمد عقباها. وفي هذا الصدد، اتهم خريج جامعة هارفارد، الصين “الغشاشة”، بتدمير المصانع الأمريكية والمجتمع والحياة في الولايات المتحدة من خلال إغراق البلاد بمنتجات صينية مدعمة بشكل غير قانوني “لا تطابق مع معايير الجودة والصحة لاحتوائها على مواد سامة مسرطنة”.
وفي حين أن وجهة نظر نافارو لموقف الصين السياسي الحرج لا تخلو من الوجاهة والواقعية، فإن مكانة هذا القطر في التجارة الدولية قد بدأت تتدهور بشكل ملحوظ في العقدين الأخيرين. لكن الصعوبات التي تواجهها الصين لا تعزى فقط إلى الدور الذي لعبته عملية الترفيع في قيمة اليوان بل أيضا إلى التغيير الجذري في ضريبة القيمة المضافة على الاستثمار في الصين.
من جهة أخرى، كانت الصين، في ثمانينات وتسعينيات القرن الماضي، تعتبر من بين الدول المصنعة التي تتمتع بكلفة إنتاج منخفضة جدا مقارنة بالدول المصنعة الأخرى. لكن بحلول سنة 2000، بدأت الصين تخسر مكانتها في المنافسة بسرعة كبيرة لصالح كوريا الجنوبية والفيتنام والمكسيك بسبب ارتفاع الأجور والتضخم المالي الذي كانت تعاني منه في تلك الفترة.
في الوقت الراهن، وفقا لتقارير أوكسفورد إيكونوميكس، تعد تكلفة اليد العاملة الصينية أقل بأربعة بالمائة فقط من نظيرتها الأمريكية. علاوة على ذلك، تراجعت قدرة الصين التنافسية، مقارنة بأدائها في العقدين الأخيرين، بسبب ارتفاع التكاليف المضافة على الاستثمار؛ بما في ذلك الأموال الموجهة لكبار المسؤولين الحكوميين لتسهيل هذه العملية. وفي السياق نفسه، تشير دراسات أخرى إلى أن تكلفة اليد العاملة في الصين تعتبر أعلى بكثير من البرازيل والمكسيك، ناهيك عن دول أمريكا اللاتينية وأوروبا الشرقية.
الحكومة الصينية تنفق احتياطي الدولة من العملة الأجنبية على “كبح سرعة انخفاض قيمة اليوان، وهو ما يتعارض مع ادعاءات خفض قيمة العملة”
وفي هذا السياق، لم تعد عبارة “صُنع في الصين” تحيل إلى رخص البضائع كما كانت في السابق، نظرا لارتفاع أجور اليد العاملة في مختلف مجالات قطاع الصناعة. واستنادا على بيانات شركة “يورومونيتر” الخاصة بأبحاث الأسواق العالمية، فإن “عمال المصانع في الصين قد أصبحوا يتقاضون أجورا مرتفعة أكثر من أي وقت مضى. فقد وصل سعر الساعة الواحدة إلى حدود 3.60 دولار السنة الفارطة، ليشهد نموا بنسبة 64 بالمائة منذ سنة 2011. وهذا يعتبر في حد ذاته أكثر بخمسة أضعاف من معدل أجر الساعة الواحدة في الهند، فضلا عن أنه مرتفع أكثر من ذلك مقارنة بدول كالبرتغال وجنوب إفريقيا”.
ففي مطلع الألفية الثانية، ومقارنة بالولايات المتحدة، كانت تكاليف اليد العاملة الأمريكية ذات أجر مرتفع بحوالي 20 مرة مقارنة باليد العاملة الصينية، وذلك وفقا لما ورد في تقارير وزارة التجارة الأمريكية. أما في الوقت الحالي، فإن نفس المصدر يؤكد أن الأجور في الولايات المتحدة مرتفعة أكثر بأربعة أضعاف فقط من معدل الأجور في الصين. وبالتالي، فإن الفجوة القائمة بين كلا البلدين بدأت تتقلص بسرعة غير مسبوقة بسبب التضخم الذي تعاني منه بكين، على خلاف الولايات المتحدة وبقية القوى الصناعية الأخرى.
في ظل دخول إدارة ترامب في شراكة مع بكين في عدة مجالات اقتصادية مثل التبادل التجاري، فإن واشنطن في حاجة لحسن تقدير الوضع الاقتصادي المتذبذب في الصين الذي ستكون له شتى التداعيات السياسية. والجدير بالذكر، أن ارتفاع تكلفة اليد العاملة وأسعار السلع يقصي الصين من المنافسة العالمية في كل من مجال الاستثمار والانتاج ويجعل دولا كالولايات المتحدة أكثر إغراء من ذي قبل.
في حين خفّضت الصين من قيمة اليوان في فترة التسعينات وفي أوائل القرن الواحد والعشرين، أضافت بكين العديد من التعديلات على سياستها المالية لسنة 2005
كما أنه تبعا للمؤشرات الاقتصادية الحالية، يكفي لمتتبعي الشأن الاقتصادي العالمي أن يلاحظوا النسق الذي تتدفق به الاستثمارات الأجنبية المباشرة من الصين نحو الدول الأوروبية وأمريكا اللاتينية والشمالية، لإدراك حقيقة أن الصين لم تعد بلدا يستقطب الاستثمار وأهم وجهة لرأس المال الأجنبي كما كانت في العقود الثلاثة المنصرمة.
المصدر: ناشيونال إنترست